ينتمي فيلم "الأوقات السعيدة" (2020) Happy Times، من وجهة نظر بعض النقاد، للمرحلة الثانية في مسيرة المخرج الصيني زانغ ييمو، حيث ينتقل في هذه المرحلة من الأفلام ذات الطابع الملحمي التاريخي، مثل فيلم "الذرة الحمراء" وفيلم "أضيئوا المصابيح الحمر"، إلى أفلام أكثر بساطة من حيث الشكل، ولكنها لا تقل عن بقية أفلامه من حيث قوة المضمون والإبداع الفني. ويمكن اعتبار فيلم "الأوقات السعيدة" امتدادًا لأفلامه التي تعالج مواضيع مستمدة من الحياة المعاصرة في الصين والتي تعتمد على قصص تبدو في ظاهرها في غاية البساطة، ولكنها البساطة المبهرة للمتفرجين بسبب غنى التفاصيل التي تبدو عادية للوهلة الأولى، ولكن المشبعة، ليس فقط بالمعنى العميق والعاطفة المؤثرة، بل بشكل خاص بالقدرة على تحويل وقائع الحياة العادية إلى شعر. وهي القدرة التي أدهشت معجبيه في أنحاء العالم التي ظهرت في أفلامه الرائعة مثل فيلم "الطريق إلى البيت" و"ولا واحد أقل"، وكما هو واقع الحال طبعًا في فيلم "الأوقات السعيدة".
ينطوي الفيلم على بُعد فلسفي تمت صياغته من أبسط التفاصيل اليومية، ومفاده أن الأوقات السعيدة هي تلك التي نعيشها وليست التي نعوّل عليها، وأن ما نختزنه في ذاكرتنا أجمل مما نطمح إليه، والأهم من ذلك، أن حياتنا بحدّ ذاتها سينما فيها فرح، ودموع، وتفاصيل في امتداد للخيط الدرامي الذي يأخذنا من مسقط رؤوسنا إلى مدافن أجسادنا، وتبقى العبرة: كيف نعيش؟. وقد احتاج المخرج لأن يمعن في أدق التفاصيل الحياتية ليخرج بهذه النتيجة من خلال فيلمه الذي يحكي قصة رجل في الخمسين، اسمه شاو، نراه في أول مشهد بالفيلم يتحدث إلى سيدة بدينة حول إمكانية ارتباطهما، وهذا ما يتكشف في المشهد الذي يليه، ونحن نرى بطل الفيلم يعود أحد أصدقائه للاستدانة، حيث يتضح أن حاله معدوم، فهو يقيم في حي فقير، في بيت يفتقد مقوّمات الحياة البسيطة، فلا وجود لثلاجة أو تلفزيون، وقد أخفق مرات عديدة في الارتباط بامرأة، وها هو يجد بهذه السيدة البدينة ملاذه وقد وافقت على فكرة الارتباط به، وهذا بحدّ ذاته إنجاز.
تبدو المعضلة للوهلة الأول متصلة بالنقود، فالرجل لا يملك شيئًا ومع ذلك فإنه يوهم سيدته البدينة التي تقيم مع ابنها الشره، وابنة طليقها الفتاة الشابة فاقدة البصر، بأن المال ليس مشكلة، وأنه جاهز لكافة مطالبها، وفي هذا إشارة تعمدها المخرج، فالمال فعلًا لا يساوي شيئًا أمام الحالم، وشاو رجل حالم، والأهم من ذلك أنه طيب، لذا فإن حلمه يتراءى دائمًا بالنسبة له على مدى بصره، ومتناول يده، وبالتالي، فهو لا يشعر أن ثمة مشكلة كحال الطيبين جميعًا عندما يحلمون.
يقترح الصديق على شاو أن يبحث عن وسيلة لجلب النقود، فلا أحد يمكن أن يقرضه المبلغ الذي يريده، ويتفتق ذهن الصديق عن مشروع استثماري يتلخص في استثمار حافلة مهجورة صدئة متواجدة بين أشجار غابة على أطراف المدينة، لم يبق منها إلا هيكلها، وذلك عن طريق تنظيفها وإعادة دهنها من الداخل والخارج باللون الأحمر، وتحويلها إلى مكان يتم تأجيره للعشاق الباحثين عن خلوة. تروق الفكرة لـ شاو، فالأمر لا يحتاج إلى رأسمال، وسوف يعود بمردود ما، فيباشر فورًا بترميم الحافلة إلى أن تصبح جاهزة لاستقبال العشاق المتناثرين بين الأشجار بحثًا عن خلوة ينفسون فيها عن مشاعرهم المتبادلة.
ولكن، ما إن تصبح الفكرة قيد التنفيذ حتى يعجز شاو عن استسهال الخلوة بين العشاق، فالأمر الذي يحتاج منه العناء والكد مقابل أن يختلي بامرأة تحت سقف واحد، ها هو بات متاحًا لعابري الطريق، فيفشل مشروعه حين يمنع العشاق من الاختلاء ببعضهم البعض، ويصرّ على أن يُبقي باب الحافلة مفتوحًا، ليحول دون خلوتهم.
هذا التراجع من شاو عن مشروعه يأتي متأخرًا، إذ يكون أثناء انشغاله به قد أوهم فتاته البدينة أن لديه فندقًا، وأنه يعمل بمنصب مدير عام للفندق، وهو الأمر الذي يستهوي فتاته، خاصة وأنها ترغب بالتخلص من ابنة زوجها السابق الضريرة، فتطلب من شاو أن يجد للفتاة الضريرة عملًا في فندقه فهي تجيد التدليك، وعلى الرغم من تمنّع شاو إلا أنه لا يستطيع أن يرفض لها طلبًا فيأخذ الفتاة الضريرة إلى حيث تقبع الحافلة، ليتفاجأ فور وصوله بآلية البلدية وهي تسحب الحافلة من مكانها لترميها بعيدًا، فلا يجد شاو حلّا لمشكلته إلا الإمعان بالكذب، إذ يتفق مع مجموعة من جيرانه المتقاعدين الطيبين على تحويل جزء من مصنع مهجور إلى ما يشبه غرفة للتدليك في ناد وتشغيل الصبية، وتحويل الجيران إلى زبائن يدفعون لها أوراقًا مقصوصة على شكل ورق نقود لإيهامها بأنها تكسب نقودًا.
يغطي هذا العرض جزءًا من حبكة الفيلم، ألا وهو توق شاو لأن يرتبط بامرأة، واستعداده لأن يكذب ويدّعي من أجل هذه الغاية. أما الشق الثاني من الحبكة فيتصل بالفتاة الضريرة التي تنتظر والدها وتتمنى أن يعود ليجري لها عملية جراحية تعيد لها بصرها، ونراها كيف تتفانى في عملها في مجال التدليك لعلها تربح نقودًا تمكّنها من إجراء العملية الجراحية بنفسها.
تسير هذه الأحداث بموازاة تطور في علاقة شاو مع الفتاة الضريرة، وهي علاقة إنسانية بحتة، قائمة على العفوية والتلقائية، تمامًا كما تنمو وردة جميلة في الخلاء بدون عناية أو استعداد مسبق. ونلاحظ في سياق هذا التطور البريء في العلاقة كيف يُظهر المخرج الفتاة الضريرة في أكثر من مشهد وهي نائمة أو تتجول بملابسها الداخلية، بدون أن تأخذ هذه المشاهد أي إيحاء جنسي، بل على العكس فإنها تكرّس براءة العلاقة وأبوتها، وهو ما ينسحب أيضًا على رغبة شاو في الارتباط بامرأة، فهو مسكون بصقيع وحدته في منتصف عمره، وليس معنيًا بشهوة أو نزوة. وأظن أن المخرج أصرّ بذكاء على إيصال هذه الفكرة، خاصة بالمشهد الذي يزور به شاو فتاته البدينة بدون موعد مسبق فيجدها على طبيعتها في البيت، وقد بدا جسدها مترهلًا مثيرًا للنفور، هذا المشهد مع مشهد تكرار ظهور الفتاة الضريرة بملابسها الداخلية، إضافة إلى رفض شاو السماح للعشاق الاختلاء بحافلته، كل ذلك يدل على أخلاق هذا الرجل الذي لا يطمح لأكثر من أن يخرج من وحدته ويجد امرأة تقبل به.
يحدث انعطاف مهم بالفيلم حين تكتشف السيدة البدينة أن شاو يكذب فهو لا يملك فندقًا، بل لا يعمل من الأصل، فتتخلى عنه، وتتزوج غيره، وتطرده من بيتها عندما يزورها حاملًا كعادته الزهور إليها. في هذه الأثناء يكون شاو قد تلعثم حين طلبت منه الفتاة الضريرة أن يقرأ لها الرسالة الوحيدة التي تحتفظ بها من والدها، فالرسالة، كما قرأها شاو، لا توجد فيها إشارة عن نيته مساعدة ابنته بل هو يتوسل لطليقته أن تصبر عليه بما تبقى لها من مال، بمعنى أن الأب الغائب عاثر الحظ، وحظ الفتاة بأن يعود والدها ويعيد لها حلمها باستعادة بصرها غير ممكن، فيقرر شاو من باب العزاء لنفسه أن يكتب بخط يده رسالة رقيقة لها مدّعيًا أنها من والدها، ولكن القدر يتربص له في الطريق حين تداهمه شاحنة ترمي به بلا حراك في المستشفى.
هنا يصعّد المخرج من تسارع الأحداث، بعد أن طها التفاصيل على نار هادئة، إذ يدرك أصدقاء شاو العاجز عن النطق في المستشفى رغبته بأن تقرأ الرسالة لفتاته الضريرة، فيقصدونها في البيت لفعل ذلك، ولكنهم يكتشفون أنها قد غادرت المنزل وتركت ورقة صغيرة بجانب جهاز مسجل تطلب فيها الاستماع إلى ما يتضمّنه الشريط. وينتهي الفيلم بمشهد الفتاة وهي نائمة على وجهها في الشوارع، بينما صوتها ينقل ما تضمّنه الشريط ومفاده أنها كانت تعرف بأنهم يكذبون عليها، وأنه لم يكن ثمة غرفة تدليك، ولا فندق، وأن النقود التي كانت تتقاضاها هي عبارة عن قصاصات من أوراق عادية، ولكنها ممتنة لهم، وممتنة لمحبتهم والتفافهم حولها، لدرجة أنها قررت أن تشاركهم اللعبة، وأن لا تخذل فرحتهم بها، حين أوحت لهم أنها تصدق حيلهم طالما أنها بريئة، مؤكدة على أن أوقاتها السعيدة هي الأوقات التي قضتها معهم.
لا يخلو الفيلم من لمسات كوميدية، وأخرى عاطفية ورومانسية، تمامًا كما هي حال الفقراء، فثمة وراء كل "لقمة عيش" ضحكة، وما بين الدمعة والدمعة ثمة ابتسامة، وتظل ثمة غبطة في القلب يسمونها "حلاوة الروح"، وقد تجلت تلك الكوميديا في إمعان البطل بسذاجته، والمفارقات التي قد تواجه كل من "عينه بصيرة ويده قصيرة"، تمامًا كحال الجار الطيب الذي قامت الفتاة الضريرة بتدليكه وبدل أن يعطيها الأوراق المقصوصة، أعطاها، سهوًا، نقودًا حقيقية فأضاع ثمن عشاء أسرته تلك الليلة. أو الجار الآخر الذي شاركهم لعبة التدليك، ولكنه لم يقاوم حركة يدي الفتاة على جسده المنهك فذهب في نوم عميق!
ومن المشاهد المشحونة بالمشاعر والعاطفة، مشهد الفتاة الضريرة وهي تتلمس وجه شاو في الشارع وسط الزحام لكي تتعرّف عليه، وآخر حين يشتري لها فستانًا جديدًا فتسأله وسط الزحام أيضًا إن كانت ألوان الفستان جميلة، وإن كانت فيها رسومات وورود، وتفرح كثيرًا حين يخبرها أن الفستان بستان من الورود.
لقد أنجز زانغ ييمو فيلمه ببراعة استثنائية وخاصة على صعيد الحبكة، فأنت لا تعرف ما الذي يدفع به المخرج، وما هي الحلقة المحورية: أهي العلاقة بين شاو والسيدة البدينة، أم علاقة الفتاة الضريرة وشاو الرجل الطيب؟ ليتضح في الختام أن الحلقة المحورية التي تدور حولها تفاصيل الفيلم تتصل ببعد أكثر عمقًا، ألا وهو أن الأوقات السعيدة هي التي نعيشها بعفويتنا وتلقائيتنا، وهي التي ننشغل بها لغايتها وليس لأجل أية غاية أخرى، وهي التي نتفاعل معها بقلوبنا دون أي ادّعاء أو افتعال.