}

"كل الأسماء".. الفن والمتلقي في متاهة الأنظمة الرقابية والعقابية

علاء رشيدي 5 يوليه 2021
مسرح "كل الأسماء".. الفن والمتلقي في متاهة الأنظمة الرقابية والعقابية
من عرض "كل الأسماء"



أنت تعرف الاسم الذي أطلقوه عليك
لكنك لا تعرف الاسم الذي لك.
                               (كتاب التجليات)

المتلقي في تجربة العرض
يحضر المتلقي عرض "كل الأسماء"(*) بشكل فردي، مدة التجربة 30 دقيقة مخصصة لكل مشاهد. الموعد ليس مسرح دوار الشمس ـ بيروت، بل مدخله الخلفي المؤدي إلى الكواليس حول عدد من الممرات الخلفية لبناء المسرح. وحالما يدخل المتلقي يستقبله مكتب الدخول مع ممثل، يطلب منه التخلي عن الهاتف المحمول، واختيار اسم من بين الأسماء الموجودة أمامه على الأوراق، هي قصص لسبعة معتقلين/ات افتراضيين/ات؛ طالبة فنون جميلة، مصور وصحافي، رسام كاريكاتير، عامل، أستاذ جامعي، مهندسة، موظف حكومي، موزعة على مئات الأسماء. العرض هو عبارة عن رحلة المتلقي في البحث عن معتقل/ة في ظل الأنظمة البيروقراطية الإدارية الأمنية.
جاء في البيان التعريفي للعرض: "ينطلق العرض قيد التطوير من سؤال الذات والتيه الذي نعيشه ضمن أنظمة الإدارة البيروقراطية، والتي اختبرناها بشكل أقرب من خلال تجربة الحرب التي نعيشها الآن، إذ يُوضَع المتلقي ضمن فضاء لنظام إداري محدد، ويختار اسمًا منذ بداية العرض، وعلى أساسه سيقوم بمعاملة رسمية، وسيطالَب بأوراق وثبوتيات، وسينتقل من فضاء إلى آخر مختبرًا حالة الانصياع الذي نؤديها حينما نقوم بمعاملة ثبوتية في دائرة رسمية".



الأنظمة الرقابية والعقابية

من عرض "كل الأسماء" 


المسرحية من إخراج علاء الدين العالم، وكتابة هشام حميدان، الذي يستلهم في نصه مؤلفات القاص والروائي، فرانز كافكا، وذلك في قدرتها على التعبير عن تعقيدات الأنظمة الرقابية والعقابية، ودراسة العلاقة المعقدة بين الفرد والنظام، وكذلك سيطرة الإدارات البيروقراطية التي تؤدي إلى انسحاق الفرد، ومتاهات الأنظمة الإدارية والرقابية القمعية. في كافكا رواية "المحاكمة"، لا يدرك (جوزيف ك) التهمة الموجه إليه، ويمضي الرواية في البحث عن تهمته، وفي النهاية يقود مصيره بنفسه إلى نحر عنقه، فالنظام يحرك الفرد على إيقاع الشعور بالاتهام المستمر والذنب. وفي رواية "القصر ـ القلعة"، يعمل "ك" لسنوات كموظف مساح في القصر من دون أن يدرك مساحة القصر، أو يقابل الكونت، أية مرة، يرغم "ك" على الخضوع للنظام السائد، ويتمسك بهويته البيروقراطية كمساح في القصر، الذي لا يعترف بوجوده.




أما في "مستعمرة العقوبات" فتكتسب الآلة العقابية استقلالية وظيفية، وإن آلة تنفيذ الإعدام بالحقن تستقل وتعمل بطريقة ميكانيكية، كما هي الحال في الأنظمة الرقابية العقابية، حيث تعمل بطريقة بيروقراطية، مما يؤدي إلى سحق ذوات الأفراد خلف الهويات الإدارية. وفي النهاية، الضابط المشرف على آلة التعذيب يسلم نفسه إليها ليثبت قدرتها وفاعليتها. النظام يسحق الفرد والموظف العامل فيه أيضًا، الذي يسلم نفسه إلى الموت طواعية. في أغلب أعمال كافكا يدور النزاع بين المنظومة والفرد، بين المواطن والنظام الرقابي العقابي، بين المظلوم والنظام القمعي.



دور المتلقي في رحلة العرض
في مسرحيتها "الحدائق تحكي"، تدخل المخرجة تانيا الخوري المتلقي إلى حديقة تحولت إلى مقبرة، تطلب منه نبش القبور لسماع حكايات موتها المسجلة، كذلك في عرض "كل الأسماء"، فالعرض المسرحي هو رحلة يدخلها المتلقي بكليته وبتفاعله، ويمكن القول بدور محدد له، وهو البحث عن مفقودين/ات بين سجلات الأنظمة الإدارية والقمعية. يتنقل المتلقي من مكتب إلى آخر بتراتبية السلطة الإدارية الهرمية، يقسو عليه العنصر الأمني المرافق لرحلته، يصرخ في وجهه الضابط المساعد، ويعامله بازدراء، يوجه إليه التهم، ويستجدي المتلقي الضابط المسؤول للحصول على معلومة عن مفقود أو عزيز. ينتظر الزمن العبثي في بيروقراطية المعتقلات الوحشية والقاحلة بصريًا. تقول الدكتورة المسرحية، ماري إلياس، عن هذا النوع من العروض المسرحية: "هي التي تمزج بين العرض المسرحي، وفن التجهيز. هذه العروض تكسر الجدار الرابع التقليدي بين العرض والمتلقي، وتأخذ من فن التجهيز فكرة أن يكون العمل الفني عبارة عن تجربة يعيشها المتلقي بجسده وذهنه".




من المهم نقديًا معرفة ردود فعل المتلقين/ات تجاه هذه التجربة المسرحية. فقد عجز الكاتب (ع. ر) على الدخول في اللعبة المسرحية، وبقي لآخر دقيقة يحاول تذكير الموظفين والضباط الذي يقسون في التعامل معه بأنهم في عرض مسرحي، وأنه مجرد مشاهد أتى لحضور العرض، بينما تماهت الفنانة (س. ق) مع اللعبة المسرحية، وأخذت تدافع عن المعتقل الافتراضي، وتناقش مع موظفي الجهاز العقابي حق رسام الكاريكاتير في النقد السياسي، أما المخرج المسرحي (ع. ج) فقد شتم الممثلين/ات في أدوراهم/ن المسرحية كجلادين ومعتقلين وظالمين، مستذكرًا تجربة اعتقاله الذاتية التي عايشها في سورية: "لقد صرخت عاليًا بكل ما فكرت فيه فترة اعتقالي، ولم أتمكن من قوله في حينها". وعند سؤالنا المخرج علاء الدين العالم عن النتيجة المستخلصة من دراسة ردود فعل الجمهور، أجاب: "إن ما شاهدتموه من "كل الأسماء" هو النظام رقم "1" من عرض سيبقى "قيد التطوير" يقدِّم مع كل عرض جديد نظامًا إداريًا جديدًا، بتجهيز فني جديد وسيناريوهات تيه إداري وورقي مختلف. كانت ردود الفعل متنوعة بتنوع المتلقين، من الانصياع التام لدرجة الانهيار إلى التطهير عبر مواجهة هذه السلطة الافتراضية، وصولًا إلى الإنكار المستمر، وقد تم تدوين ردود فعل المتلقين المتنوعة في الملف الدراماتورجي للبناء عليها وتطوير العمل مع المتلقي في العروض القادمة".



الهوية المفروضة عبر البيروقراطية

من عرض "كل الأسماء"


يجد المتلقي للعرض المسرحي أمامه احتمالات عدة: هل يرفض الدخول باللعبة ويخرج من المكان المسرحي؟ هل يدخل في اللعبة ويدافع عن معتقلين/ات لا يعرفهم/ن؟ هل يشرع في القيام بما يحلو له، أم أن عليه أن ينتظر ما يطلبه منه الموظفون ـ الممثلون. يكتب إبراهيم وطفة، المترجم الأبرز لأعمال كافكا إلى العربية: "في أغلب أعمال كافكا يدور النزاع حول هوية الشخصيات، فهل من واجب "ك" نفسه تحديد ذاته، أم أن هذا الواجب يقع على عاتق الآخرين الذين يمثلون السلطة، أو النظام. هو ضياع بين تحديد الذات لنفسها بحرية، أم انتظار القيمة المفروضة عليها من الآخرين". في رواية "كل الأسماء" لخوسيه ساراماغو التي يأخذ العرض عنوانها، تصبح رحلة موظف السجل المدني الباحث عن اسم قد عثر على سجله المدني صدفةً بين أوراقه المنزلية، هي رحلة البحث عن الآخر للعثور على الذات.




في "مستعمرة العقوبات" لا يعرف المحكوم عليه بالحكم الصادر بحقه، يقول الضابط المشرف على آلة القتل: "لن يكون ثمة جدوى من إخباره، سيعرف ذلك شخصيًا، وعلى جسده، لا يجب أن يكون الذنب موضع شك أبدًا. إن المحاكم الأخرى لا تستطيع أن تتبع هذا المبدأ، لأنها تتكون من عدة آراء، ولديها محاكم عليا تدقق النظر فيها. ولا يجري الأمر على ذلك النحو هنا". وفي مسرحية "كل الأسماء" هنالك قصص لسبعة معتقلين/ات افتراضيين/ات؛ طالبة فنون جميلة، مصور وصحافي، رسام كاريكاتير، عامل، أستاذ جامعي، مهندسة، موظف حكومي، موزعة على مئات الأسماء. تم رسم حكاية لكل معتقل على حدة. بعد تحديد السمات العامة للشخصية تم بناء ملف لكل معتقل يحوي على ذاتية، بطاقة بحث، مذكرة توقيف، تقرير، ضبط تحقيق، قائمة الاتهامات. تبدأ علاقة المتلقي مع المعتقل من لحظة سحب اسمه على الباب. ويرسم ملامحها تباعًا كلما تقدم في المعاملة الإدارية من فضاء إداري إلى آخر.



البحث في بنية النظام البيروقراطي
في التحضيرات للعرض، أقيمت دراسات بحثية عن طبيعة التقسيمات الإدارية للأجهزة الرقابية، وعن كيفية التعامل مع الأرشيف والمراجعين، وجاء في البيان المرافق للعرض: "هو محاولة بناء نظام إداري يقارب أنظمة إدارة الأفرع الرقابية. المتلقي القادم ليتابع عرضًا مسرحيًا لن يجد نفسه في مسرح، بل سيبدو تائهًا في أقبية وسراديب، وسيجد نفسه مسؤولًا عن ملف أحد المعتقلين في فرعٍ أمني؛ ينتقل من فضاءٍ إلى آخر، يُساءَل ويُحقَق معه من قبل مؤدّين، ويستلم أخيرًا تحويلًا إلى السجل المدني، حيث تُستلم شهادة وفاة المعتقل الافتراضي الذي تابع ملفه في العرض". إذًا، أيًا من الأسماء التي يختارها المتلقي في بداية العرض ستنتهي إلى حقيقة موت المعتقل/ة. وفي النهاية، يجد المتلقي في يده بدلًا من ورقة شهادة الوفاة، ورقة كتبت عليها الفقرة التالية المقتبسة من رواية "كل الأسماء" لساراماغو:
"فريدةٌ دومًا نهاية العالم"
رأيتُ أحصنةً ملويةَ العنق
رأيتُ أشجارًا يابسة
رأيتُ دمًا يتخثَّر
وزبدًا يفيض.
كُلُّ الأسماء ماتت
بعضها دُفِن، وبعضها نهشته الوحوش
مَنْ يموت يأخُذ عالمًا بإمضائه معه".



متاهة الأنظمة الرقابية

ملصق عرض "كل الأسماء" 


يتوسع النظام الرقابي البيروقراطي من الأقبية والسجلات الإدارية والمعتقلات ليشمل كامل المدينة والحياة في الفيلم الفلسطيني "بين الجنة والأرض"، من إخراج نجوى نجار. النظام الرقابي في الفيلم يتمثل في الحواجز الإسرائيلية المفروضة على المدن والبلدات الفلسطينية. "سلمى، تمثيل منى حو" و"تامر، تمثيل فراس نصار" فلسطينيان في الثلاثينات من العمر متزوجان منذ خمس سنوات. سلمى من الناصرة، وتامر ابن مناضل مثقف فلسطيني تم اغتياله في بيروت. لأول مرة يحصل تامر على إذن لعبور نقطة التفتيش الإسرائيلية ليقـدم طلـب الطلاق من زوجته. في المحكمة في الناصرة، يكتشف الزوجان سرًا من ماضي والد تامر، ولديهما ثلاثة أيام للعثور على المستندات المطلوبة قبل انتهاء صلاحية التأشيرة.




كما في أعمال كافكا وساراموغو فإن خطأ إداريًا بسيطًا في كتابة اسم والد تامر يؤدي إلى رحلة طويلة من اكتشاف العالم والذات. كل حاجز إسرائيلي تعبره الشخصية الفلسطينية تتطلب سؤالًا عن الهوية، وتحديدًا لسمات الذات. في متاهة الحواجز الإسرائيلية التي جعل المخرج إيليا سليمان من عبورها حلمًا فانتازيًا لدى الفلسطيني، حين رمز لها ببالون يعبر فوق الحواجز والأسلحة في فيلم "يد إلهية"، في هذه المتاهة يفرض على الفلسطيني هويةً يرسمها له صاحب القوة المفروضة، مؤسس المتاهة الإدارية والبيروقراطية، كما في معظم الأنظمة الرقابية والعقابية.



هامش:
(*) "كل الأسماء": إخراج: علاء الدين العالم؛ دراماتورجيا: هشام حميدان؛ سينوغرافيا: كرم بو عياش؛ التصميم الصوتي والبصري: نورما برنية؛ تمثيل: صبا كوراني، ماهر أبو مرة، حمزة حمادة، غريس الأحمر، أديب رزوق، معن حمزة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.