}

مهرجان طوكيو السينمائي الدولي: بين أحلام فندرز وأكتاف أوزو

طوكيو_ ندى الأزهري 30 أكتوبر 2023
أن تقول إنك في عالم آخر حين تكون في طوكيو، فهذا لم يعد جديدًا. لليابان خصوصيتها التي تبدأ مع بدء مراسلات مع يابانيين للقدوم إليها. أشهر عدة قبل مهرجان طوكيو السينمائي الدولي تبدأ تحضيرات مع المدعوين، تنظيم دقيق للغاية، وللغاية تعبير قاصر. لا تترك شاردة أو شيئًا لصدفة، أو لآخر لحظة. إن تأخر ردّ منهم على سؤال، أي لم يصل بعد دقائق من إرساله، فرسالة الرّد ستحتوي بالتأكيد اعتذارًا عن هذا "التأخير"، وشكرًا على "صبرنا" عليه، وإن أدركوا فجأة أن رسائلهم كثرت، فاعتذارات أخرى تتقدم الرسالة عن هذا "القصف" الإلكتروني، ودائمًا، ومع كل رسالة شكر للمرسل إليهم "لدعمهم المتواصل للمهرجان".
المعلومات كافة، والبرامج، تصل بغزارة في تفاصيلها وشروحاتها. وخارج هذا العالم الافتراضي البالغ التهذيب والتقدير، فإن الواقع لا يختلف حقًا، يتجسد هنا في انحناءات متكررة للتحية، في وجود فريق من المهرجان مكوّن من شابات وشباب أمام كل صالة عرض للتعبير معًا بصوت عال وابتسامات مرحبة بـ"آريغاتو غوسايماس" للشكر على الحضور. يتجلى التهذيب والاحترام كذلك في استعداد تلقائي لتلبية أي طلب أو سؤال. لا تكتفي إحداهن مثلًا بتعبير عن أسفٍ صادق وحرج لعدم التمكن من فهم سؤال بالإنكليزية، والمتحدثون بها قلائل هنا، عن مكان صالة عرض فيلم، تسعى فورًا لاستدعاء من يتحدثها طالبة من السائل الصبر، وما إن يأتي الشخص المنتظر حتى يتبدى شعور بارتياح، وتنفس الصعداء، بكل ما تعنيه الكلمة، كأن أمرًا خطيرًا تمّ حله.
مدير مهرجان طوكيو السينمائي الدولي (23 أكوبر/ تشرين الأول ـ 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023) اعتذر في بداية كلمته في حفل الافتتاح عن التأخر، دقائق قليلة لم يشعر بها حقًا الضيوف، لكنهم هم شعروا بها. التأخير كان بسبب السجادة الحمراء التي مرّ عيها مئتا ضيف، وتجمّع حولها يابانيون بكل انتظامٍ، بالطبع، طالبين من بعض النجوم التوقيع، ولقد طال هذا أكثر من المتوقع. كان هنالك المخرج الألماني فيم فندرز، الذي يترأس لجنة التحكيم الدولية، والذي عرض فيلمه "يوم مثالي" (2023)، في حفل الافتتاح.




فندرز صوّر الفيلم في طوكيو مع ممثلين يابانيين. كانوا هنا سعداء على ما يبدو بذلك، وبفوز الممثل الياباني ياكوشو كوجي بجائزة التمثيل في مهرجان كان الأخير 2023. جسد هذا الممثل على نحو رائع دور عامل تنظيف مراحيض بسيط في طوكيو في عمله اليومي ولقاءاته اليومية والمصادفات التي تقع له. الفيلم عن أناس جرحتهم الحياة صوّر فيه المخرج طوكيو بنظرة دافئة، كما قال كوجي في الحفل، كأنه فيلم وثائقي بعيون محبة لهذه المدينة. فندرز حين صعد إلى المسرح، قال مبتسمًا: "كان لديّ حلمٌ منذ زمن أن أعمل فيلمًا في اليابان. حلمت أني صنعته، ثم حلمت أن يكون بطله الرئيسي كوجي مع آخرين، وحلمت أننا سنأخذ الفيلم إلى مهرجان كان، وحلمت أن ياكوشو سيربح جائزة التمثيل، لكني لم أحلم أنه سيمثل اليابان في الأوسكار (وقد حصل)، بل حلمت بأنه سيكون في مهرجان طوكيو، بعدها استيقظت...".

مشهد من فيلم "نمر الثلوج" 

مخرج آخر كبير صعد إلى المسرح لتكريمه في حفل الافتتاح بمنحه جائزة الإبداع عن حياته المهنية، هو الصيني تشانغ ييمو، وعلى خلاف ما يحدث في بقية المهرجانات، يصعد الضيف أولًا وحده إلى المنصة، ويتلقى التصفيق، ثم يأتي مدير المهرجان لتكريمه. ييمو معتاد على الحضور إلى مهرجان طوكيو، وسبق أن نال جائزة في إحدى دوراته، ينتمي إلى الجيل الخامس من صانعي الأفلام في الصين، ويتمتع بمسيرة مهنية استثنائية منوّعة حافظ عليها لأكثر من ثلاثة عقود. وقد قرر المهرجان أيضًا أن يعرض في قسم "غالا" الذي يتضمن أفلامًا عالمية أيضًا، فيلمه الأخير "نهر أحمر بالكامل" (2023) الذي يلقى نجاحًا شعبيَا ساحقًا في الصين. يدور الفيلم في القرن 12 خلال حكم سلالة سونغ، ويبين في أسلوب ممتع ذي إيقاع سريع وسيناريو نموذجي لنوع يسرد مؤمرات الحكام المحليين والتصفيات السياسية، وانقلاب الأدوار والتوجهات للاحتفاظ بالسلطة والقضاء على المنافسين. الفيلم الذي جذب أعدادًا كبيرة ملأوا تقريبًا صالة تتسع لتسعمئة مشاهد في طوكيو، مثّل رغبة مهرجان طوكيو بعرض أفلام جماهيرية إلى جانب الأفلام الفنية.
الصين تحضر أيضًا في المسابقة الرسمية بعددٍ أفلام مساوٍ للحضور الياباني، ثلاثة أفلام لكل منهما. منها "نمر الثلوج" المصوّر في التيبت، للصيني بيما تسيدين، الذي رحل في الربيع الفائت، يستكشف الفيلم العلاقة بين الطبيعة والإنسان عبر رحلة صحافي محلي إلى الجبال بعد سماعه عن ظهور نمر فيها، ومهاجمته القرى المحيطة. ويشارك أيضًا المخرج الياباني كيشي يوشييوكي بفيلمه "رغبة عادية" في مسابقة تتضمن 15 فيلمًا يطغى عليها الحضور الآسيوي. السينما الإيرانية مثلًا جاءت منوّعة في مصادر إنتاجها، هناك "روكسانا" لبرويز شهبازي، وفيلم من داخل إيران، وآخر من خارجها، وهو "النسخة الفارسية" للإيرانية الأميركية مريم كشاورز، وثالث "تاتامي" للإيرانية المقيمة في فرنسا زار أمير (سابقًا قبل الشهرة زهراء أمير إبراهيمي)، بالتعاون مع الإسرائيلي غاي ناتيف. من بقية آسيا، جاء "غوسبل (الموسيقى الإنجيلية) الوحش" للمخرج الفيليبيني شيرون دايوك، و"خطبة إلى الطيور" للمخرج الأذربيجاني المتفرد هلال بايداروف في عرض عالمي أول، ومن روسيا، التي بات حضورها نادرًا في المهرجانات الغربية، شارك "جوّ" للمخرج أليكسي جيرمان جونيور، كما شاركت أفلام من جورجيا، وألمانيا، والتشيلي، وإسبانيا.

المخرج الألماني فيم فيندرز رئيسًا للجنة تحكيم المهرجان 

وقد عاد المهرجان إلى برامجه الحافلة بعد أزمة كوفيد ـ 19، بحيث ازداد عدد الأفلام بنسبة 25 في المئة، ليصل إلى 219، وارتفع عدد الضيوف بمعدل الضعفين. ويرى المنظمون والمسؤولون (المهرجان تحت رعاية الحكومة اليابانية) أن المهرجان مهم لتقديم الثقافة اليابانية وفنونها، وإتاحة الفرصة لمواهب كثيرة في اليابان وفي آسيا، وهو ما عبر عنه نيشيمورا ياسوتوشي، وزير الاقتصاد التجارة والصناعة، في حفل الافتتاح.




لذا يعد المهرجان واجهة حقيقية لعرض أفلام القارة الآسيوية. وإذا كنت من محبّي ومتابعي سينما آسيا، فستكون هنالك صعوبة جمّة في اللحاق بكل عروضها، أو بجزء بسيط منها في مهرجان طوكيو. متاهة حقيقية بين البرنامج الرئيس وأقسامه العديدة والتظاهرات الموازية، لا سيما أن معظمها عروض عالمية أولى، بمعنى أنها لم تمر قبلًا على مهرجانات كبرى، مثل كان، أو البندقية، أو لوكارنو. لعلها قلعة السينما الآسيوية هنا بعد بوسان الأكثر شهرة. أحد هذه الأقسام "السينما اليابانية اليوم" المخصص للسينما المعاصرة مع عشرة أفلام، وقسم "مستقبل آسيا" الذي تعرض فيه عشرة أفلام من مختلف البلدان الآسيوية: هونغ كونغ، وماليزيا، وكازاخستان، وإيران، وإسرائيل، وتايلاند، وتركيا، والهند، واليابان. هنالك أيضًا مكان للسينما العالمية في أقسام أخرى.
لكن من بين أبرز الأحداث في الدورة السادسة والثلاثين لمهرجان طوكيو كان الاحتفال بالذكرى السنوية الـ 120 لميلاد المخرج الياباني الأسطوري أوزو ياسوجيرو، والذكرى السنوية الستين لرحيله، من خلال برامج مختلفة، بما في ذلك عروض معظم أفلامه، وبعضها خضع للترميم مؤخرًا، كما أجريت ندوات عنه، ومنها ندوة مع صانعي الأفلام المعروفين عالميًا.
وعدا التكريم الافتتاحي المخصص للمخرج أوزو ياسوجيرو، من قبل المخرج الشهير، ورئيس لجنة تحكيم المهرجان، فيم فيندرز، عرضت نسخة مرممة رقميًا لفيلمه الرائع "صباح الخير" (1959). وبعد العرض، اعتلى المسرح صناع أفلام مشهورون عالميًا، مثل الياباني كوروساوا كيوشي، والصيني جيا تشانغكي، والأميركية كيلي ريتشاردت، في مناقشة حول أعمال أوزو المفضلة لديهم، وما يمكن أن نتعلمه من "أب" السينما اليابانية بلا جدال. وسينشر المهرجان قريبا فيديو مدته 8 دقائق بعنوان "فيندرز يناقش أوزو"، يتحدث فيه المخرج الألماني الشهير عن جاذبية أعمال أوزو، ويستكشف فيه سبب انجذاب الجميع إليه، وكذلك سبب انجذابه هو نحو قصصه، التي غالبًا ما تُعد يابانية بامتياز.

مشهد من فيلم "نهر أحمر بالكامل" 

ويختتم المهرجان بفيلم عن "شخصية شهيرة" في السينما اليابانية، لكنها لطالما طالبت بمكانة فيها. سيقدّم "غودزيلا ـ 1" الوحش الخيالي للمخرج يامازاكي تاكاشي في عرض حصري للمهرجان قبل خروجه في العرض التجاري يومين بعد انتهاء مهرجان طوكيو. كان هذا الوحش ظهر لأول مرة في فيلم عام 1954، من إخراج هوندا إيشيرو، ثم ظهرت الشخصية في 33 فيلمًا يابانيًا، وخمسة أفلام أميركية. وجاء في الملخص الذي قدمه المهرجان عن الفيلم: "بعد الحرب، تحولت اليابان إلى الصفر. يظهر غودزيلا ويغرق البلاد في حالة سلبية. وفي مواجهة الوضع الأكثر يأسًا في تاريخ اليابان، كيف ـ ومع من ـ ستقف اليابان في وجهه؟".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.