(1)
قدمت صالة الجسر، التي يديرها الفنان الضوئي السوري عيسى توما، عرضًا خاصًا للفيلم القصير "شباب في حلب".
حاول الفيلم، في خمس عشرة دقيقة، رصد بعض التحولات التي حصلت لثلاثة شبان: "إيفا"، و"سارة"، و"عبد"، هم في منتصف العشرينات من أعمارهم، من مواليد أواخر التسعينيات من القرن الماضي، ونشأوا في سنوات الحرب.
شكلوا عينّة خاصة من جيل ما بعد هزيمة الانتفاضات الشعبية العربية تفلّت من المقولات الكبرى عن التحرر والتقدم والوحدة العربية، التي اعتاشت عليها أنظمة ما بعد الاستعمار، وحرصت على ترسيخها كمقولات أيديولوجية معيارية، تهافتت خلال سنوات حكمهم، وأجهز عليها في سنوات الحرب، حيث تقسمت البلاد، واستعديت الجيوش والمليشيات الأجنبية، وتنامت الخطابات الطائفية والعنصرية...
نقلته الوقائع القاسية التي عاشها للاهتمام بتفاصيل حياته اليومية، وإيجاد مخارج واقعية لمشكلاته، معتمدًا على إمكاناته الذاتية، ساعيًا إلى تطويرها بتعلم اللغة الإنكليزية، والإلمام بمبادئ الحاسوب والتقنيات الأخرى، يتحفز بزوادته الثقافية المتواضعة للخوض في حوارات فكرية لا تربكها النتائج التي يمكن أن تقود إليها.
ويبقى أنه يكافح بهدوء لتجنب وصول الهزيمة الى حياته والتحكم في مساراتها.
تباسط الشبان الثلاثة في سرد انتقائي لحيواتهم الشخصية، التي اضطرتهم إلى تفسير بعض وقائعها للانتقال إلى أنماط التربية التي نقلها إليهم آباؤهم ومحيطهم العائلي.
وجدوا بين أطلال المدينة المدمرة مكانًا لحواراتهم، لخلوها من السكان، وبعدها عن الرقابة.
نلتقي في البداية بـ"إيفا" المنحدرة من أصول كردية، واقفة أمام المرآة تجهز غطاء رأسها استعدادًا لمغادرة بيتها. تعرّف نفسها بكونها اختارت التدين طواعية، باستغراب من أسرتها ذات التدين الشعبي غير المتكلف. عمقت خيارها بقراءة بعض الكتب الدينية للتزود بثقافة فقهية، وزيارة المشايخ للاستفسار وإجلاء القضايا الغامضة التي كانت تواجهها. وننتقل معها إلى المسجد لنراها تصلي، لتبلغنا في النهاية أنها قررت وضع الحجاب في عمر السابعة عشرة، وتخلت عنه في عمر الثالثة والعشرين، للتصالح مع قناعاتها الجديدة.
في حين تعيش "سارة"، المنحدرة من أصول عربية تعود إلى أرياف مدينة منبج، حياة مزدوجة، ترتدي الحجاب أمام أسرتها وفي محيط مكان سكنها، وتخلعه في الأماكن التي تعمل وتلتقي فيها بأصدقائها. تتحدث في إسهاب عن حواراتها مع والدها، التي حصرتها بموضوع الحجاب، وتبلغ صديقيها عن ذهابها إلى المسبح، رغم أنها لا تعرف السباحة، كأنما تبلغهما عن تعرفها على نفسها ومزاجها ورغباتها البسيطة، وتعلن في النهاية عن نية والدها إعادتها إلى القرية، لنقل سلطته عليها إلى سلطة أشد تقليدية، ووضعها داخل إطار رقابي لا يقبل التفاوض.
ويعيدنا "عبد"، المنحدر من أحد أحياء حلب القديمة القريبة من القلعة، إلى طفولته وفتوته، حيث درس في الثانوية الشرعية لما قبل حصوله على الشهادة الثانوية، التي اضطر إلى مغادرتها بعد نزوحه من بيته للسكن في حي آخر، بعد دخول تنظيمات المعارضة المسلحة إلى المدينة. يسترجع في زيارته إلى مدرسته المدمرة ذكريات في محل ألعاب الكومبيوتر، الذي كان يمضي إليه التلاميذ فور خروجهم من المدرسة.
لا يشعر المشاهد بموقف انعطافي، أو حالة نوعية صادمة تسببت في تحول سلوكي، بمعنى أن التحولات البسيطة في حياتهم حصلت بالتدريج، ونمت مع شروط حياتهم، بعد انتقالهم إلى الجامعة، والعمل، وقراءة الكتب.
(2)
أن تبقى حيًا وواقفًا، وكل ما حولك قد تحول إلى أنقاض، شبان من جيل "مكسور الخاطر"، أرادوا التعويض عنها بخلق حالة من التوازن مع الذات.
جالت الكاميرا بين عالمين متباينين، الأماكن المدمرة، ساحة الحطب في قلب حي الجديدة، جامع العثمانية، جامع الخسروية ومدرستها، وهي من أوائل المنشآت العثمانية في المدينة، والسرايا الحكومي من أوائل المنشآت فترة الانتداب الفرنسي. وبين الأحياء الناجية من التدمير، التي سكنتها الفئات الاجتماعية الثرية: أحياء العزيزية، ومتنزه السبيل، والجميلية.
لم يأت الشبان على ذكر ما حصل بعد مارس/ آذار 2011، ربما لصغر أعمارهم. تجهل الشابتان أحياء المدينة القديمة، وكثيرًا من منشآتها العمرانية، إذ تسكن "سارة" في حي الإسماعيلية، وهو من الأحياء التي عبرت عن التوسع العمراني الحداثوي في أواخر الحكم العثماني، وبات اليوم مع توسع المدينة من الأحياء التقليدية التي تحمل إرثًا مدينيًا. هو حي مرسوم بحدود غير قابلة للتوسع، بينما تسكن "إيفا" في حي الأشرفية، وهو من الأحياء التي استوعبت في بدايات القرن موجات الهجرة الأرمنية التي لحقتها هجرات أهالي الريف الشمالي القريب من المدينة، لينتقل بعدها إلى استيعاب هجرات من الريف الكردي. حمل الحي الذي لم يتوقف عن التوسع ملامح الضواحي والعشوائيات. بينما سكن "عبد" في حي قريب من القلعة، وانتقل بعد الحرب مع أسرته إلى حي "حلب الجديدة"، الذي نشأ من جمعيات سكنية متنوعة في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وحملت عماراته الجميلة وشوارعه المنتظمة والمحددة بدقة هندسية توق محدثي الثراء والفئات العليا من موظفي الدولة للرفاهية.
اختار الشبان الثلاثة زيارة السرايا، المركز الرمزي للسلطة. هو اليوم مبنى مهدم، لم يبق منه إلا جدار واحد وسلالم معطوبة احتاج تسلقها إلى مجازفة، وهو ما قاموا به. "لأن رؤية مشهد غروب الشمس يستأهل هذه المجازفة"، وفق تعبير إحدى المشاركات بالفيلم.
يبلغهما "عبد" أن طائرته بعد يومين، سيغادر للعمل وتجميع المال الكافي لسداد البدل عن الخدمة العسكرية الإلزامية، سيستغرق غيابه سنوات، وربما لن يعود. تتفق الصديقتان على دعوة أصدقائهما الآخرين إلى أحد مطاعم المدينة للقاء وداعي مع "عبد".
تبقى "إيفا" وحيدة في حلب، تحاول تجاوز وحدتها بالتدرب على قيادة الدراجة الهوائية، يساعدها "عبد" قبل أيام من سفره، وتكملها شابة تصادفها "إيفا" في الشارع، وتقدم ببساطة على مساعدتها. ويختم عبد الفيلم بعبارة سمعها من أمه التي كانت تعلق على حدث ما "سمعت أمي عم تقول: هي حرية شخصية"، الناس في حلب لا تريد العودة إلى الوراء.
(3)
أظهرت الحوارات الحرية الشخصية، ومنها الحجاب الاختياري. الحوارات مترفة تصل إلى حد البطر، في وقت وصل فيه الناس إلى حافة الجوع والتسول، وإلى افتقاد معظم أساسيات العيش، من كهرباء ومواصلات وأدوية.
ونبقى أمام جيل شاب، يشكل في مجموعه أغلبية السكان في سورية والبلاد العربية، يريد النهوض واستئناف مسيرة حياته، متجاوزًا الجيل الذي سبقه الذي بحث عن خلاصه، بالتعلق بخشبة الانتفاضات الشعبية، ليجد نفسه معلقًا عليها، ومنسيًا في سجونها وقبورها الجماعية، أو مرميًا في أطراف الأرض. دماء جديدة تتدفق في شريان حياة بزغت كنباتات عنيدة من بين ركام الأنقاض.
مخرج الفيلم، عيسى توما، من مواليد حلب، ويعيش فيها، نظم اثني عشر معرضًا تحت اسم "اللقاء الدولي للتصوير الفوتوغرافي"، وثماني معارض "اللقاء الدولي لفنانات من العالم"، وأخرج فيلمًا قصيرًا "تسعة أيام من نافذتي في حلب" (2015)، الذي حاز على الجائزة الكبرى لمهرجان الأفلام الأوروبية.
(حلب)