}

في رحيل المسرحي أنطوان ملتقى: مَنْ سَرقَ الحريَّة مِنَّا

أنور محمد 25 فبراير 2024
هنا/الآن في رحيل المسرحي أنطوان ملتقى: مَنْ سَرقَ الحريَّة مِنَّا
أوَّل وقوف لأنطوان ملتقى على المسرح كان عام 1937

المسرحُ كما الوجود، والوجود هو تعبيرُ حريَّة، بعثُ ديمومتها، لأنَّه بحسب ما عشناه مع الممثِّل والمُخرج المسرحي اللبناني أنطوان ملتقى (1933- 2024)؛ هو أيضًا (معرفة) واقترابٌ مُتمرِّد- صدامٌ مع المستبدين، باعتباره كما جسَّده في عروضه مثل: ماكبث 1962، الإزميل التي شارك فيها في مهرجان "نانسي" في فرنسا عام 1965 بطلبٍ من مدير المهرجان آنذاك جاك لانغ مسرحيةٌ أدخلَ فيها أنطوان ملتقى تقنيتيْ الحكواتي وخيال الظل، الذباب 1963، ريتشارد الثالث 1964، عرس الدم 1964، ضاعت الطّاسة 1966، سمسم 1966، كاليغولا 1967، أنا ناخب 1969، وصية كلب 1972، عشرة عبيد زغار 1973 وهي المسرحية التي أعدَّتها وأخرجتها زوجته لطيفة ملتقى عن أغاثا كريستي ومثَّل فيها، نقطة عالسطر 1980، زيارة السيدة العجوز 1987، حرب بالطابق الثالث 1993، مهاجر بريسبان 1999. كل هذه الأعمال كانت حصيلةَ وعيه بالحريَّة.
أنطوان ملتقى حمل إلى لبنان طلائع المسرح الحديث من فرنسا، حيث أسَّس مع منير أبو دبس معهد التمثيل الحديث عام 1960، والذي انتسب إلى الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ألبا) ونال إجازة في الفلسفة (1956)، وبعد ذلك نال دبلومًا في المسرح، من جامعة باريس. كان صاحب مشروع مسرحي، ذي خطٍ بياني أرانا فيه فلسفته، فلسفة (معنى) الحريَّة ومعاناتها في الحياة السياسية والاجتماعية العربية، فوضعها في سياقها الإنساني؛ سياق الثورة والتمرُّد على المألوف والمعتاد. ومثلما احتفل ملتقى بالنصوص المسرحية والتي كان أغلبها لشكسبير في بداياته؛ احتفل بفن (التمثيل). إذ اعتبر أنَّ المسرح هو الممثِّل: "لو أردتُ أن أُقدِّمَ تحديدًا لفنِّ المسرح، لَسَمَّيْتُه فَنّ المُمثِّل". فالمُمثِّل ليس دُمية، هو جسدٌ تسكنه روح، وجسده حسب دور الشخصية الذي (يلعبه) هو أساس العرض المسرحي الذي يُبنى بالتشكيل الحركي للممثِّل، والذي يتأسَّس على الإجابة على سؤال: (ماذا) أفعلُ و (كيف) أفعلُ (أنا) الممثِّلُ على الخشبة. و(ماذا) هذه هي ماذا الجدلية التي على الممثِّل أن يجيب عليها في أدائه حركيًا، فيُرينا وعيه بالسؤال، كما وعيه بالاستفهام وحسبَ الأداء، كانت الشخصيات من نصوص لشكسبير أو بريخت، أو لمحمود دياب وألفرد فرج، أو لممدوح عدوان وفرحان بلبل وسعد الله ونوس، أو لكاتب ياسين وعز الدين مدني، أو... لأنَّنا مثلما تأخذنا الكلمةُ (القول) الذي يقوله الممثِّل، فإنَّ القول يجب أن يقترن بالفعل؛ بتجسيده أداء على الخشبة فيعلِّمُنا ويشحنُنا ويحفِّزُنا، وليس يُفرِّغ- يُفرِّغُنا. لأنَّ ما نتفرَّج عليه كأنَّه أداءٌ لفعل حقيقي؛ لفعلٍ حيّْ. ووفقًا لأنطوان ملتقى الجسد هو "بيت الشهوات" كما في اللاهوت المسيحي، عليه وعلى الممثِّل على الخشبة أن يمارس العصيان المدني، كونه جسدًا مُؤثِّرًا ويؤثِّر بأدائه فيرينا أفعال الشخصيات الخيِّرة والشريرة في صراعها الأزلي في مَنْ يسود ويتسيَّد.




الممثِّل عند ملتقى -الذي أسَّس عام 1980 مع زوجته لطيفة "مسرح مارون النقاش" - هو (العرض) المسرحي الذي بأدائه يجب أن يحقِّق (وهم) الاندماج مع الفعل/ الصراع الذي يُثيره على الخشبة. فالتمثيل ليس هو فن الإلقاء، ليس الكلمات التي في النص ومن ثمَّ تحويلها إلى أصوات. في مشروعه المسرحي- وهو مشروع اختباري تجريبي اشتغل على شخصياته ممثِّلًا ومُخرجًا ومع رفيقة دربه لطيفة ملتقى على الطبيعة الإنسانية- يأخذ بالشخصية، فيقوم بتفسير أفعالها وتقويمها، كانت شخصيات شريرة أو خيِّرة، فيأخذ منها (الوهم) وَهْمَها الذي يُبرِّر ويُجمِّل لها الحياة ليرمي بها في (الحقيقة) التي تعيشها من عوزٍ وفقرٍ وضعف وخذلان، لتعيش الحقيقة وليس في الوهم؛ هو يأخذ بالشخصيات كانَ مَنْ كانَ مؤلِّفها ومولِّفها، من اللاوجود كغياب، إلى الوجود كحضور، محققًا "الدهشة" في عرضه المسرحي، فيحد من عذابات الشعور الإنساني واغترابه. إنَّها لحظةٌ معرفية يجيبُ فيها على تلك الـ(ماذا) السؤالية والاستفهامية.
كان أوَّل وقوف له على خشبة المسرح عام 1937 بدور مُزارعٍ صغيرٍ. ومن ثمَّ قام بالتمثيل وإخراج أوَّل مسرحية: "الزّير" لفولتير، في عام 1950 في بلدته وادي شحرور، تراه ينبشُ طويلًا وكثيرًا ليُرينا غليان البراكين المكبوتة في شعورنا، وأسئلتنا عن: مَنْ سَرقَ الحريَّة منَّا وقيَّدنا بتلك الجنازير والأغلال، ورمى بنا في غابة وحشية؛ أوْ يأكلنا اللص/ السارق، أو تأكلنا الوحوش؟. شريعة غاب. هذا ما عمل أنطوان ملتقى على نقده في مسرحياته، فيفك عن أيدينا ورقابنا، عن عقولنا أسلاك وجنازير العقائد التي تلعب بالقوانين الوضعية والسماوية لمصلحتها، وبشكل درامي تجريبي. أنطوان ملتقى في مشروعه حاول إنقاذ الشكل الدرامي الأرسطي والبريختي، فحقَّق نوعًا من جدل؛ من صراع بين أفعال، وليس بين كلمات؛ كان حوارًا أو حديثًا/ محادثة، وأنَّ المحادثة في المسرح لا تتطوَّر إلى فعل، ومن الصعب أن تصير فعلًا. فهو كمُخرج لم يكن يحمل عصا ويتصرَّف كمعلِّم صف على الطلاب أن ينفذوا أوامره. كان كمخرج تجريبي يحرِّض الممثِّل على تشغيل مشاعره وأحاسيسه بالدور الذي يمثله للشخصية كانت من شخصيات شكسبير أو لوركا. وهو الذي وإن اشتغل على شكسبير، كان في مسرحه متأثِّرًا بأنتونين آرتو (1896- 1948) مؤسِّس مسرح القسوة، الذي أَوْلَى جسد الممثِّل الدور الأوَّل في تشكيل وتكوين العرض المسرحي، وليس إلى اللغة الأدبية التي كتب بها المؤلِّف نصَّه. برحيل ملتقى خسر المسرح العربي مثقفًا ومفكِّرًا مسرحيًا رائدًا التزم في مسرحه مع قضية الحريَّة والكرامة التي يفتقدهما الإنسان العربي، وبمنتهى القسوة.   

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.