}

جيوفري راش.. جياكوميتي يرسم البورتريه الأخير بسبب الكاميرا

محمد بنعزيز محمد بنعزيز 31 ديسمبر 2019
سينما جيوفري راش.. جياكوميتي يرسم البورتريه الأخير بسبب الكاميرا
جيوفري راش في مهرجان مراكش السينمائي الدولي الـ18(6/12/2019)
يحضر الشاب الأرستقراطي ليرسم له ألبيرتو جياكوميتي لوحة أخيرة في ورشة خربة. يستغرق الأمر ظهيرة فقط، وبعدها يسافر الشاب إلى امرأة تنتظره في مكان بعيد. هذه هي الوضعية البدئية، لكن بعدها يكتشف الشاب أن رسم بورتريه يستغرق زمناً. تشوش البرنامج. وذلك في فيلم "جياكوميتي البورتريه الأخير" 2018 من إخراج ستانلي توسي. فيلم يجعل التشكيل موضوعاً لفيلم سينمائي، من بطولة الممثل الأسترالي جيوفري راش. ومناسبة المقال هي حضور الممثل لمهرجان مراكش الدولي للفيلم بمناسبة تكريم السينما الأسترالية التي يعتبر جيوفري من أشهر الممثلين فيها، وقد برز وتميز وهو يدرب الملك على الخطابة في فيلم "خطاب الملك" 2010 الذي حاز على أربع جوائز أوسكار.
تشوش برنامج الشاب وهو يلاحظ الأمر بضجر. ومع الوقت، يكتشف الشاب أن ما يمكن اعتباره هدر زمن في الفن هو أمر ضروري للفنان ليبحث، وليشتغل على المادة لكي تختمر فيعطيها شكلاً.
جلس الشاب أمام الرسام يتأمله ليستنسخه. يقول له "لديك رأس بدائي"، قبل أن يرسم له بورتريهاً. قرأ جياكوميتي وجه الشاب بعمق، يشرح قوله "من الأمام يبدو صاحب الوجه بدائياً، ومن الجانب يبدو منحلاً". هكذا قام الرسام بقراءة قسمات الوجه وملامحه على أساس أنها مفاتيح الشخصية.
رأس بدائي؟ من المقلق أن يكون للإنسان رأس بدائي في القرن العشرين. فجأة قلق الشاب، لأنه أدرك أن الرسام يريد رسم روحه، لا جلد وجهه، أن يرسم الباطن لا الظاهر.
الأهم في كل هذا هو كيف عكست نظرات الممثل (أداء أرمي هامر) قلق الشخصية ــ البورتريه، وهو متجمد أمام الرسام. أدرك أن رسم بورتريه أمر جدي تماماً. مع الزمن، صار
الشاب أيضاً يراقب الرسام. صارت الرقابة متبادلة.
يبدو أن راش جيوفري قضى وقتاً طويلاً في الورشة، ليتحرك فيها، ويعمل بسلاسة، كأنه جياكوميتي تماماً.  يؤدي الممثل الكبير باقتصاد، ويستثمر خبرة مسرحية ثرية في تقديم أدواره. يؤدي مشاهد الرسام يعمل. الفيلم ليس تخييلياً تماماً. هو سرد سيرة تفرض ميثاقاً، أوتوبيوغرافياً.
يرسم جياكوميتي ويتوقف ليتأمل. يعيد والإعادة ضرورية، من فرط صعوبة وتمنع الفعل الإبداعي يفكر الفنان في الانتحار، ولكنه يؤجل الأمر، لأنه لا يستطيع الانتحار إلا مرة واحدة. ليس لديه وقت ليعيد الانتحار. واضح أن الزمن هو وقود الفن. مع تقدم أحداث الفيلم، انتقل قلق التفكير في الفن من الرسام إلى موضوع، إلى الشاب الذي يرسمه.
الفيلم تفكير عميق في البورتريه، الوجه يخبر عن جسد وتجارب صاحبه. البورتريه هو عصارة الروح. يرسم الفنان البورتريه من ذاكرته، أو من معاينة الموديل الجالس أمامه. يخطط قبل أن يلون مستخدماً ريشة طويلة. يعمل والموديل ينتظر. قبل أن يقف الممثل أمام الكاميرا، وقف الموديل أمام الرسام. لرسم بورتريه فإن زمن الجلوس أمام الرسم أطول كثيراً من زمن الجلوس أمام الكاميرا. للمقارنة، التقط الشاب صورة للبورتريه المرسوم في رمشة عين.
أدرك الشاب أن من لا يخصص ساعات يومياً لفنه لن يجني ثمرة. زمن التأمل ليس وقتاً ميتاً. إنه زمن اختمار الفكرة قبل أن تنجلي. وقد اكتشف الشاب أن السفر الحقيقي هو رفقة فنان.
يكون الفنانون سعداء برفقة بائعات الهوى، لأنهن لا يفرضن عليهم التزامات الحياة الزوجية التي تستنزف زمن الإبداع. بعزوبيته الدائمة، يتفرغ الفنان لوحدته، هناك في ورشته، حيث يصارع المادة ليعطيها شكلاً، يصارع الهيولة ليخلصها من العدم.
وهذا مفيد جداً في باريس التي يعيش فيها الرسام النحات. باريس حيث الجميلات المتحررات، وأساساً المتاحف، لأن الإمبراطور نابليون -  الذي احتل جل أوروبا وقضى على الإقطاع فيها - نهب فنون أوروبا، وخاصة لوحات الإيطاليين والهولنديين، وجمعها في باريس. وهذا يفسر
الكثير من إنجازات الثقافة الفرنسية فنياً.
تقدم لوحات ما قبل القرن 16 شخصيات كثيرة في لوحة واحدة، بعدها بدأت الشخصيات تقل. جل اللوحات أصبحت تقتصر على بورتريه شخصية واحدة. لقد بدأت الفردانية تستولي على المشهد الاجتماعي والفني. لاحقاً، ظهرت وشاعت الكاميرا، وصار رسم البورتريهات بلا معنى في عصر الكاميرا التي تلتقط صورة طبق الأصل، والصورة أكثر توصيلاً للدفء إلى القلوب. لذلك يرسم جاكوميتي البورتريه الأخير. قضت التقنية على رسم البورتريهات، وهذا ما سبق للرسام وليام تورنر أن توقعه حين ذهب عند المصور أول مرة. حينها ركز على الانطباعات (فيلم تورنر 2014 إخراج مايك لي).
 

الرسم والسينما
مهمة الرسام أعقد من مهمة المخرج. لا يملك الرسام الزمن الذي يملكه السينمائي. لا يملك الرسام  24 صورة في الثانية، كما في شاشة السينما، وفي كل صورة – لقطة جزء من الحكاية. قد يقضي الرسام عاماً يرسم صورة واحدة. لذلك عليه انتقاء اللحظة الدالة في الحكاية. الكاميرا هي الأسهل لإنجاز بورتريه، لكن الكاميرا تجمع وتهضم وتعيد إنتاج الفن. لقد قطعت السينما في مئة عام كل الطريق الذي قطعه السرد وباقي الفنون، وخاصة الرسم، الذي بدأ في الكهوف. لذلك تستعيد السينما رسوم الكهوف، وظلال كهف أفلاطون... وقد قدم الفيلم تماثيل جياكوميتي، ومنها تمثال الرجل المشاء كمصران ملتهب منتصب يمشي.
يبدو أن جياكوميتي قد نقل نموذج التمثال من كهف التاميرا الذي نقل منه بابلو بيكاسو أيضاً شكل ثيران لوحاته المختزلة في أقل العناصر الممكنة. وقد تم اكتشاف كهف ألتاميرا سنة

1879، وكانت رسوم الكهف جد مؤثرة في الفن الحديث، لأنها ربطت تطوره بجذور عميقة في نشأة وتشكل الفن.
خلد الإنسان قوة الحيوانات التي عايشها حين صورها على الكهوف. ويتكرر مشهد الثور النطاح في ملحمة جلجامش، وفي الميثولوجيا الإغريقية، وفي رسوم كهف ألتاميرا، وفي لوحات بيكاسو.
لقد شكل العثور على رسوم كهوف التاميرا، ولاسكو، فتحاً في الفن الحديث، رسوم ربطت الفن الحديث بفن ما قبل التاريخ، رسوم خلد فيها الإنسان قوة الحيوانات. وهكذا صار الفنان الحديث يحاور شكلاً قديماً، يحاور المشاء والمينوطور، مع فارق أن ليس بإمكان كل رسام فعل ذلك. يميز بروك بسخرية بين الفنان وغيره، بين الفرشاة في يد بيكاسو والفرشاة المعلقة بذيل حمار (كتاب النقطة المتحولة ص 45).
إن منحوتات المشاء الأعجف الشبح المائل التي نحتها جياكوميتي أكثر شهرة من مشاء أثينا، ومن المشاء في كهف ألتاميرا. في لوحة رافاييل مشاءان، واحد يشير للسماء، والآخر للأرض، آرسطو وأفلاطون في مركز اللوحة يتجادلان حول السماء والأرض...
تتناسق تماثيل المشاء الأعجف الشبح مع تحولات فن بداية القرن العشرين/ بدل البورتريه رسم بيكاسو وسالفادور أقنعة، كما هي وجوه فتيات أفنيون، وقد استخدمت اقنعة دالي من طرف

اللصوص في المسلسل الإسباني "بيت من ورق - La casa de papel".
للإشارة، لقد كان والدا بيكاسو، وجياكوميتي، رسامين، وهذا ما وفر لهما خبرة مبكرة في جماليات الخطوط والأشكال والألوان في الأجساد والأشياء والتصاميم... لذلك تسيطر أعمالهما على خيال المتلقي وتتملكه. كان جياكوميتي يمنع بيكاسو من زيارة ورشته خوفاً من سرقة أفكاره.
يربط فيلم "جياكوميتي البورتريه الأخير" بين الرسم والنحت والسينما، وكل هذه فنون بصرية أساساً. ويشرح أندري بازان في كتابه "ما السينما؟" كيف أثر تطور الرسم الأوروبي منذ دافنتشي على الصورة السينمائية في بعدها الرمزي والواقعي. وباستعراض الأفلام التي تحكي سيرة تشكيليين يظهر كيف تتشابه لوحة سافونا روي، وأفيش فيلم "أندري روبليف" لأندري تاركوفسكي. ويحضر جيتو في فيلم بازوليني "الديكاميرون" 1971، وفي فيلم "نسخة طبق الأصل" لعباس كياروستامي، وهذا عنوان مقتبس من معجم الفن التشكيلي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.