في لقاء تلفزيوني شهير، ربما يرجع لمنتصف الثمانينيات، انتقد المذيع مفيد فوزي المطرب الشاب عمرو دياب. الانتقاد انصب على أسلوب الملبس والحركة على المسرح، وكذلك على الموسيقى التي يقدمها. ولكي يقوي موقفه، ذكر المذيع أن عبد الوهاب يرى أن الجمهور قد مات. كان عمرو دياب حينها قد أحدث ضجة في الأوساط الفنية، وحقق حالة جماهيرية يصعب معها تجاهل أغانيه وحفلاته، إذ تزاحم عليها الشباب وشكّل ظاهرة. جواب عمرو على مفيد فوزي كان مركزًا: حضر حفلتي 30 ألف فرد، هل هم موتى؟ وأشار كذلك إلى مبيعات "من غير ليه"، وسأل: هل الجمهور مات وصحي لها؟ اللقاء جاء في لحظة كان بالفعل عمرو دياب ينافس عبد الوهاب ويتفوق عليه في مبيعات شرائط الكاسيت.
معركة عمرو دياب في الثمانينيات كانت الخروج على الباراديغم الجمالي الذي أسسه منذ عقود مطربون من نوعية عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ، وهو باراديغم لا يمكن تلخيصه في الموسيقى وحدها، وإنما في صورة المطرب، الجاد، المرتدي بدلة وكرافتة ويقف أمام الميكروفون على المسرح، أو في حالة أم كلثوم المطربة السيدة الوقورة. عمرو كسر هذه الصورة مبدئيًا بتنطيطه على المسرح وبرقصه وبحركته بالميكروفون في يده. ثم يأتي بعد ذلك الموسيقى، السريعة والديناميكية، المعتنية بالحركة وليس بالكلمات العميقة. كان عمرو مرفوضًا على المستوى النقدي ومن أجيال المطربين والموسيقيين السابقين، لم يكن هذا الطرب ما اعتادوه، كان مطرب بوب في مواجهة موسيقى كلاسيكية. في مقابل الجيل القديم، كانت جماهيرية عمرو قادمة من الجمهور، من قدرته على التعبير عن اللحظة، ومن المتلقي المتعطش لموسيقى جديدة تشبه الموسيقى الغربية وتعتمد الحركة.
كان رفض عمرو دياب، إذًا، يتعلق بصورة المطرب. فهو في النهاية مطرب وسيم، من أبناء الطبقة الوسطى، دارس للموسيقى. ليس إلا متمرد على الأشكال القديمة ويعِد بموسيقى جديدة. وهذه ليست حالة مطربي المهرجانات، إذ أنهم قادمون من طبقات فقيرة، لم ينالوا حظًا من التعليم ولا يفهمون في الموسيقى الأكاديمية.
ظهرت موسيقى المهرجانات على نطاق واسع في القرن الجديد، في نهاية عقده الأول، وإن كانت معروفة من قبل في حفلات الأفراح الشعبية. لقد ظلت لسنوات في الهامش قبل أن تنتقل مع التكنولوجيا الجديدة إلى الإنترنت، وارتبطت في الأساس بالموسيقى الإلكترونية، ذات اللحن الواحد والإيقاع الثابت، فلا تحتاج إلى فرقة موسيقية ولا إلى آلات صعبة. وفي حدودها الأولى، في أفراح الأحياء الشعبية وعلى أطراف المدينة، كانت مقبولة ومرحبًا بها، كانت في مكانها الطبيعي وسياقها المناسب. ورغم أن روادها الحقيقيين مجهولون، إلا أن أوكا وأورتيغا هما أشهر من نقلاها من الهامش إلى المتن.
تحفل أغاني المهرجانات، ومفردها مهرجان، وهي الكلمة المستخدمة كبديل لكلمة أغنية، فهم يصنعون مهرجانًا لا أغنية. تحفل بالأوصاف الجنسية، والكلام الخارج، والسباب، كما تستخدم باستفاضة لغة الشارع بدون إخضاعه للفن المتفق عليه، مستخدمة كلمات تصفية الحسابات والإهانة للأعداء والأصدقاء الأنذال، لكنها تتناول كذلك موضوعات اجتماعية. كل ذلك في قالب موسيقي سريع، صاخب، ضجيجي، يخالف تمامًا كل أهداف الأغنية السابقة والموسيقى المعتادة من حيث أنها أداة للطرب وإثارة العاطفة. هي بذلك موجهة إلى مستمعين شباب، محبي الحركة، ينتمون إلى نفس الهامش الذي خرجت منه المهرجانات. لكن الجمهور المتلقي، بوصول هذه الأغاني إلى الإنترنت، لم يعد الجمهور المحدود المدعو لحفل زفاف على مسرح في عرض شارع في حي شعبي.
غزت المهرجانات المدينة والأحياء الراقية، لاقت هوى في نفوس مستمعين متعطشين لموسيقى جديدة بعد أن تكلست الموسيقى المصرية في مرحلة موسيقية أسسها حميد الشاعري مع عمرو دياب، على مستوى الأغنية العاطفية، أو في مرحلة عبد الباسط حمودة وحسن الأسمر، في الأغنية الشعبية. أبناء الطبقة الوسطى من الجيل الجديد، بالتساوي مع أبناء الطبقة الفقيرة والشعبية، كانوا يبحثون عن شيء آخر، إما شيء جديد عليهم (الطبقة الوسطى) أو شيء يعبّر حقيقة عنهم (الطبقة الفقيرة). الاثنان وجدا في أوكا وأورتيغا ثم حمو بيكا وشاكوش، هذا الجديد. لكن هذا الانتقال كان له ثمنه الفادح ومؤثراته السلبية على نفس الأغنية.
لقاء عمرو ومفيد فوزي
الموسيقيون القدامى، أمثال حلمي بكر، لم يتقبلوا هذا التجديد بذريعة أنه "دوشة وليست موسيقى"، وانضمت إليهم الطبقة الوسطى المحافظة بذريعة مختلفة، الألفاظ المستخدمة في الأغاني لا تناسب نقاء لغتهم، هم يريدون أغنية "عائلية" يسمعها كل أفراد الأسرة بدون خجل من ذكر أعضاء جنسية أو علاقات محرمة. في نفس الوقت، لا يتمتع مطربو هذه المهرجانات بأي تأطير نظري لموسيقاهم، كأن المانيفستو الموسيقي الخاص بهم عملي، لا يستخدم التنظير ولا يعرف إلا التسلل السريع. أبناء الحارات والأزقة، سائقو التوكتوك والميكروباصات، أصحاب محلات عصير القصب وبائعو الموبايلات في شارع عبد العزيز، لا يحتاجون إلى تنظير، ولا ينتظرون موافقة الجهات الأمنية لسماع موسيقى تعبر عنهم. كان في صالح أغنية المهرجانات أن مغنيها يشبهون القطاع العريض من الشعب، يتكلمون مثلهم بالضبط ويحكون مشاكلهم بالضبط، لأنهم أبناء هذه الطبقة. لكن، من ناحية أخرى، كان هذا سببًا كافيًا لترفضهم الطبقة الوسطى، وبالتالي العليا، خاصةً بعد أن حققوا نجاحًا لم يحدث جماهيريًا في الموسيقى المصرية على مر العصور، فبعد ساعات قليلة من تحميل المهرجان على اليوتيوب، يحقق نسبة مشاهدة بالملايين. كان الرفض الموجه لهم رفضًا طبقيًا، فـ حمو بيكا، مثلًا، كان تبّاعًا على ميكروباص بالإسكندرية، كل مهمته في الحياة لم الأجرة من الركاب، ثم في غمضة عين صار أحد أثرياء مصر، والمطرب صاحب الجماهيرية العريضة؛ حد أن حفلة له في الشارع، كما كان يحدث قبل سنوات، صارت ممنوعة لأسباب أمنية، إذ لا يمكن السيطرة على كل الأعداد الغقيرة المتوقع حضورها في حفلة مهرجانات. حمو بيكا أيضًا يفتقد للوسامة والأناقة التي اعتاد الجمهور رؤيتها في المطرب، وهو سبب إضافي لتنبذه الطبقة الوسطى.
حمو بيكا أيضًا يفتقد للوسامة والأناقة التي اعتاد الجمهور رؤيتها في المطرب، وهو سبب إضافي لتنبذه الطبقة الوسطى |
إذا كان مطربو المهرجانات يفتقدون للتنظير لموسيقاهم، فهم يفتقدون أيضًا للتمرد على المجتمع "الجديد" الذي صار أو سيصير جمهورًا. كانت جرأتهم الأولى في أغانيهم نابعة من ثقتهم في جمهورهم الأول وعلمهم أن هذه المهرجانات تناسبهم وتبسطهم. ثم فجأة، مع انتشارهم، بدؤوا يفكرون في الجمهور الجديد من الطبقة الوسطى، وبدأت تطلعاتهم للدخول في نقابة الموسيقيين والاعتراف بهم كمطربين رسميين. هنا بدؤوا يعدون بالتخلي عن القباحة وانتقاء الألفاظ، وإعداد أغانيهم السابقة من جديد بكلمات مهذبة. والسعي لنيل رضى السلطة الفنية، بالتوازي مع رضى السلطة الأمنية. فانتشار "العيال دي" بات مؤرقًا للأمن في وقت لم يكن مسموحًا فيه بأي تجمعات، حتى المباريات تقام بدون جمهور، خشية أن يتحول التجمع إلى مظاهرة. موقف المؤسسة من هؤلاء المطربين يشبه موقفها من أحمد عدوية في السبعينيات، لكن الفرق شاسع بينهم وبين المطرب الشعبي الأكثر جماهيرية منذ السبعينيات، إذ لم يتغير عدوية لمراضاة أحد، بل سعت المؤسسة على الدوام لضمه والمتاجرة باسمه بعد أن حقق جماهيرية كبيرة كمطرب للشعب، حتى لو كان مرفوضًا من طبقة مستمعي عبد الوهاب.
لا يمكن الجزم بأن خضوع مطربي المهرجانات لشروط المؤسسة ناتج عن انتهازية أو عدم وعي بأهمية منتجهم الفني، إذ يبقى احتمال آخر لا يمكن إنكاره: الخوف من التعرض لمشاكل مع الأجهزة الأمنية، أو تعرضهم للسجن في ظل الاعتقالات العشوائية. وهم، كما يقدمون أنفسهم دائمًا، مجرد "ناس بيحبوا يغنوا"، وليسوا مناضلين سياسيين. هذا الخوف دفعهم لإعلان الولاء للسلطة والتبرع لصندوق تحيا مصر، التابع لرئاسة الجمهورية مباشرةً. وعلى المستوى الفني، حافظوا على موسيقاهم لكن هذّبوا كلماتها لتناسب العائلة المصرية الطبقة وسطية. هذا الخضوع نابع أيضًا من شعور طبقي، شعورهم الذي لازمهم طول العمر بأن الطبقة الغنية هي الطبقة الأفضل بالضرورة، وأن فقرهم وعدم تعليمهم مشكلة تخصهم هم أنفسهم وليست مشكلة نظام الدولة، ما خلّف فيهم شعورًا باحتقار أنفسهم. لم ينقذهم الثراء ولا الشهرة من الشعور بالدناءة، فظل هدفهم مراضاة الطبقة المهذبة المتربية، التي تعلم أولادها في المدارس الخاصة أو الأجنبية، وعملوا لما كبروا في القضاء أو في أي سلطة أخرى.
ثمة انفصال هائل بين طبقات المجتمع، أغلبية شعبية وأقلية ثرية. مع ذلك، تسعى الطبقة الثرية لتفرض شروطها الفنية على المنتج الذي يعبّر عن الأغلبية. المسألة الأخرى، أن الطبقة الوسطى تتبرأ من هذا المنتج الموسيقى، تنسبه لطبقة شعبية لا تعرف عنها شيئًا، لا تعترف به باعتباره أهم تطور موسيقى حدث في الثلاثين عامًا الأخيرة. وعلى عكس حالة عمرو دياب، وبشبه شديد لحالة عدوية، هو رفض طبقي صرف.
حمو بيكا، هاتلي فوديكا وجيفاز