(1)
يمكن إدراج سيرورة تكون حزب العمل الشيوعي، في نسق الحركية العالمية لتشكل اليسار الجديد... من البرازيل، إلى الأورغواي، ونيكاراغوا، مرورًا بالمملكة المغربية، والجزائر، وتونس، ومصر، وصولًا إلى تركيا، وإيران.
تميزّ حزب العمل الشيوعي في مساره العربي بكونه ردًا من موقع يساري (هنالك ردان آخران على الهزيمة العسكرية، الرد الإسلامي الذي عبرت عنه حركات الإسلام السياسي والإسلام السلطوي، ورد السلطات الحاكمة التي قامت بتحولات أشبه بانقلابات بيضاء، وأعادت تجهيز جيوشها لحرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، التي ساهمت نتائجها بتحريك جمود المفاوضات مع الكيان الصهيوني) على هزيمة الخامس من يونيو/ حزيران 1967، بوصفها تعبيرًا عن أزمة السلطة الحاكمة، وعجزها عن حل المسألة الوطنية، بالتساوق مع أزمة الحركة الشيوعية العربية، وفشل الحركة الشيوعية العالمية المرتبطة بالتجربة السوفياتية في تقديم إجابات ومبادرات ثورية لأزمة المجتمعات التي تكونت فيها التنظيمات اليسارية الجديدة.
في الشرط التاريخي العربي، كانت الهزيمة العسكرية لجيوش ثلاثة أنظمة عربية، هي ذاتها كانت قد وصلت إلى السلطة بانقلابات عسكرية، أي من خلال استخدام الجيش في السياسة.
كانت هزيمة 5 حزيران 1967 الفاعل الرئيس لسلسلة متعاقبة من التحولات الفكرية ـ التنظيمية، شملت أهم تنظيمين قوميين، حركة القوميين العرب التي انبثقت عنها الجبهتان الديمقراطية والشعبية لتحرير فلسطين، وامتدت لتشمل تنظيماتها القومية في لبنان وسورية واليمن وإقليم ظفار...، وجزئيًا حزب البعث الذي خرج منه حزب العمال الثوري العربي، وتفعلّت قواعده العمالية والطلابية بالحوارات السياسية، لتنتج في ما بعد تنظيمًا مستقلًا سيعرف باسم حزب البعث الديمقراطي العربي.
تدفقت من بيروت الكتابات والنقاشات، وتأسست دور نشر باستراتيجيات فكرية جديدة، وتم إصدار صحف ومجلات ونشرات حزبية علنية وسرية.
تكونت حلقات ماركسية في المدن السورية تفعلت داخلها النقاشات السياسية والأيديولوجية واللقاءات التثقيفية، تزامنت مع خروج مجموعات وأفراد من الحزب الشيوعي، وحزب البعث، وحزب الاشتراكيين العرب، وحركة القوميين العرب.
تأسست بالتوازي معها تنظيمات مستقلة... اتحاد الشغيلة، والفصيل الشيوعي، وحزب العمل الاشتراكي، كفرع للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين... المنظمة الشيوعية العربية...
تحدي إنتاج تنظيم شيوعي جديد، وإسباغ الشرعية عليه، بوجود حزبين شيوعيين بماض طويل، استمدا شرعيتهما من ارتباطهما بالمرجعية السوفياتية، والتحالف مع السلطة الحاكمة. خاض التنظيم الجديد كفاحه السياسي والفكري لانتزاع وجوده والاعتراف بشرعيته، وتقدم بمبادراته للحوار مع الحزبين الشيوعيين، لكن ووجه بالصد، ولم يرحب به، بل سارع الحزبان لحصاره بالتخوين وحزمة من الافتراءات، وقد يكون تبرير ذلك، تحالف الحزبين مع السلطة في إطار الجبهة الوطنية التقدمية.
زادت تبعات الشرعية الشيوعية، بعد تتالي انشقاقات الحزب الشيوعي السوري، الذي خرج منه إثر التفاعل مع هذه الهزيمة مجموعة المكتب السياسي، وسيخرج منه إثر الصراع السياسي بين السلطة وجماعة الإخوان المسلمين، تنظيم منظمات القاعدة، وسيخرج إثر الأزمة ذاتها وبعد مؤتمر لجماعة المكتب السياسي، انشقاق سيعرف بحركة اتحاد الشيوعيين.
الاعتقال المديد هو السم الزعاف الذي أرغم الحزب على تجرعه، لم يكن الاعتقال بمثابة استراحة المناضل، وفق التعبير اللينيني، إذ ستغدو سنوات الكفاح المحدودة قياسًا للاعتقال المديد هي استراحة المناضل.
(2)
التقى ممثلو الحلقات المنتخبون في ثلاثة اجتماعات، أسفر آخرها الذي عقد في مدينة حلب عن إعلان ولادة رابطة العمل الشيوعي، 1977.
انطلق كفاحها على محورين: إنتاج خطها الفكري وبلورة أطروحاتها السياسية، والصمود أمام آلة القمع السلطوي، التي لم تتأخر عن اعتقال أعضائها لوأد التجربة في مهدها. كافحت الرابطة لتكون جزءًا من المشهد السياسي من موقع الجماهير الشعبية، في الصراع الضاري بين السلطة وجماعة الإخوان المسلمين (1979 ـ 1982)، وخلال غزو الجيش الصهيوني للبنان 1982، والصراع بين أقطاب السلطة 1983، والمساعدة في إنتاج تشكيلات سياسية قاعدية "اللجان الشعبية"، و"اللجان الديمقراطية". جرى كل ذلك بنضال سري مرير استنزف الحزب بمئات المعتقلين، واستشهد عدد من رفاقه تحت التعذيب.
أجمع المتحاورون على نهاية تجربة حزب العمل الشيوعي عام 1992، بعد سلسلة اعتقالات جرت في العام ذاته وأتت على من تبقى من الأعضاء، واعتبار أن التجربة التي بدأت في عام 2005 لإحياء التنظيم تجربة جديدة، تفتقر إلى البرنامج والمشروع السياسي، كما أنها لم تقم بأي مراجعة للتحولات العالمية التي وقعت بعد انهيار التجربة السوفياتية والتجارب التي دارت في مدارها الفكري والسياسي.
تفعلت داخل السجون مقاربات نقدية للتجربة التنظيمية والفكرية، وكان للتغييرات العالمية دور فيها، تراكب مع الأوضاع المحلية والعربية، عبرت عن ذاتها بتمايزات متباينة، تمحور أحدها حول مركزية المسألة الديمقراطية بمقاربات مختلفة، وثانيها حول مركزية المسألة الوطنية بمقاربات مختلفة أيضًا، في حين طوق أغلبية المعتقلين سوار من الانكسار، ويأس من التغيير، نتيجة الاعتقالات الطويلة وانعكاساتها المدمرة على البنية الذاتية ومحيطها الأسروي، بالتوازي مع انكشاف تنظيمي من الصعوبة تداركه، هو الناتج عن الاعتقالات الواسعة. معرفة أماكن الإقامة الجديدة للمتحدثين (أغلبهم غادر سورية بعد 2011) الذين تناثروا في أربعة أطراف الأرض، من روسيا، إلى ألمانيا، وفرنسا، مرورًا ببلغاريا، وهولندا، والسويد، وصولًا إلى كندا، نعرف عمق الأذيات التي لحقت بهؤلاء المناضلين المجهولين، وحجم الرعب الذي يسببه لهم احتمال العودة الى أقبية التعذيب والسجون.