}

"على عتبة الدار" أو كيف على الفلسطيني أن يتصرف؟

راجي بطحيش 19 ديسمبر 2021
سينما "على عتبة الدار" أو كيف على الفلسطيني أن يتصرف؟
ملصق فيلم "على عتبة الدار"



تتفاقم كلما تلاشت آفاق الخلاص الوطني للفلسطيني أزمات تمثيلاته المختلفة في الأدب والسينما، حيث تتزايد المتطلبات، من شخصيته الممثلة على الشاشة، أو على الورق، كلما تعثرت، أو تأجلت، الإجابات على الأسئلة الكثيرة التي تحيط به، فتتزايد مع ذلك الحساسيات التي تترجم إلى كتابات مكررة. وكأن تمثيلات الفلسطيني المنتظر في قصة صغيرة ضمن فاصلة غير مرئية ضمن ملايين القصص هي التي ستسد الطريق إلى الانتصار، وستغيّر من مسار التاريخ. فوفق "حراس المعبد"، على الفلسطيني أن يتصرف بشكل معين، ويقول أشياء معينة، ويحاول الابتعاد قدر الإمكان عن تلك المساحة الرمادية التي يتحرك فيها عادة "اللا ـ بطل"، أو البشري العادي المضطرب طبيعيًا.




وسط هذه التوقعات الصارمة، التي لا تصنع لا فنًا ولا ثقافة، عمل بعض صناع السينما الفلسطينية المستقلة (غير المنتجة من قبل المنظمات الفلسطينية) ضد توقعات المشاهد والمؤسسة الثقافية الجاهزة مسبقًا، من تمثيلات الفلسطيني/ة، وماذا عليه أن يقول، وكيف يتصرف. جاء ذلك منذ البداية، وتحديدًا في فيلم "عرس الجليل" (1987) لميشيل خليفي، حيث جاءت تمثيلات النساء، وخاصة شخصية سمية، أخت العريس، وسامية، العروس، صادمة وراديكالية، وضد توقعات المراقب تمامًا. وكانت الوقفة الأكثر عمقًا ضمن هذا المضمار في الفيلم الطويل الأول لإيليا سليمان "سجل اختفاء" (1996)، حيث عمل المخرج/ المؤلف ضد توقعات المشاهد بشأن كيفية سرد القصة الفلسطينية وتناولها على الشاشة، وخاصة في مقاطع الشاعر طه محمد علي، الذي يكرر ثلاث مرات حكاية عن إسطنبول حكاها له جده المهجر، حكاية تحدث أصلًا خارج المدينة، وعلى بعد 15 كم منها، ومقطع البداية لوالدة المخرج وهي تسرد قصة مبتورة خارج السياق، ومقطع الراهب الروسي الشهير. وواصل هاني أبو أسعد هذا التوجه "المشاكس"، وتلاعب بذكاء بتمثيلات شخصيات مؤثرة في الذاكرة الجمعية الفلسطينية، مثل الفدائي، والشهيد، والمتعاون، وذلك في فيلمي "الجنة الآن" (2005)، و"عمر" (2013).

المخرجة الفلسطينية ساهرة درباس 


ويندرج مشروع المخرجة والمصورة، ساهرة درباس، ابنة حيفا، المقيمة في القدس، ضمن هذا التيار المشاكس للتمثيلات الجاهزة مسبقًا، وإن كانت تقوم بذلك بذكاء وهدوء لافتين، حيث تنتج ساهرة أعمالها ذاتيًا بتمويل شخصي، وهي تمثل إضافات هامة في طيف التنوع والتخصص في السينما الفلسطينية الوثائقية، خاصة أنها، وبشكل منهجي ومتكرر، تتناول تأثيرات النكبة والسلب على طبقة تم إقصاؤها بشكل شبه تام عن السردية الجمعية الفلسطينية، هي الطبقة البرجوازية الفلسطينية التي حافظت على مزاياها الحضرية حتى بعد النكبة، كما حافظت بطريقة أو بأخرى على أسلوب حياة يختلف عن تمثيلات الضحايا الأساسيين للنكبة، أو صورة اللاجئ المهزوم والمتعالي على هزيمته وشقائه في الوقت ذاته. ففي شريطها الأخير، "على عتبة الدار" (2019)، الذي بالكاد عرض في عام 2020، بسبب الجائحة، مما أجل عروضه إلى عام 2021، تتناول درباس قصة عائلة بشارات المقدسية، التي فقدت قصرها المسمى بـ"هارون الرشيد" في حي الطالبية في غربي القدس في أحداث نكبة 1948.




المثير في الفيلم يرتبط بما ذكرته سابقًا حول الفرق بين توقعات المراقب/ المشاهد، وبين المقدم على الشاشة، حيث تبرز الثغرات واحدة تلو الأخرى، وكأننا في تمرين بصري/ سردي لفحص قدرة المشاهد على تقبل خيانة توقعاته، أو مخياله البصري/ التاريخي/ الحضاري المُهندس جيدًا وبإحكام عبر التاريخ والسنوات المضطربة. ففي الفيلم تعود فاليري بشارات، سليلة عائلة بشارات المقدسية البرجوازية، إلى القصر المهيب بديكوره الداخلي الفتان، الشاهد على الحضارة الثرية التي كانت، والتي شكلته، حد البكاء، لتتواصل مع أصولها، والتذكير بحقها وحق عائلتها المسلوب، عبر التحاور مع ساكنة القصر الحالية. إلى هنا، تبدو الحكاية عادية، وتم تناولها وطرحها في أعمال عدة، ولكن في طيف التنوع الواسع الذي يميز روايتنا، لا قصة تشبه أي قصة أخرى حتى لو حاولنا صهرها ضمن إطار متجانس تحكمه "الثوابت الوطنية" و"المقدسات".. ففي "على عتبة الدار"، ومن خلال عائلة بشارات، تتحدى درباس وبهدوء شديد فكرة سائدة في وعينا الجمعي المشرقي بأن كل ثري هو حتمًا فاسد أو منتفع من السلطات، أو النظام القائم في بلده، ولكن الطريق للعودة إلى قصر "هارون الرشيد" في الطالبية الذي خسرته عائلة بشارات في النكبة شائكة ومستحيلة، على الرغم من بطلة الفيلم فاليري حفيدة العائلة التي تبدو كـ"بنت مدللة ومتطلبة" لعائلة مغتربين فلسطينية في الولايات المتحدة، من الصعب التعاطف معها في البداية، وعلى الرغم من شخصية أخ جدها ألفريد الذي يتحدث ويقدم شهادته حول فقدانه للقصر في فيلا فاخرة أخرى في الولايات المتحدة وهو يحتسي النبيذ الذي يبدو غاليًا، ويتحدث بشكل قد يثير الجدل عن علاقته بالبريطانيين، وتأجير الفيلا لهم، وخيانتهم له وتسليمها لليهود بعد الاستيلاء على القدس الغربية... وعلى الرغم، كذلك، من طريقة التصوير المثيرة، واختيار المخرجة استخدام زوايا منخفضة ومائلة وحركات مونتاج حادة تحاكي سينما الموجة الفرنسية في ستينيات القرن الماضي، لترفق إليها لاحقًا موسيقى البلوز، من توزيع جورج بشارات، لتأخذ الفيلم كله إلى مساحة كونية تحمل شجن المقهورين مهما كانت مكانتهم الآنية. فالقهر على خسارة بيت ووجود ومدينة وحضارة، على طريقة الطالبية، وما حل محلها من رموز الهيمنة الصهيونية، لا يضاهيه قهر.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.