}

مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة: انتصار للسينما العابرة للنوع

وائل سعيد 30 مارس 2023
من جديد، عاود مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام الوثائقية والقصيرة إصدار نسخته الرابعة والعشرين، التي دارت فعالياتها أخيرًا على مدار أسبوع، برئاسة الكاتب والناقد السينمائي عصام زكريا. وتوزعت عروض الأفلام والندوات بين قصر الثقافة بقاعتيه، ومكتبة مصر العامة، وسينما دنيا، واستقبل المسرح الكبير لقصر الثقافة حفلتي الافتتاح والختام على أنغام "السمسمية" الشهيرة في مدن القناة، وقد اختارت الإدارة في حفل الافتتاح عرض فيلمين تسجيليين عكف المهرجان على ترميمهما، وهما: "وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم، 1976"، وهو من أوائل أفلام المخرج داود عبد السيد. أما الفيلم الآخر "مقدمة حامد سعيد"، فمن إخراج مدير التصوير محمود عبد السميع.
"الفيلم العابر للنوع" هو الشعار الذي اتخذه المهرجان لدورته الجديدة. وحلّت دولة ألمانيا ضيف الشرف لهذا العام، ولذلك تم تخصيص برنامج منفصل عن السينما الألمانية للأفلام القصيرة، بالتعاون مع الرابطة الألمانية للفيلم القصير، ومعهد غوته، ومهرجان كليرمون الدولي للأفلام القصيرة. وشهدت الشهور السابقة مراحل فرز واختيار الأفلام المتقدمة لدورة هذا العام، حيث عكفت اللجان على مشاهدة ما يقارب ألف فيلم في فروع التنافس كافة، ليقع الاختيار على 123 فيلمًا، من 50 دولة عربية وأجنبية، بزيادة عن العام الماضي، سواء على مستوى عدد الأفلام، أو الدول المشاركة.

حول النوع والشكل الفيلمي
"ما هو النوع؟". ربما هو السؤال الأكبر الذي يتبادر إلى ذهن أي مُشاهد قبل الشروع في الفرجة على فيلم ما؛ هل هو روائي؟ تسجيلي؟ هل الفيلم من النوع الكوميدي، أو التراجيدي؟ رومانسي... رعب... إلى آخره. على أن هذه التصنيفات المحددة لم تتوافق وآفاق السينما ـ والفن في عمومه أيضًا ـ فكما ظهرت نصوص وروايات تنفتح على أجناس أدبية مختلفة "الكتابة عبر النوعية"؛ وجدت السينما أنها الأولى بهذا الدمج الذي يُتيح لأكثر من شكل سينمائي الانصهار، أو التجاور في عمل واحد، خصوصًا وأن منهجية الفن السابع في الأساس قائمة على اتحاد عدد من العناصر "صورة ـ كتابة ـ صوت ـ ديكور ـ إضاءة... إلخ". من هنا، ظهرت أفلام الـ"Hybrid"، وبرغم أنها ليست حديثة على الفن السينمائي؛ إلا أن تلك الأفلام بدأت تتصاعد وتيرتها في السنوات الأخيرة، وربما هي في سبيلها لتكوين اتجاه عام، أو موجه جديدة.




ويُعدُّ الفيلم المصري "حكاية شادية وأختها سحر"، للمخرج أحمد فوزي صالح، نموذجًا جيدًا لهذا الاتجاه، حيث جمع بين عنصري التسجيلي والروائي، وإن كان يميل للأخير بشكل أكبر؛ من حيث السيناريو والتمثيل، ويبقى العنصر التسجيلي الوحيد في الفيلم هو اعتماده على شخصيات حقيقية. كما أن القصة في الفيلم تكاد تكون معدومة تقريبًا، فالمشاهد لا تنير مساحات مظلمة، ولا تتوخى رسم قصة مكتملة الأركان والمعالم، الإشارة فقط لما هو معلوم، حتى وإن كان غير محدد، فحكاية الأختين هي الحكاية المتكررة لعدد كبير من النساء في مصر اللاتي يواجهن الحياة منفردات بعد تخلي الأزواج.
خصص برنامج الفيلم العابر للنوع خمسة أفلام من خمس دول "فلسطين ـ المغرب ـ لبنان ـ العراق ـ مصر"، كنماذج للعرض تحت عنوان "الأفلام الهجينة في السينما العربية"، على أن يتوافر في هذه الأفلام "استخدام تقنيات سينمائية مختلفة لإنشاء سرد فريد يمكن أن يخدم أغراضًا متنوعة لسرد القصص المرجوة"، وهو ما ظهر جليًا في الحس التجريبي المهيمن على هذه الأفلام، حين يتعامل الفيلم مع السينما "انطلاقًا من قدرتها، وليس من استخداماتها"، كما يقول الناقد الفرنسي دومينيك نوجيز.

برنامج بانورامي
المخرجة فاوستين كروس (وسط) تتسلم جائزة مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة عن فيلمها "حياة مثل غيرها"

زخر برنامج المهرجان هذا العام بعدد من الأقسام والفعاليات الموازية، ومنها أفلام تعرض خارج المسابقة، مثل فيلمي "الأسماك الطائرة" و"السر"، وأفلام بورتريه الفنان وضمت أربعة أفلام: "بيروت برهان ـ فرح هاشم/ لبنان، عمر أميرالي ـ هالة العبد الله/ العراق"، ومن سورية فيلم "صول"، من إخراج زهرة البودي، ومن مصر فيلم "رقصة لا تنسى"، للكاتب وصانع الأفلام أدهم الصفتي.
من الفعاليات المميزة أيضًا برنامج الأفلام القصيرة جدًا، بالتعاون مع مهرجان الثري كور الفرنسي "أفلام الثلاث دقائق"، وهي أفلام تتراوح مدتها بين دقيقة وثلاث دقائق كحد أقصى، ولا شك في أنها تجربة ممتعة وغريبة في الوقت نفسه؛ حيث يعتمد الفيلم حينئذ على التكثيف الشديد في الأسلوب والتقنيات لتقديم جرعة بصرية وفنية مركزة، وعرض البرنامج قرابة عشرين فيلمًا كانت غالبيتها بمثابة مفاجأة لجمهور المهرجان.
كما كرم المهرجان هذا العام ثلاثة من الأسماء في ثلاثة مجالات سينمائية مختلفة: من مصر مدير التصوير محمود عبد السميع، رئيس جمعية الفيلم، ومهرجان جمعية الفيلم السنوي. بدأ عبد السميع مشواره الفني في منتصف الستينيات، قبل تخرجه في كلية الفنون التطبيقية، ويعد أول مصور سينمائي يدخل جبهة القتال في أثناء حرب الاستنزاف 1969، حيث صور أكثر من 17 فيلمًا عن تلك الفترة الممتدة حتى حرب أكتوبر 1973. ولعبد السميع حصيلة كبيرة في السينما التسجيلية تجاوزت 200 فيلم، بالإضافة إلى عدد من الأفلام الروائية، من أشهرها: "العوامة رقم 70" (خيري بشارة 1982)، "الصعاليك (داود عبد السيد 1985)، "الجوع" (علي بدرخان 1986)، "التعويذة" (محمد شبل 1987).

فاز الفيلم العراقي "بلادي الضائعة" بالجائزة الثانية في فئة الفيلم التسجيلي الطويل

من مصر، أيضًا، ذهب التكريم الثاني للناقد والمؤرخ السينمائي محمود علي، وهو واحد من ألمع الأسماء في تاريخ النقد السينمائي المصري، لما له من جهود بحثية واضحة في التراث السينمائي المفقود، وهو ما نلمحه في عناوين مؤلفاته التي تجاوزت العشرين كتابًا، من بينها "فجر السينما في مصر ـ مائة عام من الرقابة على السينما ـ موسوعة التشريعات السينمائية". في حوار معه، يقول: كنت طوال الوقت مؤمنًا بأن فترة دخول السينما إلى مصر منذ 1896، وحتى بداية الخمسينيات، كانت فترة بلا تاريخ؛ لذلك كنت حريصًا على البحث في تلك الفترة تحديدًا.
أما التكريم الأخير فكان من نصيب المخرج مارك كازينز، وهو صانع أفلام أيرلندي تنوعت تجاربه في السينما الوثائقية (قرابة خمسين فيلمًا بين طويل وقصير)، وحظيت معظمها بالمشاركة في غالبية المهرجانات السينمائية الكبرى، مثل "كان، وفينيسيا، وبرلين". قدم كازينز ضمن برنامج الندوات "ماستر كلاس" للتحدث فيه عن تجربته مع السينما، ومن خلال كلمته أعرب عن إعجابه الشديد بصوت أم كلثوم، وبأفلام المخرج يوسف شاهين، وجمال الصورة والتشكيل عند المخرج شادي عبد السلام، بالإضافة إلى فلسفة المعماري الشهير حسن فتحي حول عمارة الفقراء.
شملت إصدارات المهرجان ستة كتب توزعت كالتالي، ثلاثة كتب للمكرمين: "محمود عبد السميع مقاتل بالكاميرا"، من تأليف أسامة عبد الفتاح، "محمود علي غواص فى بحر السينما"، من إعداد عرفة محمود، "مارك كازينز السينمائي المؤرخ والمتجول"، تحرير أروى تاج الدين. أما الثلاثة كتب الأخرى فهي: "ملامح الفيلم الإثنوغرافي"، إعداد د. حسين عبد اللطيف، "موسوعة المخرجين العرب"، إعداد محمود قاسم، "الصحافة الفنية" حلقة بحثية.
إلى جانب ذلك، ضم البرنامج عددًا من الندوات، مثل "الاقتصاد وعلاقته بالسينما"، و"حقوق الملكية الفكرية"، وندوة عن المخرج الراحل سميح منسي، فضلًا عن أربع ورش فنية اشترك فيها أطفال وشباب مدينة الإسماعيلية عن الرسوم المتحركة، والصلصال، والماريونيت، وورشة الفيلم العابر للنوع، بالتعاون مع معهد غوته الألماني.

أفلام وجوائز
من النادر تقريبًا أن ترضي قرارات لجان التحكيم التوقعات العامة، ولكن غالبية قرارات لجان هذا العام حازت على استحسان الجميع، حتى أن عددًا كبيرًا من الحضور كانت سعادته بالفوز ربما تفوق أصحاب الأفلام أنفسهم. أذكر في ذلك الحفاوة التي تم بها استقبال فوز الفيلم الفرنسي "حياة مثل غيرها" للمخرجة فاوستين كروس، وهو إنتاج مشترك فرنسي بلغاري. حصل الفيلم على الجائزة الأولى في مسابقة الأفلام التسجيلية الطويلة. على مدار ما يقارب الساعة نعيش مع مخرجة الفيلم تجربتها المؤلمة حين تكتشف وجهًا جديدًا لأمها بعد مرور كثير من السنين.
حدث ذلك عن طريق مجموعة ضخمة من الفيديوهات عكف الأب على تصويرها لتسجيل كافة لحظات الأسرة في أثناء حياتهم اليومية. كان لهذه الفيديوهات دور هام في إنجاز الفيلم؛ حيث اعتمدت المخرجة عليها بشكل رئيسي، وفيها نلمح رغبة الأب القديمة، وحبه للتصوير، ثم حلمه في إخراج فيلم من هذه التسجيلات، التي تؤكد على موهبة الأب ـ غير المكتملة ـ في هذا الشأن، وهو ما يتم استكماله في ما بعد بالانتقال الجيني لابنته، لتصنع فيلمًا رهيفًا ومختلفًا استحق الجائزة الممنوحة عن جدارة.




في سياق مُشابه، فاز الفيلم العراقي "بلادي الضائعة" بالجائزة الثانية في التسجيلي الطويل، علاوة على جائزة الاتحاد الدولي للنقاد "الفيبرسي" كأفضل فيلم. الفيلم للمخرجة عشتار ياسين، وفيه توثق عشتار الأيام الأخيرة في حياة والدها المخرج المسرحي العراقي سعدون ياسين. فيما حصل فيلم "ملاحظات على النزوح"، للمخرج الفلسطيني خالد جرار، على تنويه خاص من لجنة التحكيم.
أما مسابقة الأفلام التسجيلية القصيرة فذهبت فيها الجائزة الأولى إلى الفيلم الهولندي "جاري عبدي"، للمخرج دووي ديكسترا. فيما حصل الفيلم الجزائري "طحطوح"، لمحمد والي، على الجائزة الثانية. ويُقدم لنا الفيلم حالة إنسانية خاصة بطلها المكان، وتحديدًا قرية صغيرة تدعى "أفيغو" تقع في أعالي جبال بوعريريج بالجزائر. تتعرض القرية لهجمات إرهابية في تسعينيات القرن الماضي، وإثر ذلك يهجر سكان القرية بيوتهم ويتركونها مرتعًا للأشباح. يقرر "طحطوح" البالغ من العمر ستين سنة أن يُعيد بناء القرية بمفرده، حجرًا حجرًا، وبيتًا بيتًا، حتى تعود القرية من جديد. ومع انضمام بعض المتطوعين من الشباب والأهالي، يتسع حلم الجميع في العودة إلى الوطن، أو استعادة الذكريات على أقل تقدير.
وفي مسابقة أفلام التحريك، حصل الفيلم الفرنسي "بيت القلب" للمخرجة الإيرانية سارة سعيدان على الجائزة الأولى. خلال ربع ساعة، هي مدة الفيلم، نتابع "أوميد"، المهاجر الإيراني الذي قدم للعيش في فرنسا مع أسرته. يتعرض أوميد في إحدى الليالي لطعنة من مجهول تستقر في قلبه. وفي المستشفى، حين يستيقظ، يتفاجأ بتقرير الأطباء الذي يشير إلى عدم وجود قلب في داخله. برهافة، تطرح المخرجة أزمة المهاجرين الذين يجبرون على ترك بلدانهم، بينما قلوبهم ما تزال معلقة بها. وحصل الفيلم المصري "كينوبشيا" للمخرج محمد عمر على الجائزة الثانية، فيما ذهب التنويه الخاص بلجنة التحكيم للفيلم السويدي "فكر في شيء جيد"، من إخراج كلاديوس جينتينيتيس.
ولم تخرج جوائز مسابقة الأفلام الروائية القصيرة عن قارة آسيا، حيث حصل فيلم "برجاء الانتظار على الخط" من ماليزيا على الجائزة الأولى، وهو من إخراج تان سي دينغ. وكانت الجائزة الثانية من نصيب فيلم "الثلج في سبتمبر" من منغوليا للمخرجة لوكا جيفادولام بيوريف. ومن الصين، حاز فيلم "هل تنظر لي"، للمخرج شولي هوانغ على تنويه خاص من لجنة التحكيم. ثمة فيلم آخر في القائمة لم يحصل على جوائز، إلا أنه من الأفلام النادرة التي لا تنسى بسهولة؛ إنه "الفرصة الأخيرة"، فيلم مجري للمخرجة الشابة إستر إنجيالوسي، يُقدم لنا قصة الأب دودي، وهو رجل تجاوز الخمسين يقرر تعلم التزلج. وإثر ذلك ينخرط في عالم الشباب والمراهقين رفقاء الدرب للعبة الجديدة في حياته. الغريب أن دودي لم يقف طموحه عند حد التعلم فقط؛ بل كانت رغبته أن يشترك في مسابقة عامة للتزلج. نتفاجأ أن ابنته المراهقة هي أحد أعضاء لجنة التحكيم، كما أنها اسم شهير في هذه اللعبة.
استعانت المخرجة بالتقطير في المعلومات والأخبار التي نتفاجأ بها عبر المشاهد والأحداث، رغم قصر الفيلم (27 دقيقة)، وتكون آخر المفاجآت حول رغبة الأب الحقيقية لخوض تجربة التزلج، التي لم تكن سوى فرصة أخيرة له لبناء جسور جديدة من التواصل مع ابنته تكفيرًا عن هجره لها في طفولتها. تنتصر المخرجة في نهاية الفيلم للمصالحة مع الأب، حتى وإن كانت عن طريق نظرة عابرة وسريعة من الفتاة، حين تدعوها إحدى الفتيات إلى التزلج معهم في الساحة الكبيرة، وتخبرها بأن الجميع سيكون هناك، ومن بينهم دودي، الذي أصبح واحدًا منهم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.