}

فيلم "النظام الجديد" لميشيل فرانكو.. السينما السياسية الكلاسيكية

سمير رمان سمير رمان 22 مايو 2021
سينما فيلم "النظام الجديد" لميشيل فرانكو.. السينما السياسية الكلاسيكية
فرانكو يحمل جائزته في مهرجان البندقية السينمائي الدولي (12/9/2020/Getty)


تمكّن المخرج المكسيكي ميشيل فرانكو/ Michel Franco(*)، بفيلمه "New Order/ النظام الجديد" من انتزاع أول جائزة عالمية في مهرجان البندقية في أيلول/ سبتمبر 2020. قوبل الفيلم بردود فعلٍ إيجابية وسلبية، سواء من النقاد، أو الجمهور، وخاصّة بسبب الطريقة التي عالج فيها مسألة التوتر بين الطبقة الغنية والفقيرة في المجتمع المكسيكي.
يتابع الفيلم حياة زوجين من الطبقة الراقية، وتدور أحداثه الرئيسية حول مذبحة مكسيكو سيتي. يأخذ ميشيل فرانكو في عين الاعتبار كلاسيكيات السينما السياسية، ولكنه ينظر إلى الصراع الطبقي بعيون ضيفٍ محايدٍ حضر أمسيةً برجوازية، تمامًا كما يفعل رواد المهرجانات السينمائية المميزون.




وفي حين نال الفيلم جائزة لجنة التحكيم، فقد حصل مخرجه على لقب وريث لويس بونويل(**)، وذلك على الرغم من غياب أيّ عاملٍ مشترك بين ميشيل فرانكو وبين الفنان السريالي العظيم، سوى إظهار فيلم "النظام الجديد"، كما هو حال فيلم بونويل "الملاك المدمِّر" عام 1962، أن القوى التي تحكم العالم مرهونةً بأحداثٍ مدمِّرة.



يبدو خيال ميشيل فرانكو الساديّ محيّرًا بصورة ما بشأن قسوة ثورة الطبقات الحضرية الدنيا، في مقابل القسوة الأكبر التي أظهرتها الطغمة العسكرية الحاكمة وهي تقمع الثورة. تعود هذه الحيرة إلى صعوبة معرفة ما إذا كان ميشيل فرانكو يقلّد سينما سبعينيات القرن العشرين السياسية بصدقٍ، وكذلك معرفة أنّ الواقع المرير واقعٌ حقيقي، أم أنّ الأمر مجرد مصادفة في الوضع المقلق الذي يسود عالمنا.
ومع ذلك، لم يكن هنالك أيّ غموض في قرار لجنة التحكيم لمهرجان البندقية. فـ"العالم المتحضّر" يشعر بعدم الراحة، والحرج والرعب. في نهاية الثمانينيات، أعلن فرانسيس فوكوياما عن "نهاية العالم"، فالمجتمعات المتحضرة لا تريد ذلك، لكنّها وجدت نفسها مرغمة على القبول بأنّ التاريخ عبارة عن سلسلةٍ من الصدمات. كما تدرك هذه المجتمعات أنّ المحن التي تمرّ بها هي مجرد ارتداداتٍ لأحداثٍ تجري خارج حدودها المريحة، حيث العيش رائع. وهذه المجتمعات تتطلع إلى من يؤلمها كي تتسامى على جراحها. وميشيل فرانكو، بصفته مندوبًا عن "العالم الكبير" يؤلم أوروبا بالفعل: ويفعل ذلك بمهارةٍ، وبزخرفة غير مناسبة. الألوان الخضراء والحمراء الدامية، في لحظةٍ ما من الفيلم، تنساب من صنبور مياه خضراء، معربدةً بقوةٍ على الشاشة بشكلٍ تبدو معه أجساد الجرحى المتكدسة وكأنّها نصبٌ فنيّ.
بسرعةٍ، تبدأ هذه الزخرفة بإثارة الإزعاج، ليس لأنّها لم تستطع التغطية على مخطط الفيلم، بل لأنّ فرانكو استطاع التيه قي متاهته الخاصّة، التي هي عبارة عن خطٍ مستقيمٍ وحيد، على حسب تعبير الشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس(***).



في البداية، يقارن المخرج بين عالمين متناقضين، بين مدينتين في مكسيكو، تبدو الحدود بينهما عصيّة على الاختراق، كما قبل مئة عامٍ خلت. يجتمع صفوة المجتمع في قصر أحد الرجال النافذين ليحتفلوا بزفاف ابنته آنّا ماريا غوزاليس نورفيند/ الممثلة. في هذه الأثناء، تحتدم في أحد أحياء مكسيكو أعمال شغبٍ وكأنّها كابوس دمويّ، ولكنّ الأنباء عنه لم تكن أكثر من صخب معلوماتٍ ما. فهل في مقدور تمردٌ سوى أن يتسبّب في مشاكل صغيرة للضيوف، من قبيل اضطرارهم إلى المرور عبر حواجز الجيش. لقد شهدت تلك القصور العديد من أعمال الشغب خلال المئة عام المنصرمة، لكنّ الأمور تطورت هذه المرّة بصورةٍ مختلفة عن المرات السابقة.
في البداية، لم يقتحم القصورَ الرعاعُ من اللصوص والقتلة ذوي الملامح الهندية، الذين لا تعرف قلوبهم الرحمة. ولم يقتصر الأمر على انضمام الخدم إلى أعمال العربدة، بل تبعهم، أيضًا، حراس القصر أنفسهم. آنّا ماريا تتغيب عن حفلها قبل اقتحام الحشود القصر، فقد ساقها حبّها المفرط لعمل الخير إلى حيٍّ فقير لتمنح خادمها السابق بعضًا من المال ليجري عمليةً لزوجته المريضة. بدا أنّ الحظ حالفها. ولكنّ لقاءها مع الجنود، الذين كانوا يقومون بتنظيف المدينة من المتمردين، تحوّل إلى جحيم، بدا معه الموت السريع على يد البلطجية نعمةً.
ليس من الصعب تحديد مصادر إلهام المخرج. فالنموذج الأولي لأعمال الشغب كان "Caracazo كاراكاسو"، وهو الاسم الذي أطلق على تمرّد العاصمة الفنزويلية كاراكاس العفوي عام 1989، الذي اندلع احتجاجًا على التحولات الاقتصادية النيو ـ ليبرالية التي شهدتها البلاد، إذ اندلعت منذئذٍ أعمال شغبٍ أكثر من مرّة. على سبيل المثال، أصبح شهر كانون الأول/ ديسمبر من عام 2001 شهرًا دمويًّا في الأرجنتين. بعدها، في أعوام 2019 ـ 2020، شهدت كولومبيا، وتشيلي، وهندوراس، أعمالًا مماثلة. ولكن" كاراكاسو" دخل التاريخ كأكثر الانتفاضات دمويةً (استمر التمرد عشرة أيام، وأودى، بحسب بعض التقديرات، بحياة أكثر من ثلاثة آلاف ضحية). يستنسخ تصميم مواقع التصوير، وترتيب ظهور الممثلين، في فيلم "النظام الجديد"، صور مذبحة كاراكاس.



كما تحاكي عربدة المنتصرين ممارسات الطغم العسكرية في تشيلي والأرجنتين. فمعسكرات الاعتقال التي أقيمت على عجل ذاتها، وممارسات العنف في حق المعتقلين هي نفسها، وكذلك أساليب ابتزاز الضحايا.

ميشيل فرانكو وخلفه جائزة مهرجان البندقية السينمائي خلال عرض فيلمه في سينتيكا ناسيونال في مكسيكو (14/ 10/ 2020/Getty)


عرفت أميركا اللاتينية نماذج مماثلة لمذبحة مكسيكو سيتي: إعدام مئات الطلاب رميًا بالرصاص في مذبحة" تلاتيلكو" عام 1968، ومذبحة "جسد المسيح" عام 1971.
وبكلماتٍ أُخرى، فقد صمّم فيلم "النظام الجديد" ليكون ملخّصًا جامعًا للصراع الطبقي في عصر الليبرالية الجديدة: ففي العصر الملحمي لستينيات وسبعينيات القرن العشرين، قام صانعو الأفلام اليساريون بتنفيذ هكذا ملخصات في كثير من بلدان العالم، من بوليفيا، إلى اليابان، كان بينها أفلامٌ رائعة غير قليلة.



غير أنّ فيلم "النظام الجديد" بقي فيلمًا سياسيًّا مقيّدًا بوسائله الذاتية، ولهذا جاء إبداعيًّا، وكان في حدّ ذاته جزءًا من العملية التاريخية. أما صانعوه فرأوا في أنفسهم جنودًا في خدمة الثورة، الأمر الذي جعل السيناريوهات المتخيّلَة مليئة بالصدق. فرانكو حرٌّ لا تقيّده قيود، وليس مشاركًا في أيّ شيء. إنّه ينظر إلى المتمردين، وأجهزة القمع السلطوية، باعتبارهم مثيرين للاشمئزاز، وبالدرجة نفسها، مثله كمثل ضيوف حفل الزفاف، الذين ما كانوا ليعرفوا بكلّ تلك الأهوال لو تمكّن الجيش من حماية حيّ قصور الأغنياء. بالنسبة إليه، جوهر الرعب يكمن في أنّ آنّا ماريا ذاتها تحوّلت إلى سلعة تتداولها الأيدي، بعد أن أصبحت ضحيّة من كان يرعى مصالحها الطبقية. بالطبع، تعتبر آنّا ماريا أنّ الموت على يد أولئك الذين انسلخوا عن طبقتهم ليس أقلّ مرارة من الموت على يد وحوش أجهزة القمع.


هوامش:
(*) ميشيل فرانكو/Michel Franco : مخرج ومنتج وكاتب سيناريو مكسيكي، أنتج 18 فيلمًا، وأخرج 13، بينما كتب سيناريو 13 فيلمًا. أشهر أعماله فيلم: بعد لوسيا/ After Lucia عام 2012؛ Chronic عام 2015، وفيلم New Order عام 2020.
(**) لويس بونويل: صانع أفلام إسباني ـ مكسيكي. من أشهر أفلامه: كلب الأناضول؛ أرض بلا خبز؛ نازاين؛ حسناء النهار؛ سحر البرجوازية المتواضع.
(***) خورخي لويس بورخيس/ Jorge Luis Borges (1899 ـ 1986): كاتب وشاعر وقاصّ أرجنتيني.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.