}

مهرجان "دبا الحصن": كأنَّ الحياةَ لا تُساسُ إلا بالاستبداد

أنور محمد 1 يوليه 2023
مسرح مهرجان "دبا الحصن": كأنَّ الحياةَ لا تُساسُ إلا بالاستبداد
من العرض المسرحي الكويتي "الشفَّاف"
في الدورة السادسة لمهرجان "دبا الحصن" للمسرح الثنائي، الذي نظَّمته إدارة المسرح بدائرة الثقافة بالشارقة مؤخرًا؛ تمَّ عرض خمس مسرحيات: من الإمارات، وسورية، ومصر، والأردن، والكويت، إلى جانب ندوة فكرية؛ وهي النسخة الثامنة عشرة لملتقى الشارقة للمسرح العربي، الذي نُظِّمت على مدار يومين تحت عنوان "المسرح والموسيقى"، بمشاركة عدد من الباحثين والممارسين المسرحيين: عبد الله راشد (دولة الإمارات)، ياسمين الفراج، ورانيا يحيى، وهاني عفيفي (مصر)، عبد المجيد فنيش، ورشيد برومي (المغرب)، عائشة قلالي، ونوفل لعزارة (تونس)، رعد خلف (العراق).
في مسرحية "حدث ذات مرَّة" لجمعية دبا الحصن للثقافة والتراث والمسرح (دولة الإمارات)، إعداد وإخراج مهند كريم، تمثيل نبيل المازمي، وشريف عمر، يقيمُ المخرجُ حوارًا من جدل يكشف مأساة العقل بين مُخرجٍ مسرحي أدَّى دوره الممثِّل نبيل المازمي، وممثِّل أدَّى دوره الممثِّل شريف عمر. مُخرجٌ تشغله قضايا الفكر والفلسفة وعلاقتها بالفنون، واليأس من فعل شيء تجاه القضايا الإنسانية التي يخسر فيها الإنسان كرامته وحريته؛ كأن لا جدوى، فالعولمة وما بعد العولمة افترست المشاعر عند بني الآدميين كالحب والنخوة والفروسية، وقد ذهب الإنسان إلى استحالة إصلاح ما فَسَد. عقلٌ عولمي لا مشاعر عنده، يسعى إلى الربح، إلى الثروة في امتلاك الحياة. فيما الممثِّل يشكو الفقر وقلَّة فرص العمل.
"حدث ذات مرَّة" مسرحية من حوار وعلى طول مقاطعه، إنَّما كان يفور بالحيوية، ويمسُّ أعماق الذات، فالغايةُ تعبرُ فوق الشرائع، وفوق الإنسان الذي يتمُّ إلغاء وجوده، وهو ما يُثير ويفجع كلًّا من المُخرج والممثِّل، فتشعر من خلال الحوار/ الجدل بين الشخصيتين أنَّهما يرثيان نورانية العقل ـ والعلمُ عقل؛ الذي حلَّ بمشروع العقل النهضوي العربي. فالمُخرج لم يكف في أغلب الزمن المسرحي وهو يُرينا ألمه مما جرى لهذا العقل ولحظات انفعاله وكأنَّه ينتحر.
المسرحية تندرج ضمن مسرح الفكر، لا مسرح الدراما، فهي تدافع عن العقل الذي يتمُّ اغتصابه بقسوة ليظهر هذا الدمار الذي حلَّ بالعالم. فالعقل ما عاد ذاك العقل الطائع الذي يسوق البشر وأَسِنَّة الرماح والسيوف في ظهورهم لتحية الديكتاتور؛ هي مرثاةٌ لما يحدثُ كل يوم من شرٍّ للإنسان يلوِّث حريَّته.

مسرحية "السيرك" لفرقة المسرح القومي من سورية

مسرحية "السيرك" لفرقة المسرح القومي (سورية)، للكاتب الأرجنتيني أزوالدو دراكون، إعداد وإخراج أيمن زيدان، تمثيل حازم زيدان، ولمى عبد الكريم. المسرحية من حكايتين منفصلتين ومتصلتين، أو من فصلين ومَشَاهِد؛ الأولى لموظَّفٍ أحرقت القروض والأسعار التي اشتعلت نيرانها راتبه، فيشتغل بائعًا جوالًا ليُعيل زوجته وابنته، لكنَّ وجع أسنانه لم يمنحه هذا الشرف. أما الحكاية الثانية في السيرك المُفترض فهي عن مواطن لا يكفيه راتبه أمام وحشية الغلاء، ربَّما في إشارة لما فجَّرته الحرب السورية من أزمات للإنسان السوري، فيضطر للاشتغال ككلب حراسة. في الحكايتين يمارس المُخرج دور الأنا الواعية لحريتها، فيحوِّل جسد الممثِّل إلى أداةٍ فكرية، وقد أذلَّه القهر الاقتصادي والسياسي، فلا يسرق من المال العام، ولا الخاص، ولا يؤجِّر جسده لعصابات القتل. في الحكايتين يكشف زيدان عن فساد الحياة وعبثيتها، وعن المآسي الصامتة لبشرٍ لا تحميهم الدساتير ولا القوانين، فيتحولون إلى حيوانات ـ يتمُّ حيونتهم؛ تحوينهم بقصد ضمِّهم إلى القطيع البشري الذي ليس له حقُّ الاعتراض.




بطله في المسرحية ـ أيُّ بطولة؟.. يتمرَّد، ولكن كمن يلفظ أنفاسه الأخيرة من إنسانية تمَّ تدجينها، ويتحوَّل إلى كلب، حتى إنَّه لمَّا يقوم بتقبيل زوجته ـ يعضُّها. ما هذا الموت الوقتي داخل لحظة الوجود، موتٌ يطابق العدم. المخرج في "السيرك" يكشف الغطاء عن الوحوش الغريزية للمستبد وهو يجوِّع الناس، وكأنَّ الحياة لا تُساس إلا بالاستبداد. في التمثيل؛ الممثِّل حازم زيدان أدَّى دوره بتعبيرات حركية متمثِّلًا مشاعر الشخصية في الحكايتين، لكنَّه زاد من قوَّة الصوت؛ صوته، فكان أعلى من الحركة، كان صوتًا حماسيًا ذا نبرة خطابية، بينما كانت الممثِّلة لمى عبد الكريم أكثر واقعية وهي تنغمس وتغمس أفعالها من الطبيعة الفيزيولوجية والروحية للشخصية، لمى لم تقع في الشكلانية وأنَّها تكاد تُفجَعُ ـ وتفجعنا، وزوجها في مواجهة الموت كإنسان وهو في قفص على أنَّه كلب؛ كلبُ حراسة لذاك السيِّدُ وقد صار ينبح عنهُ وعليهِ، ما هذا المصير الذي آلَ إليه الإنسان؟؟؟.
في مسرحية "النافذة" لفرقة مشوار المسرحية (مصر)، للكاتب البولندي ايرينيوش ايريدينسكي (1939 ـ 1985)، تمثيل إسلام عبد الشفيع، ورضوى حسن، إخراج محمد مرسي. غرابةٌ وعبث في انتظار أن يشتعل عود الثقاب ثانيةً في نافذة بيتٍ في البناء المُقابل، فلا يجن الزوج (الممثِّل إسلام عبد الشفيع)، فيما الزوجة (الممثِّلة رضوى حسن) وهي تتزيَّن لزوجها في غرفة النوم على صوت أغنية أم كلثوم "هذه ليلتي"، ولكن بإيحاءاتٍ جنسية (في عام 2016، وعلى مسرح القباني في دمشق، افتتح المسرحية ذاتها المُمثِّل والمُخرج مجد فضة على صوت وردة الجزائرية وهي تغني " بتونِّس بيك").

مسرحية "النافذة" لفرقة مشوار المسرحية من مصر

رغم تفاني الزوجة على مدى أيام عدة في أن تنتشله، أو تصرفه عن انتظار الأمل الكاذب، فإن الزوج يصرُّ على البقاء متربِّصًا على الكرسي أمام النافذة في انتظار ذاك الوميض لشعلة النار، ومن ثمَّ اشتعل وانتهت الحكاية؛ حكاية المسرحية. المخرج محمد مرسي، وإن استعجلتُ في إطلاق حكم القيمة، فإنَّه تركَ الميِّتَ ميِّتًا، لم يُشيِّعه ولم يدفنه. على إنَّنا في وضعنا العربي الذي نعيشه، من فقر وجوع واستعباد مع أنظمة استبدادية تحكم الناس بالحديد والنار، أحوجُ ما نكون إلى مسرحٍ يُثيرُ مشاعر الغضب والفرح والحب والثورة، وليس الاستسلام لـ(الأمل). لقد تحقَّق الأمل واشتعل عود الثقاب، ما الذي جرى أو سيجري في اللحظات التالية؟... لا انفجارات فكرية، أو فلسفية مُقاوَمة للضعف الإنساني. رجلٌ شغلَ فكره عودُ ثقابٍ اشتعل لثوانٍ ثمَّ انطفأ، وقضى أيامًا في انتظار أن يشتعل ثانية، لم تشغله كل المآسي التي تحلُّ بالإنسان العربي، إنَّه انتظار ليس مُملًا بالنسبة له، ولكنَّه انتظار لم يؤسِّس لـ(معنى) بالنسبة لنا كمتفرجين، حتى إنَّ الممثِّلة رضوى حسن بأدائها المرهف كزوجة ليصير العرض من المسرح الثنائي، ويشارك في المهرجان؛ كان بالإمكان الاستغناء عنها، إذ إنَّ حركة جسد الممثِّل إسلام عبد الشفيع التي وعلى قصديتها التمثيلية كانت كافية لصرف النظر عنها، فقد بدت حركاته كما لو أنَّها من صلصال قسرَ فيها المُمثِّل أعصابه وعضلاته ليشكِّل تلك الحركات الصلبة تعبيرًا عن توتره وقلقه ـ لقد كان عنيفًا وقاسيًا من دون سببٍ، ومن دون ثمن. في مسرح العبث، كما رأينا في عروضٍ مسرحية عربية وأجنبية، يتحوَّل الجسد إلى أداة تعبير عن الحياة، أو دورة الحياة الفكرية والعقلية للشخصية، كما شاهدنا على سبيل المثال الممثِّل بكر الزعبي في مسرحية "منظر طبيعي"، من تأليف هارولد بنتر (1930 ـ 2008)، وإخراج دلال الفياض، شاركته في التمثيل ياسمين الدلو، وهو يؤدِّي دوره بتكنيكات بدنية محسوبة بدقَّةٍ، وبتكثيف شديد لطاقته وقدراته الذهنية والعضلية، فيذهب من الحركة إلى السكون، ليُرينا حسِّيته وجسديته بالدور ـ دور الشخصية التي يؤدِّيها، فيكشف عن هذياناتها، وليس عن تجلياتها، وهي تعيش لحظة سلبٍ عدمي لزوجين كلاهما خان الآخر، وكلاهما لا يحبُّ الآخر، وهما في جلسة تصفية حساب في المطبخ ـ وبافتراض أنَّهما بمواجهة البحر كمنظر طبيعي، فيسردان من الوعي إلى اللاوعي غير المشروط رفضهما للحظة العبودية التي عاشاها معًا، على أنَّها لحظة استدعاء الحرية. بالنسبة لهذين الزوجين لا مشكلة عندهما وهما يتواجهان؛ يُعريَّان أفعالهما الحياتية فنرى قلقهما واضطرابهما ـ وهدوءهما، وهما يتباريان.




هذا عربيًا لا يحدث، وإن حدثَ ففي الغرف السرية، وإنَّ المسرحية تعرض علاقة زوجين تفسَّخت نظرية الأخلاق عندهما، فلا تمييز بين العقل المجرَّد والفكر الذي صار مثاليًا، وبين العقل العملي التجريبي الذي يمرِّغان فيه إنسانويتهما. في الشرق هنا لا يمكن أن يكاشف الزوج زوجته بخيانته لها، ولا الزوجة تكاشف زوجها بخيانتها له. هذا أمرٌ مستحيل، وقد يُفضي إلى قتل الزوجة. المُخرجة دلال فياض ربَّما تطرح معاناة زوجين وجوديين لا عدميين، ولكنَّها تستسهل تبنيها عربيًا وشرقيًا. ما الفائدة من عروض مسرحية تتحوَّل إلى ممارسة دور جهاز الدولة الاستبدادية العربية، فتقوم بقمع العقل فلا يفكِّر بحريته.
الزوجان في مسرحية "منظر طبيعي" لفرقة ملتقى الظلال (الأردن)، يُعذِّبان روحيهما ـ يتحاوران ولا جدوى غير جلد الذات. ربَّما ليست هذه هي فلسفة الكاتب المسرحي والسيناريست الإنكليزي هارولد بنتر الحائز على جائزة نوبل للآداب 2005، الذي كان أديبًا وناشطًا سياسيًا مدافعًا عن العدالة والحريَّات، وضدَّ تعذيب وإذلال الإنسان في أقبية الاستجواب بتُهمٍ مُلفَّقة، والذي وقفَ وناصرَ طويلًا القضية الفلسطينية. هارولد بنتر الذي تعاملت المخرجة دلال فياض مع مسرحيته القصيرة "منظر طبيعي" حاولت بسط أفكاره الفلسفية الوجودية، ولكنَّها لم تَنْفُذ إلى أعماقه، لم تلتقط لحظة المُعاناة الشعورية لشخصيتي الزوج والزوجة فنرى خوائية اللاوجود وهما يتراشقان الاتهامات. دلال فياض كانت تستعرض الحوارات بينهما؛ زوجان يحملان ثورة وتمردًا في داخلهما وضدَّ بعضيهما ـ لكنَّهما يؤجِّلانها؛ هذا هو (العبث)، وهي اللحظة التي التقطها وعاشها الممثِّل بكر الزعبي، إذ صار العرضُ له وليس للمخرجة، ذلك من شدَّة قدرته على التأثير الجمالي وإثارة انفعالاتنا كمتفرجين.
ما بين العبثية وشيء من الملحمية، جاء العرض المسرحي الكويتي "الشفَّاف"، لفرقة المسرح الكويتي، من تأليف فوزي الغريب، وإخراج وتمثيل أحمد السلمان، مع الممثِّلة سماح، إذ يُوهمنا المُخرجُ الممثِّلُ وهو يكسر الجدار الرابع نازلًا من على درجات صالة مسرح دبا الحصن بالشارقة في مونولوج ـ خطاب، باتجاه الخشبة، أنَّه بكامل طاقته، والمتوهجة. فيقوم بتعرية وتهشيم أوضاعنا السياسية بإحساس حادٍّ بمأساة الوجود الإنساني، فالرجل سَتَلِدُ زوجته بعد انتظار، فيما الطبيبة تقوم بتوليدها في الغرفة المجاورة لغرفة الاستراحة، وما بين بَيْنيْن تلدُ ونسمعُ صراخ وليده. تخرج الطبيبة (الممثِّلة سماح)، ويبدأ الحوار الساخر في لا مبالاة من جانب الأب لمعرفة جنس المولود، وإمكان رؤيته وضمِّه إلى صدره، فهي فرحة ما بعدها فرحة، لكنَّ الطبيبة ترفض بحججٍ وحجج غير مُقنعة لإطالة الزمن ـ تطويله ومطِّه، فيتحوَّل الحوار وليس الجدال الذي لا يفضله الأب بينه وبين الطبيبة إلى ثرثرةٍ مع شيءٍ من (نُكات) بقصد الإضحاك. لا شكَّ في أنَّ أحمد السلمان، مُخرجًا وممثِّلًا، كما رأينا؛ يكشفُ عن تجربة الألم عنده من اندحار الإنسان، فالولد الذي وُلِد، إنَّما، وبعد (حزُّورات) وحزازير وُلِدَ (شفَّافًا) لا لون له؛ وهنا الكارثة، إذ إنَّ لون جلده يخالف لون الطبيعة البشرية: أبيض، أسود، حنطي. من أين جاءته هذه الصبغيات؟ الجينات؟ المكونات. شكوكٌ كثيرة مخيفة ومرعبة تساور الأب، ثمَّ كيف سيواجه مجتمعه بمولود لا لون له؟ المُخرج أحمد السلمان إنْ نجا ولده من الموت فكيف سينجو من الحياة وهو الشاف الشفَّاف، كيف سيتخلَّص منه؟ وهل تموت الشفافية بموت الولد الشفيف، وكيف سيعبِّر الأب الشفَّاف وهو يشفُّ علينا بسخريته من هذا العالم بين لحظتي الولادة والموت الذي يتمناه لوليده الشفَّاف. بل إنَّه يصرِّح للطبيبة بضرورة قتله. أسئلة كثيرة تنهض أمام الأب الذي رغم هول مأساته بولده الشفَّاف نراه يقايض الألمَ بالرغبة في الزواج من الطبيبة التي تهرُّ، تسقطُ موافقة وكأنَّ علمها لا عِلْمَ له، وهو الرجلُ المزواج، انتقال سريع من العمق إلى السطح، انتقال ليس من خفَّة ظلٍّ من أحمد السلمان، بل انتقال فيه غلاظة وفجاجة حقَّرت وأهانت القدر المأساوي والفكرة السامية التي يحملها العرض.
مسرحية "الشفاف" تسخر، أو أنَّها تهجو الضياع المأساوي للإنسان، فالخير والشر ليسا ضدَّيْن كما يبدو من "الشفاف"، بل هما قناعان، ولكن هنا في المسرحية كانا رماديين، وهو اللون الذي اقترحه الأب ليصبغ به وليده الشفاف. الممثِّل أحمد السلمان في أدائه دور الأب هذا كان كمن يرتجل دوره، يرتجل حواراته، ولكن بأسلوب فاقع ـ غير مدرسي أو أكاديمي. فهل كان يمثِّل، أم كان يتقمَّص حالات، خاصة وهو يحشو المسرحية بمشهدٍ وإن كان مأساويًا، وهو يسوق أمَّه على كرسي ليواريها ـ ليودعها في دار المسنين تنفيذًا لرغبة زوجته.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.