}

"سجين" بيتر بروك .. تعرية المسرح حتى العظم!

د. صبري حافظ 21 سبتمبر 2018
مسرح "سجين" بيتر بروك .. تعرية المسرح حتى العظم!
مشهد من العرض

 

شاهدت على خشبة (مسرح دورفمان Dorfman Theatre)، أصغر فضاءات المسرح القومي الانكليزي الثلاثة، مسرحية "السجين The Prisoner"، من تأليف وإخراج أبرز أعلام المسرح الانكليزي بيتر بروك Peter Brook، بمشاركة ماري هيلين إيستين Mary-Helene Estienne، مساعدته في العقدين الأخيرين. وهي مسرحية قصيرة نسبيا لا يتجاوز زمن عرضها الساعة والربع بلا انقطاع. توشك أن تكون التقطير المكثف لتصور بيتر بروك النظري عن "المساحة الخالية" والمسرح المتقشف الذي يعتمد على النص والممثل. وهو التصور الذي بدأ تنظيراته المسرحية به على مد مسيرة ثرية متواصلة من البحث والتنظير والتجريب. لأننا عندما ندخل المسرح، وهو أقرب المسارح الثلاثة في المسرح القومي لشكل الحلقة التقليدي التي يجلس المشاهدون على مد أضلاعها الثلاثة، نجد أنفسنا بإزاء مسرح عارٍ تماما، أو بالأحرى مساحة خالية لا نعثر فيها إلا على بعض الأحجار وأغصان أو جذوع الأشجار الجافة. وكأننا عدنا إلى بدء الخليقة، حيث يخبرنا برنامج المسرحية أنها تدور في مكان ما من العالم، يجلس فيه شخص وحيدا أمام سجن. وكأن هذه المساحة الخالية التي يمكن أن تقع على أطراف غابة أو صحراء، هي العالم الذي أضحت الحياة فيه جرداء، أو هي الأرض الخراب الجديدة.

ويخبرنا بيتر بروك في حوار معه، بأن بذرة هذه المسرحية الأولى موجودة في كتابه (خيوط الزمن Threads of Time) عن تجربة مر بها في أفغانستان قبل أكثر من أربعين سنة أثناء بحثه عن جوهر المسرح، عن شخص حُكم عليه بأن يبقى سجينا خارج السجن، وليس في داخله، يتأمل السجن طوال الوقت. وقتها لم يعرف ما هي خلفيته أو تهمته، ولكن الصورة لم تفارقه، فعاد إليها كجوهر لموقف مسرحي في هذا العمل الذي يتحول فيه السجن، حالة السجن الاختياري منها والإجباري على السواء، إلى استعارة للحياة نفسها، أو إلى حالة وجودية لا فكاك منها.

وتبدأ المسرحية بـ"زائر" لا اسم له، يخبرنا بحكاية عاشها في بلاد بعيدة، البيوت فيها ليست بيضاء، وإنما بنيّة من غصون الأشجار. وحيث يرافق الإيماء اللغة ويكملها بطريقة تسم الحدث بالتجريد، وتردنا إلى الحالة البدئية/ الأصلية/ الأولية للبشر. وهذا الزائر هو الممثل الأبيض الوحيد في المسرحية، يجلب الحكاية للعالم "الأبيض" الذي تعرض له، كما كان الحال في زمن الاستعمار. وكأنه يؤطر الحكاية قبل بدئها؛ ويضع المشاهدين مع تفاصيل المشهد المتقشف في عالم بين الحكايات والأساطير. ويخبرنا بأنه زار هذا المكان القفر ليرحب به البعض فيه، ويمنحوه كوبا من الشاي، وليجد فيه سجنا كبيرا. وأمامه شخص جالس لا يبرح رغم كرّ الأيام، ورغم أنه ليس ثمة ما يقيده بالمكان.

وتبدأ تساؤلاته، التي يبدو أنه ينوب فيها عن المشاهدين: من هو؟ ولماذا يجلس هنا أمام السجن؟ هل الأمر اختيار حر؟ أم أنه يقضي عقوبة ما؟ وما هي طبيعة العدالة التي فرضت عليه تلك العقوبة؟ من الذي حكم عليه بها؟ ولماذا يُسمح له بالبقاء أمام السجن؟ هل يكفّر عن خطيئة ما؟ وأما بالنسبة للسجن، ما هي الجرائم التي ارتكبها السجناء؟ وماذا تراهم يظنون بهذا الذي يجلس أمام السجن وحيدا؟ أهو مجنون؟ أم متعصب؟ أهو مجرم، وما هي جريمته؟ أو طبيعة عقوبته؟ وهل يغويه الهرب؟ هذه هي الأسئلة التي تدور في ذهن الزائر، أو بالأحرى في وعي هذا العمل المسرحي الجميل الذي يسعى ببنيته الطقسية الهادئة إلى سبر أغوارها، بصورة يبلور خلالها دراما استعارية لما يعاني منه عالمنا اليوم من ترد وخراب.

ثم يبدأ الحدث بالكشف عن إجابات لتلك التساؤلات، وغيرها من الأسئلة التي تتوالد منها على مد دراما العمل. حيث نعرف أن اسم الرجل "مافوسو"، وأن تهمته هي تلك التهمة البدئية في الدراما الإنسانية منذ (أوديب) وهي قتل الأب Patricide. فهو شاب في مقتبل العمر قتل أباه، لأنه عاد بعد غياب طويل أرسله أبوه فيه للدراسة، ليجده في الفراش مع شقيقته. ولم يكن القتل نتيجة الصدمة، بل لأنه أيضا يشتهي شقيقته "نادية"، التي يعشقها عشقا لا يخلو من مسحة محرمة. تبدو فيه نادية أبعد ما تكون عن صورة ضحية الأب، منذ كانت صبية في الثالثة عشرة، وانتقلت إلى سرير أبيها بعد وفاة أمها. وأقرب ما تكون إلى الصورة البدئية للمرأة، باعتبارها مكمن الغواية. وقد امتدت غوايتها إلى تشجيع أخيها على عشقها أيضا. ويخبرنا العم بأنها لم ترفض معاشرة أبيها لها، بل ربما استعذبتها، واستعذبت معها غواية أخيها أيضا قبل أن يتخلص منه الأب ويرسله إلى المدينة. لكن العمل لا يتيح لها أن تعبر لنا عن خبرتها بكل ذلك، فلم يمنحها صوتا مستقلا ربما أضاف المزيد لفهم الحكاية حتى في تبسيطاتها البدئية تلك.

وقد حكمت القبيلة، التي يمثل حكمتها وسلطتها العم "حزقيال" على "مافوسو" بهذا السجن لمدة عشرين عاما في تلك البقعة المهجورة، يتأمل فيها وحده ما قام به، وعليه أن يرفض أي مساعدة من أي ممن يمرون عليه. ونعرف من خلال الإيماء الحركي أن عقاب القبيلة التقليدي الذي يتم تجسيده بطريقة إيمائية مؤثرة كان بضرب الحربة في ساقيه وفخذيه، ثم تركه ليصبح قعيدا أو حتى يموت في تلك البقعة المهجورة أمام السجن. لكن أخته تجيء لزيارته ومداواة جروحه، حتى يشفى، فيحوله العم للمحاكمة التي تحكم عليه بعقوبة السجن المفتوح تلك. السجن الرمزي الفريد بطقس جلبه إلى هذا الموقع أمام السجن، مع جراب به أساسيات الحياة البسيطة، وتخليق سجن رمزي له من أربع عصي من أغصان الشجر الميتة.

وتجيء أخته نادية لزيارته، ثم تخبره بأنها حامل، فيزداد حنقه عليها ويطردها. ويواصل "مافوسو/ السجين" حياته أمام السجن وحيدا رغم حثّ بعض من يمرون به له على المغادرة أو العودة للقرية. ويجسد لنا العمل مرّ الأيام البطيء بتخفيض تدريجي للإضاءة، ثم عودتها بنفس البطء وكرّ الأيام في عالم تجريدي لا نسمع فيه غير صوت الطبيعة. ثم تجيء أخته، بعدما وضعت، لزيارته وتتوسل إليه أن يعود معها، وأن يكون أبا لابنتها التي تحتاج إلى أب، وأن يعيش معهما تحت سقف واحد، وهو بالطبع الأمر الذي نعرف أنه لطالما اشتهاه، ولكن استئثار الأب بها عقّده، فيرفض. ويدفع هذا الرفض، ومجالدته في تحمل نتائج أفعاله، أخته "نادية" إلى الإحساس بذنبها، والرغبة بالتكفير عنه بالدراسة كي تفيد المجتمع، فتترك ابنتها مع عمها ثم تذهب لدراسة الطب، وسوف تنهي دراستها بنجاح وتعود في نهاية المسرحية لخدمة أبناء قريتها.

ثم يجيء حراس السجن المواجه للحديث معه، عن أنه قد أصبح حديث السجناء، وعن أن سجنه الاختياري لنفسه في تلك البقعة يمثل تحديا للأسس التي تنهض عليها مؤسسة السجن، منذ بانوبتيكون Panopticon بينثام Jeremy Bentham وتنظيرات ميشيل فوكو عن المؤسسة العقابية وحتى اليوم. لأن الأساس أن تُخضع المؤسسة السجناء للمراقبة المستمرة. ووجوده هكذا أمام السجن ينفي جوهر المؤسسة ذاته/ المراقبة المستمرة، وإحكام إغلاق السجن على السجناء. لكنه لا يستجيب لدعوتهم بالمغادرة أيضا، كاشفا عن عجز مؤسسة السجن الرسمية عن التعامل مع من يتجاوزها. وأن إزالة قضبان السجن ترهف وعي السجين به، وتنقل السجن من الخارج إلى الداخل، وتحيله إلى وضع وجودي خالص. بل تحفّزه للبحث في أغوار النفس، ومساءلة الذات للوصول إلى التصالح المرتجى معها.

ولا يترك مافوسو سجنه الاختياري إلا بعد كرّ السنين، عندما يعود العم "حزقيال" ويأخذه معه، فقد أمضى مدة العقوبة، أو بالأحرى مدة ترميم الذات، والخروج منها ككيان جديد. وتنتهي المسرحية، بحرصها على جماليات البنية الدائرية، بعودة الزائر الذي يخبرنا بأنه حينما عاد للمكان، لم يجد السجن ولا السجين. وكأن السجن الفعلي ذا الأسوار، والسجين الحر الاختياري، في تلك الأمثولة التي تتسم ببساطة أحداثها ولغتها، وجهان لعملة واحدة. وما يعزز من طبيعتها الأمثولية المجردة، كأمثولة عن عالمنا كله، أن بروك الذي يواصل مسيرته التجريبية رغم بلوغه الثالثة والتسعين من العمر، حرص على أن يقوم بالعمل ممثلون من أصول مختلفة. فقد تحدر الممثلون الذين قاموا بالعرض من الهند ومالي ورواندا وسيريلانكا وبريطانيا، وإن رسخ عدد منهم مكانته في المسرح الانكليزي.

هكذا يطرح بيتر بروك عمله الجديد في مواجهة ما دعاه في بداية رحلته مع التنظير والتجريب بـ"المسرح المميت" الذي تحول إلى فن للتسلية التافهة، وقتل روح المسرح التحريضية المغيّرة. عمل يستمد عناصره الأساسية من السرد البدئي Archetypal والأسطورة، ويحرص على أن يعري الدراما فيه حتى العظم، وأن يعيد المشهد إلى عناصره الأساسية شديدة التقشف، عارية من أي زخارف، ليس فيها موسيقى، ولا تصدر الأصوات فيها إلا عن الممثلين؛ ويعتمد فيه الإيقاع على الهدوء البطيء الذي يدعو للتأمل والتفكير. وكأنه يقدم النقيض الكامل لبهارج المسرح التجاري التي ملأت فضاء المسرح بالألوان وقعقعات الموسيقى الصاخبة.

إننا أمام مسرح الأمثولة الذي يعتمد على التركيز الشديد، والتأمل الرصين، والمشهد البصري الناصع، والمشاهد الذي يتجاوب مع تلك الروح التأملية في معنى العقوبة والتكفير، وفي القدرة على الصفح عن النفس واستعادة احترام صاحبها لنفسه من جديد. إن العمل يطرح علينا فكرة أن السجن الحقيقي هو الذي يحمله الإنسان في داخله، وليس ذلك الذي يفرض عليه من الخارج، وأن أفكارا مثل العقوبة والذنب والعدالة، وفرض إنسان سلطته على الآخر، تحتاج إلى إعادة نظر جدية، حيث إنه من المستحيل في هذا العالم المختل أن نتحدث عن العدالة بالمعنى الفلسفي الحقيقي لهذا المصطلح.

 

بدأ عرض المسرحية في لندن ليلة الاثنين 17 سبتمبر/ أيلول 2018.

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.