أثار عرض مسرحية "الإنسان والسلاح"- Arms and the Man (1894) - للمخرج والفنان الأميركي جون مالكوفيتش/ John Malkovich، من 7 إلى 9 من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، على مسرح إيفان فازوف في العاصمة البلغارية صوفيا، احتجاجات غاضبة نظمتها قوى يمينية.
هذه الاحتجاجات جاءت على خلفية العرض المقتبس عن نص الكاتب الإنكليزي الشهير جورج برنارد شو "جندي الشوكولاته/ Chocolate Cream Soldier"، وهو ما رأى فيه المحتجون "إهانةً للشعب البلغاري"، ما يعني أن مرور أكثر من مائة عام على العرض الأول للمسرحية في عام 1921 في صوفيا لم يغير في رأي بعض البلغاريين شيئًا.
عندما تقدّم جون مالكوفيتش بعرضه إلى المسرح البلغاري، كان يتوقع ردة فعلٍ سلبية من جانب بعض النقاد في بلغاريا، ولكنه لم يكن يتصور أبدًا أنّ مسرحية برنارد شو ستثير اضطراباتٍ في الشوارع.
هذا بينما كتبت الصحافة المحلية أنّ مبنى المسرح القومي حوصر مساء السابع من نوفمبر من حشدٍ يميني منع الجمهور من الدخول إلى المسرح. كما قاموا بإلقاء القمامة، وإطلاق الشتائم ضد مدير المسرح فاسيلي فاسلاف، الذي خرج إلى الجمهور والصحافيين يناشدهم أن يشاهدوا المسرحية أولًا، بدلًا من إطلاق مواقف مسبقة غير عادلة. رجال الشرطة وقفوا على الحياد، وتمكنوا بصعوبةٍ بالغة من حماية المسرح، ومنع المحتجين من اقتحام المبنى. في نهاية الأمر، تم عرض المسرحية في 7 نوفمبر بحضور كثيرٍ من الصحافيين وقليل من المتابعين ممن تمكنوا من دخول مبنى المسرح.
بعد العرض، عقد مؤتمر صحافي، أوضح فيه مالكوفيتش للصحافيين أنّه اقترح المسرحية لأنّه يراها "رائعة ومسليّة"... "نعيش أوقاتًا غريبة بالفعل، إذ تتزايد أعداد من يريدون فرض رقابة صارمة على كلّ ما لا يعجبهم. لا أريد ان أرى عنفًا بحق المحتجين، فعملي هو الإخراج وحسب".
رفع المحتجون لافتات كتبت عليها عبارة "مالكوفيتش... ارحل إلى بلادك!". ولكنّ احتجاجهم كان موجهًا فعليًا ليس ضدّ المخرج الأميركي، إنّما ضدّ مسرحية برنارد شو ذاتها. كانت المسرحية أولى أعمال شو الكوميدية، والتي حققت نجاحًا تجاريًا واسعًا، وعرضت في كثير من المسارح تحت عنوان "جندي الشوكولاته/ Chocolate Cream Soldier".
يقول برنارد شو إنّ "فلسفة الواقع هي وحدها القادرة على طرح وحلّ المشاكل". انطلاقًا من هذه الرؤيا، جاءت مسرحيته الكوميدية المرحة والذكيّة، التي استطاعت تحقيق ربحٍ تجاري ليس في بريطانيا وحدها. بعد ذلك، شكّلت المسرحية نقطة انطلاق شهرة برنارد شو العالمية ككوميديّ من الطراز الرفيع. ونظرًا لانتشارها الواسع، وعلى مدى سنواتٍ عديدة، قام ممثلون كبار بأداء ادوارٍ فيها، منهم على سبيل المثال لا الحصر: لورنس أوليفييه؛ رالف ريتشاردسون؛ مارلون براندو.
بعد نجاحها الباهر على خشبة المسرح، نقلت المسرحية مرتين إلى شاشة السينما، كما حُول نصها إلى أوبريت مرتين. ولا تزال المسرحية تعرض في مسارح العالم حتى يومنا هذا.
تدور أحداث المسرحية في ليلةٍ من ليالي أواخر شهر نوفمبر عام 1885، في بيت أسرةٍ ميسورة من آل بيتكوف يقع في بلدة بلغارية صغيرة قرب الحدود الصربية. تتلخص الحبكة في اتخاذ فتاةٍ قرارًا صعبًا، عندما أصبح عليها الاختيار بين خطيبها البلغاري ــ الوطني، وبين ضابطٍ صربيّ ميسور كان يحمل زمن الحرب في جعبته ألواح الشوكولاته بدلًا من الرصاص.
في الفصل الأول، تجلس الفتاة الجميلة راينا في البيت، وينتابها القلق على خطيبها سيرغي، الذي يقاتل في مكانٍ غير بعيدٍ من القرية. تخبرها أمّها أنّ الجيش البلغاري قد كسب المعركة قرب سليفنيتسا للتوّ، وأنّ خطيبها سيرغي كان في طليعة المهاجمين، وأنّه اخترق بشجاعةٍ مواقع بطاريات مدفعية العدو. تتابع الأمّ أنّ القوات الصربية قد تشتّتت، ويحاول عناصرها الاختباء أينما كان. تبقى الفتاة المنفعلة بالأخبار السارّة في البيت وحيدةً، وفجأةً يقتحم الغرفة، عبر الشرفة، رجل بلباس القوات الصربية: وفي الوقت نفسه، تطرق الباب الخارجي دورية من الجيش البلغاري تسعى خلف الصرب الهاربين. أثار منظر الجندي الصربي الرثاء في قلب راينا، فقامت بإخفائه. الرجل جندي مرتزق من ذوي الخبرة، مسدسه غير محشو، ويحمل في جعبته قوالب شوكولاته بدلًا من الرصاصات. يقول للفتاة التي لاحظت ذلك إنّ الشوكولاته مفيدة أكثر من الرصاص في المعركة. يشرح النقيب للفتاة أنّ هجوم فرسان البلغار بقيادة سيرغي كان انتحارًا جنونيًا، وأنّ نجاحه لم يكن نتيجة شجاعة البلغار، بل لأنّ أحدهم قد أخطأ في عيار ذخيرة الرشاشات الصربية، التي لم تعمل البتّة جراء ذلك. أصيبت راينا بالدوار وهي تصغي إلى رواية النقيب الصربي، فما رأته عملًا بطوليًا اتضح أنّه حماقة وليس كفاءة. عندها أدركت الفتاة أنّ الحرب الحقيقية ليست على تلك الصورة التي رسمتها في مخيلتها. بسرعةٍ كبيرة، يغفو النقيب المنهك. في الصباح، تعطيه الفتاة راينا أحد معاطف والدها، بعد أن دسّت في أحد جيوبه صورتها التي كتبت عليها إهداء "إلى جنديّ الشوكولاته"، وتقوده إلى الباب الخارجي.
في الفصل الثاني، تدور الأحداث في مارس/ آذار من عام 1886. وضعت الحرب أوزارها، ووقع اتفاق السلام، وسرّح الجيش. يعود ربّ الأسرة إلى منزله، ويعود سيرغي كذلك. تعود العلاقة بين سيرغي وراينا كما في السابق. غير أنّ راينا لم تنس الصربيّ الهارب الذي أنقذته، كما لم يعد سيرغي معجبًا بها كالسابق، إذ أصبحت الفتاة لوكا تشدّه أكثر من خطيبته راينا. يظهر النقيب (الجندي الصربي) الهارب، ويتضح أنّ اسمه هو بلونتشلي، ويدّعي أنّه جاء لإعادة المعطف إلى راينا. يتعرف ربّ الأسرة بيتكوف على النقيب، فقد سبق وتعاونا سويًّا في عملية تبادل الأسرى، وتصادقا حينها. يستقبل بلونتشلي ضيفًا في المنزل.
أحداث الفصل الثالث تجري في مكتبة في منزل آل بيتكوف. بلونتشلي وسيرغي يعملان على ترتيب الوثائق، ويراجعان تفاصيل اتفاق السلام. أثناء حديثٍ يدور بين سيرغي مع الفتاة لوكا تخبره عرضًا أنّ بلونتشلي مهتمٌ بخطيبته، فيتملك سيرغي الغضب، ويسارع إلى طلبه للمبارزة. عندما علمت راينا بالأمر، توجهت إلى سيرغي، وواجهته بحقيقة قيامه بمغازلة لوكا. إثر ذلك، ألغيت المبارزة. بعد حديثها مع بلونتشلي، شعرت راينا فجأةً أنّه من الأسهل عليها أن تتصرف على سجيتها، وتعود إلى طبيعتها الأصلية، بدلًا من تقليد بطلات القصص والروايات. يصل سيرغي إلى الاستنتاج نفسه، ويقول بمرارة: "أيتها الحرب، أنت حلم الوطنيين والأبطال! ولكنّك مجرد خدعة، وبلونتشلي مجرد متصنّع تافه، كما هي حال الحبّ". بعد تحرره من القيود الرومانسية، يعلن سيرغي خطوبته على لوكا، ويعترف بلونتشلي، الذي سبق ووجد في جيب سترته صورة راينا، أنّ سبب عودته هو أنه أراد ان يراها مرةً أُخرى، ويطلب يدها للزواج. يتردد أهل راينا في الموافقة. لكن، بعد أن أخبرهم بلونتشلي أنّه حصل على إرثٍ ضخم في سويسرا، يمنحوه بركاتهم.
واليوم، ترى الدوائر المحافظة أنّ المسرحية تمثّل: "استفزازًا يلطّخ اسم إيفان فازوف، كونها تسخر من الشعب البلغاري وتهين مشاعره، وكذلك تحط من قدر أبطال الحرب البلغارية ــ الصربية". وتتلخص أسباب الاحتجاج الحالية في الادعاء بأنّ المسرحية تظهر البلغاريين "أناسًا ضيقي الأفق، نادرًا ما يستحمون، وقليلًا ما يقرأون الكتب". كما أنّ النشطاء مغتاظون، لأنّ عرض المسرحية جاء في السابع من نوفمبر، وهو التاريخ الذي يتوافق مع الذكرى الـ 139 لمعركة سليفنيتسا الشهيرة في التاريخ البلغاري.
في اليوم التالي لعرض المسرحية، اجتمع حشدٌ من المواطنين أمام مبنى المسرح دعمًا للفنانين والمخرج. ولمّا كان تجمع القوميين أقل، فقد مرّت الأمور بسلام، ولم تقع مواجهات مباشرة بين الجانبين. أمّا التذاكر، فقد نفدت لأشهرٍ مقبلة!
ومع ذلك، فإنّ نواب حزب "يوجد مثل هذا الشعب" طالبوا باستقالة وزير الداخلية، الذي سمح بوقوع الاضطرابات، وكذلك استقالة مدير المسرح القومي. من جانبها، فتحت النيابة تحقيقًا جنائيًا في الأحداث.
على الجانب الآخر، وفي رسالةٍ مفتوحة، دانت جمعية كتاب سيناريو السينما والتلفزيون والراديو في بلغاريا الاعتداء على الجمهور والعاملين في المسرح القومي، كما أعلن كتابٌ عن شجبهم وإدانتهم الميول الرقابية والحظر على المؤلفات الفنية، تلك الميول التي أصبحت ملحوظة في البلاد خلال الأشهر الماضية. تقول الرسالة: "إن هدف الفنّ ووظيفته طرح الأسئلة، والدفع إلى إعمال الفكر وتحفيزه، بل وتحريضه. إنّ التغاضي عمّا حدث يمكن أن يتسبّب في خلق خطر تحوله إلى معيار، قد يجعلنا نعيش في مجتمعٍ لا يمكن فيه التصدي ومواجهة الرقابة".