}

المتخيل في فيلم "عزيزة" تعويضًا عن قسوة الواقع

ضاهر عيطة 2 يونيو 2020
سينما المتخيل في فيلم "عزيزة" تعويضًا عن قسوة الواقع
ملصق دعائي متداول لفيلم "عزيزة"

في فيلم "عزيزة"، للمخرجة السورية الشابة سؤدد كعدان، تبدو الكاميرا وكأنها تقدم سردية روائية من عالم المتخيل مسكون بواقع يحيلها إلى كوابيس، حيث تتوالد عن الخطاب السمعي والبصري رموز ودلالات تحيل إلى حكايات آتية من رحم المأساة السورية، فيتصادم المتخيل مع الواقع، لتتعاظم حالة الاغتراب بين زمانين ومكانين، ففي اللقطة الأولى تظهر علياء (كاريس بشار) وهي تقود سيارة "فولكسفاغن" وقد احتلت ملامح وجهها المضطرب، مع قطرات المياه، حيز الكادر، تتبع ذلك لقطة قريبة على وجه أيمن (عبد المنعم عمايري) لتساهم مرآة السيارة بتشويه ملامحه، وعادة ما تسعى اللقطات القريبة للوجوه في السينما إلى خلق حالة حميمية بين الشخصية والمشاهد، غير أن اللقطة جاءت هنا لتضفي حالة من التغريب، بين ملامح هذا الوجه المشوه، والوجه الإنساني الطبيعي، وكأننا إزاء كابوس يصعب إدراك كنهه، ليتضح، عبر سياق أحداث الفيلم، أن الإيحاء بالغرق والتشوه لم يكن إلا تمهيدًا لعوالم الزوجين "أيمن وعلياء" اللاجئين على الأراضي اللبنانية، واستعارتهما للمتخيل تعويضًا عن مرارة وعطب الواقع، فها هي ملاحظات أيمن تضاعف من توتر علياء: "يمين، يسار، انتبهي هنا مطب"، وحديثه عن عزيزة، التي لا نخالها إلا امرأة يتغزل بها أمام زوجته علياء، ما يدفع بالأخيرة إلى أن تأتي على ردات فعل توحي لنا وكأنها تغار من عزيزة التي تقيم وحيدة في لبنان، لكن سرعان ما نكتشف أن عزيزة هذه ليست إلا سيارة الفولكسفاغن القديمة، وقد حلت هنا بديلًا عن البيت الذي تم قصفه في سورية، لنكتشف كذلك أن علياء لم تكن تقود السيارة إلا تمثيلًا، ضمن لعبة المتخيل المتفق عليها بين الزوجين، وحينما تحتج علياء وتطالب أيمن بأنها

تريد أن تقود السيارة فعلًا، وليس تمثيلًا، نظن للحظة، وكأن كسرًا للإيهام قد حدث، لكن سرعان ما تعود علياء للتماهي مع التمثيل، لتقود السيارة مرة ثانية تمثيلًا، مع صوت ليلى مراد "يا حبيبي تعال الحقني..". هنالك ثمة قطعة زينة معلقة في مقدمة غرفة السيارة لا تكف عن الاهتزاز، لتوحي وكأنها تهتز على إيقاع سير السيارة، وصوت ليلى مراد. وبغتة، يسمع صوت شاحنة كبيرة توشك أن تصدم السيارة، ما يدفع أيمن إلى أن يمط جسده من خلال نافذة ليعبر عن رعبه واحتجاجه على سائق الشاحنة، وكأن ثمة شاحنة حقيقية كادت تصدم سيارتهما. تستمر حالة الصخب والتوتر إلى أن تصدم السيارة دراجة نارية، فيصاب أيمن وعلياء بالهلع والرعب، ولكن مع ترجل أيمن من السيارة تتسع اللقطة لنكتشف أن السيارة متوقفة في كاراج، وأنه لا وجود لشارع، ولا لسيارات فيه، وما من حادث اصطدام. وفي هذه اللقطة، يأتي الممثلان على أداء يوحي بأننا أمام مشهدية مسرحية، أكثر مما لو أنها سينمائية، حيث أتيحت للممثل عمايري مساحة لاستخدام اللغة الجسدية في الأداء، وكأنه على خشبة مسرح، لنتورط نحن المشاهدين في الحيز المكاني، ونتحول إلى جمهور نجلس أمام خشبة مسرحية، وقد صار عدد الممثلين هنا ثلاثة، عبد وكاريس والسيارة أيضًا، ليستمر الحديث عن الجثة، وعن كارثة أن يقوم سوري بدهس مواطن لبناني على الأرض اللبنانية، فتنهار علياء، وكذلك أيمن، رغم خلو المشهد من أية حادثة، أو جثة. ولعل تفاعل علياء وأيمن مع هذا الحدث يلمح إلى سطوة فوبيا الرعب والخوف على حياة السوري اللاجئ، إلى حد أنهما يتمنيان لو أن الضحية تكون سورية، وليست لبنانية، وفجأة تخرج علياء من السيارة وتمضي في كوة ينبعث منها الضوء، وتسير في شارع عام، فنعتقد أنها تحررت من لعبة التمثيل، لكنها تصرخ: شو نعمل بالجثة؟ ما يعيد اللعبة التمثيلية، ويشير إلى أن ما يحدث لا يمكن أن يكون إلا من وحي انكسار الواقع والتماهي مع المتخيل، سيما وأن رمزية السيارة هنا كانت بديلًا عن البيت الذي تبدلت معانيه، ولم يعد يوحي إلى الأمان والاستقرار. تستأنف علياء سيرها في طريق عام متهالك، وهي ترتدي ثوبًا شفافًا، فيتوسل إليها أيمن أن

تعود إلى الركوب معه. وحين اعتقدنا أن علياء مضت وحيدة احتجاجًا على رفضها لهذه التمثيلية، تباغته مرة ثانية وهي تنوح وتلوم أيمن لأنه هو من جعلها تقتل سائق الدراجة. وربما كان للأغنية، ولموديل السيارة، وشكل الشارع، وورشات البناء الواقعة على أطرافه، إضافة إلى انعدام الشارات الضوئية، وكذلك فستان علياء، وصوت ليلى مراد، كل ذلك دلل على أن ما حل بالسوريين جعلهم يتخلفون عن غيرهم عشرات السنين. وما إن يوافق أيمن على أن تقود علياء السيارة فعلًا، وما إن تسير قليلًا من الأمتار وسط شارع حقيقي، سرعان ما تتعطل، وتسبب زحمة مرور، فتنفجر أبواق السيارات معبرة عن استياء أصحابها، ما يحيلنا إلى الواقع السوري المتعثر في طرقات الأرض، كحال أحلامه. وهنا تتمنى علياء لو أنها لم تسوق، فيقترح عليها أيمن، مجددًا، أن تعود لتقود تمثيلًا، فتسأله بنبرة حالمة: بالشام؟ أي بالشام. وتبدأ لعبة التمثيل والمتخيل مجددًا، أو لعلها مأساة التذكر، حيث يفترض أيمن أن بيتهم في الشام لم يقصف. ولكن المتخيل يسمح هنا للسيارة بالسير فعلًا، وهي تتقدم إلى الأمام، في حين أن الذاكرة تتوقف عند الماضي، فتشير علياء ضمن لعبة المتخيل إلى الحاجز الذي كان في زاوية ما من الشارع، وقد زال، وأن الطريق بات آمنًا، كذلك يتداخل الماضي مع حلم الأمان لدى أيمن، فيتحدث عن الأصدقاء الذين رحلوا، لكنه سرعان ما يستدرك، متحدثًا عن عودتهم من دول اللجوء، لئلا يفسد لعبة المتخيل، ففي الحلم تغدو سورية بلدًا آمنًا، وقد تخلصت من أوجاعها. وهنا، تخرج علياء عن سياق لعبة الإيهام، لتذكر المشاهد بأن ما يراه هو تمثيل: حلو الفيلم مهيك؟ ترجع نعيدو؟ ويستعيدان الماضي، لكن هنا تعبر السيارة في طريق محاط بكتل إسمنتية، مقترحًا أيمن على علياء أن تمثل أنها تسوق في الشام، في حارتهما تحديدًا، قرب بيتهما الذي لم يقصف بعد، ويتكرر الحديث عن الأمان، وعودة الأصدقاء من دول اللجوء. لكن فجأة يظهر حاجز إسمنتي يقطع عليهما الطريق، غير أن أيمن يقترح على علياء أن يذهبا في نزهة إلى البحر، في حين راحت الكتل الإسمنتية تحاصرهما، لتتناقض الحوارية مع المشهدية على نحو مريب. كذلك يساهم الحاجز الإسمنتي في تعطل جدوى التمثيل والتخيل، فلا يجد أيمن إلا أن يخرج من لعبة المتخيل، باكيًا عاريًا أمام الواقع المرير، فتضمه علياء مواسية، في حين ومن خلال زاوية نافذة السيارة المحصورة بين الكتل الإسمنتية ترصد الكاميرا عبور السيارات بحرية كاملة من الطريق نفسها، وعلى نحو اعتيادي، وكأن علياء وأيمن وحدهما المسجونان في لعنة الزنازين الإسمنتية المشابهة للعنة مصائر السوريين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.