تبدأ مشاهد الفيلم في قبو صغير له نافذة مطلة على الشارع، نافذة صارت عبارة عن شاشة للإطلال على العالم الخارجي من موقع سفلي. تتبع الكاميرا الشخصيات تطارد الواي فاي، تطارد الخادمةُ الطفلَ الذي يتقمص دور هندي أحمر في الفيللا، وفي الحالتين نكتشف الفضاء... يملك الأغنياء فضاءات أكثر مما يحتاجونه ومنها يتسرّب الشر... يتزامن تقدم الشخصيات في المكان واحتلاله مع تقدم الأحداث. هكذا يساعد تنظيم المكان المخرج في السيطرة على الزمن في فيلم "برازيت (طفيلي)" من إخراج بونج جون هو، وهو أول فيلم غير ناطق بالإنكليزية يحصل على أوسكار أفضل فيلم في 2020. وهذا تحوّل في تاريخ السينما التي تروي بالصور وليس بالكلمات.
يتصرف المخرج هنا كمهندس معماري يكشف المكان للمشاهدين - الزوار تدريجيًا. بسبب وحدة المكان، ففي المشاهد جرعة مسرحة، كما في شاشة القبو وشاشة الفيللا حيث يتجلى التناقض بين الفضاءين تدريجيًا.
تعزز اللقطة المشهد وحركة الكاميرا وحدة المكان كما في لحظة وصول الشاب للعمل... يظهر التصميم الهندسي أيضًا في الأوضاع الجسدية للممثلين. الابن عمودي والأب أفقي، مستلق، بينما بيته وأولاده في أزمة. يخرج الابن من الكادر فيتحرك الأب في نفس الاتجاه... بعد أن تركله الأم. تبدو الحركة كموجة ذات اتجاه محدد.
آنية السرد
تبدأ مشاهد الفيلم في قبو صغير، له نافذة على الشارع أنقذت الفيلم من التصوير الداخلي الصّعب والمضجر. بهذه الإطلالة تظهر آنية الفيلم وهو يواجه المرحلة: صارت أول مشكلة في حياة البشر هي الربط بالإنترنت، بعدها يكتشفون مشاكلهم الأخرى. هكذا يصوّر المخرج ما يجري هنا والآن، يهاجم اللحظة، لا يهرب منها إلى الماضي أو الحلم أو الخيال. وهذا يحل كل مشاكل تكاليف الديكور والإكسسوار، لكنه يتطلب نفسا روائيا لرفع سرد حدث عابر إلى مرتبة سرد عميق يلتقط التجربة الإنسانية... هنا تظهر جودة الكتابة، جودة فن الحكي على السيناريست.
يظهر النفس الروائي في دقة انتقاء الوقائع من وجهة نظر تخدم الفيلم... المشكل في علب البيتزا لا في محتواها، المشكل في الإنترنت، ثم محاكاة ساخرة للإعلام الكاريكاتوري لكوريا الشمالية، ومحاكاة طفولية لإبادة الهنود الحمر في أميركا.
هذا سرد مركز لوقائع ذات بعد كوني، تجيب عن أسئلة أفراد في مجتمعات مختلفة. وقائع يمكن تعميم الحكم بها لأنها مستخلصة من التجربة الإنسانية وليست وقائع مغرقة في المحلية والشوفينية.
التشبه بالرواية
"برازيت" فيلم درامي، أي فيه شخصيات تفعل، وهي تفعل شيئًا بشكل مستمر، ومنذ اللقطة الأولى بدون مقدمة طويلة مملة.
يقدّم الفيلم مجموعتين من الشخصيات تجمعهما صلة واضحة، مجموعتان تدخلان في مواجهة شاملة بدأت حين شم الطفل إن للسائق وللخادمة نفس الرائحة... هذا تفصيل صغير سيلعب دورًا كبيرًا في السرد كما حال مسمار أنطوان تشيخوف. يستشهد جيرار جينيت بقول الكاتب الروسي أنه "إذا قيل في بداية أقصوصة أن في الجدار مسمارًا فإن ذلك المسمار هو الذي سيشنق عليه البطل نفسه في النهاية" (1)، وهذا يربط اللاحق في الحكاية بالسابق فيها.
تتكاثف سيولة السرد وتسارعه مع دقة رسم الشخصيات التي تملك خطوطا واضحة، بدءًا من الشاب الذي يخطط لإنقاذ أسرته... تُقدم المعلومات بالتدريج وليس دفعة واحدة... بفضل هذه التفاصيل المؤثرة توفر الفيلم على نفس روائي، قوامه محتوى حيوي، وأسلوب سرد بسيط من السهل الممتنع.
في لقطة الحسم، حصل الغني على مفاتيح السيارة من سائقه، وبدل أن يهرب من أرض الجريمة قام بحركة صغيرة كلفته حياته. حركة تكشف تأفف سكان الأمكنة المُهواة والمضاءة من رائحة سكان القبو... حركة صغيرة كثفت الصراع الطبقي في سد أنف... كان ذلك هو الاكتشاف الأهم في رحلة على ممر طويل ضيق بين فيللا الأغنياء وقبو فقراء "برازيت"...
أثمر هذا الأسلوب في الكتابة وضوح سمات الدور بالنسبة للممثل. حين تكون الشخصية واقعية ومكتوبة بوضوح فإن ذلك يحسّن من أداء الممثل حتى لو كان ممثلا متوسط الموهبة. هناك وضوح في رد الفعل على وجه الممثل الذي يسمع الحوار، يتأثر ويتبدل. كيف ينفصل الممثل عن نفسه؟
حين تتغير حالته الذهنية بتغير الموقف، هذا ما حصل للسائق حين رأى صاحب الفيللا يغلق أنفه.
القص الشفهي.. حبكة شعبية
تتكرر في الأفلام الكورية خطاطة شخص فقير يدخل في مغامرات ويصنع ثروة، يصعد من قبر ويسكن فيللا... أربعة أفراد يجمعهم البؤس والعوز يواجهون واقعهم بصفر وسائل، بالكدية والتطفل كما في مقامات بديع الزمان الهمذاني. هنا تكمن قوة الفيلم، في ربطه واقعة محلية بأفق حكائي كوني. ولهذا التناص سواء كان حكائيا أو تشكيليا دور رهيب في نجاح الأفلام.
يعتمد فيلم "برازيت" حكاية تستخدم قوانين القص الشفهي. مثلا تؤثر التوصية في العلاقات الإنسانية. تجعل الحاجة الناس الأكثر قابلية للتصديق حتى لو كانت التوصية تحمل خدعة. يتسبب الطفيليون في مصائب كثيرة للذين يرحبون بهم. وقد بقي الأب في قبو الفيللا لينفذ خطته لأن أبواب النجاح تفتح من الداخل.
هذا من حيل الحبكة الشعبية.
استلهمت هذه المقاربة لفيلم "برازيت" عرض الناقد الفرنسي المؤسس للنقد السينمائي أندري بازان لخصائص السيناريو في الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية، سينما تتميز بـ:
1- التنظيم والسيطرة على الزمن.
2- التشبه بالرواية.
3- اعتماد حكاية تستخدم قوانين القص الشفهي، حبكة شعبية.
4- الآنية actualité، إذ يواجه السيناريست المرحلة ويطوّعها أسلوبيا ولا يستنسخها.
5- دقة انتقاء الوقائع من وجهة نظر تخدم الفيلم...(2)
تحضر هذه السمات الفنية بقوة في فيلم المخرج الكوري بونج جون هو الذي يندرج ضمن سلسلة مخرجين استلهموا خصائص تيار الواقعية الجديدة.
يظهر ذلك في مشهد الفرو المستعار للفنانة في فيلم "ليالي كابيريا" 1957 لفديريكو فيليني، مرورًا بشبيهتها التي تهان فينقذها "سائق التاكسي" 1976 في نيويورك للمخرج مارتن سكورسيزي، وتلك التي تفاوض توم كروز في منتصف الليل من أجل بضعة دولارات في "عيون مغلقة على اتساعها" 1999 لستانلي كوبريك، حتى مشهد ثلاجة الفيللا التي اقتحمتها حشرات ذات رائحة قبو لا إنترنت فيه في فيلم "برازيت" الكوري.
هؤلاء هم مخرجو السلالة المتحورة للواقعية الإيطالية الجديدة بدءًا من المعلم الإيطالي الأكبر فيليني... فما الذي يجمعهم أسلوبيًا؟
يجمعهم تصوير اللحظة وهذا فعل حداثي.
تظهر هذه العقلانية في أسلوب السرد التي يحترم قانون الزمان والمكان ووحدة الحدث والعلاقات السببية... لا بطل خارقًا في أفلامهم. لا يوجد سوبرمان في أفلامهم. هناك إنسان محدود من لحم ودم. وهذا حتى في أفلام كريستوف نولان الذي صور باتمان وهو يفكر في وال ستريت ويحقق فيما يجري ويكشف الأقنعة ويحارب الشرير جوكر... فرغم ضجيج المؤثرات الصوتية واللعب بالمؤثرات البصرية فالبطل متصل بسياقه، هنا والآن، قريب منا، بعيد عن خوارق إبطال أفلام شركة مارفل.
هؤلاء مخرجون يسردون بخيال مقيد بالواقع لكي لا يغرق السرد في أجواء ألف ليلة وليلة، يسردون بمنطق الفيزياء الاجتماعية... يجمعهم تصوير صراع طبقي يخترق كل اللقطات. لذلك يتم التنبيه بدقة وباستمرار في أفلامهم للصراع الطبقي بين الذين يملكون والذين لا يملكون، الذين يكدحون والذين يستمتعون بخيرات الأرض.
يجمعهم في أفلامهم أن سلوكات البطل صادرة عنه وهو مسؤول عنها ولا يتهم الشيطان.
لا يصدر الشر عن الشيطان بل عن غياب العدالة الاجتماعية.
يجمعهم جعل الإنسان مصدر مشاكله ومصدر حلها، إنسان في مواجهة نفسه وأشباهه ولن تأتيه النجدة من أي مكان آخر. إنه مسؤول عن مصيره هنا والآن ويحتاج خطة وكُدية لينجو.
يليق بأفلام سينمائية هذا أسلوبها أن تحلق عاليا، في المهرجانات والقاعات السينمائية ومنصات المشاهدة.
هوامش:
(1) جينيت جيرار، عودة إلى خطاب الحكاية، ترجمة محمد معتصم، المركز الثقافي العربي ط 1 الدار البيضاء 2000، ص 61.
(2) André Bazin, Qu’est ce que le cinéma? p257-285