}

السينما الفلسطينية في 2023: بين الماضي والحاضر والواقع المرير

وائل سعيد 24 يناير 2024

في نهاية كل عام وبداية كل عام جديد يحتفل العالم أجمع بعيد الميلاد ورأس السنة، إلا هذين العامين 2023 و2024، اللذين استثني فيهما أهل فلسطين، مهد المسيح، الذين يعانون الآن ويلات المدافع والرصاص وبرد يناير/ كانون الثاني القارص، بعد أن بدأت حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ليتحول المشهد العالمي إلى ساحة صاخبة بالتنديدات والوقفات الاحتجاجية كرد فعل على صمت الدول والحكومات المطبق.

لم تسلم السينما هي الأخرى من تبعات ما جرى، فبجانب اعتصامات هوليوود الشهيرة ارتأت بعض المهرجانات السينمائية العربية تأجيل أو إلغاء دوراتها تضامنا مع أهالي غزة. وربما لم تشهد السينما الفلسطينية إنتاجًا كبيرًا خلال العام المنصرم؛ إلا أن ثمة احتفالية ضخمة أخذت تجوب شتى بقاع العالم محتفية بإرث كبير من الأفلام، سواء كانت فلسطينية أو تتناول القضية فيما يشبه مهرجانا سينمائيا شعبيا، ولم يمنع ذلك من ظهور عدد من الأفلام الفلسطينية المميزة شقت طريقها إلى المهرجانات الدولية حاصدة الجوائز والتقدير والتآزر الجماهيري.

الحياة فلسطين

يقول الشاعر نزار قباني في قصيدته الشهيرة "قارئة الفنجان": "ستفتش عنها يا ولدي في كل مكان". إنه القدر المكتوب على جبين العاشق في بحثه الدائم عن محبوبته حتى وإن تباعدت المسافات، فكيف الحال حين تكون المحبوبة بلد الميلاد. في فيلمه "أسبوع غزواي" ينتقل المخرج الفلسطيني باسل خليل من بريطانيا حيث يعيش، إلى بلده الأم فلسطين وتحديدًا داخل قطاع غزة، في بدايات انتشار كوفيد 19، متتبعًا إحدى فتيات إسرائيل التي علقت برفقة خطيبها البريطاني في القطاع بسبب الجائحة، وخلال ذلك نتابع تأثر الجانب الآخر بما لقي من معاملة حسنة لم تستغل الموقف كما شاهدنا من بعض جنود الاحتلال خلال الأحداث الجارية في القطاع.    

ومن مدينة "اللد" نتابع أحداث فيلم بعنوان "لّد" للمخرج الفلسطيني رامي يونس الذي يتتبع التاريخ الكبير لواحدة من أقدم المدن الفلسطينية، والتي كانت تربط فلسطين بالعالم في السابق. حصل الفيلم على عدد من الجوائز منها أفضل فيلم وثائقي طويل من مهرجان عمان السينمائي في دورته السابقة. وفيه يتجول المخرج بأريحية تناسب اتساع المدينة، متنقلًا بين المباني القديمة والآثار التاريخية وبين الواقع الحالي للبلدة، التي يتحدث عنها أهلها بفخر كبير لما تحمله من عمر يتجاوز خمسة آلاف سنة، كان السياح قديما يأتونها من كل فج عميق.    

عودة أخرى في الزمن يقدمها فيلم "الوعود الثلاثة" للمخرج الفلسطيني يوسف السروجي، والذي تدور أحداثه في مطلع الألفية الثالثة والانتفاضة الثانية للقضية. من خلال أرشيف فوتوغرافي كبير ينسج السروجي خيوط فيلمه من منظور عائلته التي عايشت وقائع الانتفاضة وتبعاتها، كما يعطي للأم دورًا رئيسيًا في تحريك الأحداث والتعليق عليها. من هنا يُعدّ الفيلم بمثابة وثيقة لشهود عيان عن قرب لمجريات تلك الأحداث، سواء المعلنة أو التي لم يتم تسليط الضوء عليها. أما المخرج الشاب محمد جبالي فيحكي عن تجربته الشخصية في فيلم "الحياة حلوة" والذي يتشابه مع عنوان رائعة المخرج الايطالي روبرتو بينيني. يرصد جبالي تجربة تحوله من مصور في قطاع غزة إلى صانع أفلام محترف. بدأت رحلة جبالي عام 2018 حين سافر من غزة إلى النرويج ضمن بعثة طلابية، وبعد أن يتم إغلاق معبر رفح يجد الشاب نفسه عالقا في النرويج يجاهد من أجل الحصول على إقامة ولا يستطيع العودة إلى الديار.

في فيلم "الأستاذ" نتابع تحولًا من نوع آخر لمدرس اللغة الانكليزية في إحدى قرى قطاع غزة حين يجد نفسه متورطًا في المواجهة المباشرة مع العدو


فلسطينيات خارج الحدود

إلى أي مدى يمكن للإنسان أن يحمل هويته خارج حدود بلده الأم؟ من الواضح أن الإجابة عن سؤال كهذا لن تخرج عن مجموعة متباينة من المشاعر والأفكار؛ فليس هناك يقين ثابت في مثل هذه الحالات. فبطبيعة الحال لا شك في أن الإنسان يتأثر ويتلون ويتشكل بالبيئة التي يحيا فيها، بيد أن ذلك لم يقف عائقًا كبيرًا في كثير من الأحيان، وخصوصًا فيما يتعلق بموضوع اللغة. في فيلمها الوثائقي الثاني "باي باي طبريا" تقول المخرجة لينا سويلم: "لقد أعطتني أمي نصف لغتها... وهبت لي قطعة من لسانها"، شارك الفيلم في عدد من المهرجانات مثل البندقية وتورونتو ومهرجان الجونة في مصر حاصدًا أكثر من جائزة.  

ولدت لينا سويلم وعاشت في باريس، وهي ابنة الممثلة الفلسطينية هيام عباس. تتتبع سويلم في فيلمها حكاية العائلة متنقلة عبر ثلاثة أجيال: الجدة. الأم. الحفيدة، ومن خلال القصة الشخصية تطرح المخرجة رؤيتها عن الحكاية الأم لمعاناة الشعب الفلسطيني مع الاحتلال منذ ما يربو على سبعة عقود مضت. أجادت المخرجة في توظيف عدد كبير من المقاطع الحقيقية المصورة لأرشيف والدتها في خدمة البناء الدرامي للفيلم، مازجة بين التسجيلي والروائي في بعض الأحيان، وقد غلب الحس السينمائي على معظم المشاهد في الفيلم.

بعد توقف دام أكثر من سبع سنوات، تعود المخرجة الفلسطينية مي المصري بفيلم وثائقي جديد يحمل عنوان "بيروت في عين العاصفة"، تتناول فيه مرحلتي انفجار مرفأ بيروت منذ ثلاث سنوات. تغزل المخرجة حكايتها من خلال شهادات مجموعة من النساء بصفتهن شهود عيان على الأحداث.  

ولدت فرح نابلسي ونشأت وعاشت في مدينة لندن لأبوين من مهجّري فلسطين، وتعمل حاليًا ناشطة حقوقية وتمارس الكتابة والإنتاج والإخراج السينمائي. وقد لفتت الانتباه بفيلمها القصير "الهدية" من بطولة الممثل الفلسطيني صالح بكري، وهو بطل فيلمها الجديد لهذا العام "الأستاذ" الذي يُعد أول أفلام نابلسي الروائية الطويلة. وفي الفيلمين نجد أن المخرجة نسجت قصتها انطلاقًا من دراما إنسانية تقع أحداثها على خلفية سياسية، لحظة الكشف الإنساني من ضعف أو قوة أو مشاعر متباينة هي ما أرادت التقاطه عبر الكاميرا، ساعدها في ذلك ممثل قدير مثل بكري ارتبط اسمه بأفلام فلسطينية مميزة نذكر منها: "علم"، "واجب"، "عيد ميلاد ليلي"، و"الزمن الباقي" للمخرج إيليا سليمان. تميّز أداء بكري في مجمل تجربته وفي هذه الأفلام بمجموعة من الانفعالات المتباينة حملت مشاعر الانكسار والانتصار في ذات الوقت، وهي من أقرب الصور الواقعية للقضية. وحصل بكري عن أدائه على جائزة التمثيل ضمن فعاليات مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الأخيرة.  

على أن التجربة الإنسانية لا تقف على وتيرة واحدة عند نابلسي، حيث يُشكل الحدث منعطفًا للشخصية في مسار حياتها حتى وإن كان بشكل جزئي وعابر، كما حدث في مشهد النهاية من فيلم "الهدية" حين تجرأت الطفلة على عبور نقطة التفتيش الإسرائيلية متمسكة بهدية أمها وما كان من الأب سوى اتباع ابنته في موقفها. في فيلم "الأستاذ" نتابع تحولًا من نوع آخر لمدرس اللغة الانكليزية في إحدى قرى قطاع غزة- باسم، صالح بكري- حين يجد نفسه متورطًا في المواجهة المباشرة مع العدو، في استعادة لبعض عمليات تبادل الأسرى كما حدث من عمليات عقب طوفان الأقصى، وربما نلمح أن ثمة دلالة في اختيار اسم الصبي المرافق للمدرس "آدم" والذي فقد عائلته، وهي إشارة خفية لجيل جديد من المقاومة يبدأ من الصفر ولا يحمل في جعبته سوى الإرث التاريخي للقضية.

فيلم "كريم حرًا" عن كريم يونس الذي يُعدّ واحدًا من أقدم الأسرى في سجون الاحتلال الاسرائيلي، لذلك تم تنصيبه - جماهيريًا- عميدًا لهؤلاء الأسرى


سوق المتعة والألم

في الفيلم المصري "سوق المتعة" (1999) يناقش المخرج سمير سيف فلسفة السجن وكيف تؤثر على حياة الإنسان، وذلك من خلال عدم تأقلم البطل مع وضعه المدني الجديد بعد قضاء فترة عقوبة مؤبدة وخروجه من سطوة الحيز المحدود للجدران الأربعة. لم يخرج السجن في الفيلم عن إطار السجون المدنية للجرائم العادية، فماذا لو تغير الوضع وأصبح السجن بلا جرم، لا على طريقة كافكا؛ إذ إن سبب العقوبة هنا معلوم أما الجريمة فهي الدفاع عن الوطن، وهي جريمة قد تكلفك عمرًا أو تلتهم أكثر من نصفه، كما حدث مع الأسير الفلسطيني كريم يونس حيث تم اعتقاله وهو ما زال في الثلاثينات وأطلق سراحه في يناير/كانون الثاني 2023 عن عمر يناهز السبعين. أخيرًا أصبح "كريم حرًا"، وهو عنوان الفيلم الوثائقي للمخرج خليل جبران، من إنتاج تلفزيون فلسطين.

يُعد كريم يونس واحدًا من أقدم الأسرى في سجون الاحتلال الاسرائيلي، لذلك تم تنصيبه – جماهيريًا- عميدًا لهؤلاء الأسرى. ولد بإحدى قرى منطقة المثلث وتم اعتقاله مقتبل الثمانينيات. اُستقبل يونس بما يشبه العرس الشعبي محمولًا على الأعناق وفق ما سمحت به سلطات الاحتلال، وأمام الكاميرات وقف لأول مرة للتحدث عن وقائع الإفراج عنه، والتي تمت في جو مخابراتي من خلال الانتقال بين أكثر من سيارة حتى رأى إسفلت الشارع بعينيه.

لم يتعمد مخرج الفيلم أي بهرجة أو حيل سينمائية، ربما لضيق الوقت الزمني بين صدور الحكم بالإفراج وظهور الفيلم، وربما لهذا لم يخل من المباشرة في كثير من الأحيان، حيث ينتهي بالأسير حرًا يقف طليقًا وفي الخلفية نرى القدس والمباني المحيطة، وهي نفس المشاهد تقريبًا التي يبدأ بها السيناريو باختلاف طفيف، إذ نتابع لقطات تستعرض القدس وأشجارها ومبانيها، وهو استعراض للحياة الفلسطينية في مقابل الموت والخراب على أيدي المحتل، يعلق على هذه المشاهد كريم يونس متغنيًا بحبه الأثير لبلده: "وهبتني نفسها واسمها لأعيش فيها، هي أكبر من كل الذي سأذكره وذكرته"...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.