ساهم المخرج الصيني زانغ ييمو (1950)، أو كما يسمونه: فتى الصين العظيم، في إحداث تحول في السينما الصينية، وفي نقلها إلى العالمية من دون أن يتنازل عن جذره الصيني، وما تمثله له الصين.
لم تبهره السينما الغربية، بل لقد علمها أنْ ليس بالإمكانيات وحدها يتحقق الإبداع، فالأصل في الفكرة، والرهان على أسلوب معالجة هذه الفكرة. ففي خضم ما تشهده دور العرض العالمية من أفلام حركة سريعة، وقصص مفبركة تحظى بكل الإمكانات، إلا القدرة على نقل الإحساس، يقدم ييمو سينما مختلفة أهم ما يميزها الجمالية البصرية، فالمشاهد لا يرى صورة مع الحدث الدائر، بل لوحة فنية تخطف الأنظار. كما يتميز هذا المخرج بتنوّع المواضيع التي يطرحها، من أفلام تاريخية، إلى أفلام المغامرات، والكوميديا، والأفلام الاجتماعية، وحتى أفلام الكونغ فو، في حين نعرف أن غالبية المخرجين يختصون عادة بنوع معين من المواضيع.
للتعرف إلى هذا المخرج سوف أتطرق إلى فيلمين له. في هذا المقال أكتب عن فيلمه "الطريق إلى البيت"، وفي المرة المقبلة نعرض له فيلم "الأوقات السعيدة". وفي الحالتين نحن أمام تحفتين سينمائيتين تستحقان الالتفات إليهما.
فيلم "الطريق إلى البيت" (1999) مفعم بالأحاسيس، يعتمد المخرج فيه على أدوات بسيطة لا تزيد عن التوظيف الموفق للمكان، والاعتناء المتقن بالأداء، والسرد المقنع المعبر للحيثيات، والترابط الوثيق للمجريات.
تدور أحداث الفيلم حول قصة حب تقع في إحدى القرى الصينية النائية بين فتاة يافعة، وهي أجمل فتاة في القرية، وبين معلم شاب جاء إلى القرية حديثًا للتدريس في مدرسة القرية. تشكل قصة الحب هذه الركيزة التي يقوم عليها الفيلم، فبمقدار الاقتناع بالمشاعر المتبادلة يمكن التفاعل مع الإيحاءات والأفكار التي يثيرها الفيلم. ومن هنا فقد اعتنى المخرج بقصة حبه، فجاءت سلسة بسيطة، قائمة على المشاعر المتبادلة، وليس على الحوار. بل إن الحبيبين الشابين بالكاد تحدثا إلى بعضهما بعضًا قبل أن يغرقا في الحب، وتغدو حياة كل منهما مستحيلة بعيدًا عن الآخر. وهذا يعد إضافة للسينما التي تزخر باللغو، وتكثر من الثرثرة والنحيب والعويل، في محاولة محمومة لإيصال إحساس غالبًا ما لا يصل.
يعتمد الفيلم على الأسلوب الاسترجاعي للأحداث، حيث يبدأ من النهاية، ونحن نرى الصبية العاشقة وقد غدت عجوزًا هرمة تجادل رجال القرية بضرورة نقل جثمان زوجها (المعلم) إلى البيت سيرًا على الأقدام، ومحمولًا على الأكتاف، وذلك تبعًا لتقليد صيني قديم يقول بذلك كي لا يضل المتوفى طريقه إلى البيت بعد الوفاة. وفي هذا أيضًا إضافة أخرى، فأغلب الأفلام تعتمد على الحبكة والتضليل، وعدم الكشف عن نهاية الفيلم لضمان متابعة المشاهدين وتشويقهم للفيلم حتى نهايته. غير أن المخرج زانغ ييمو يفعل العكس، إذ يبدأ من الخاتمة، ويعود إلى استعراض البدايات، ليؤكد بذلك أن التشويق ليس هو أساس نجاح الفيلم، فالأهم القدرة على التعبير عن المشاعر والأحاسيس، وكيف توظف الحب كقيمة جمالية، ومعنى الوفاء، وغير ذلك من المشاعر الإنسانية. وفي هذا تكمن عبقرية هذا المخرج، فهو يضع عنصر التشويق جانبًا، ويراه شكلًا من أشكال المراهقة السينمائية، ويأخذك إلى عوالم الفيلم، ليبهرك بتفاصيله، وكيف تمت هذه التفاصيل. وهو محق في ذلك، فأنا أشاهد فيلمًا معينًا أكثر من مرة، للجماليات التي يحظى بها، في حين لا أعود إلى مشاهدة فيلم يعتمد على التشويق، ذلك أنني أعرف، سلفًا، مجريات الفيلم.
فيلم "الطريق إلى البيت" يحكي عن وفاء الزوجة لزوجها بعد وفاته، وكيف يتم التعبير عن هذا الوفاء، وهذه مسألة ندر أن تطرقت إليها السينما. وإذا ما فعلت فمن الصعب التمكن من نقل الحب على سجيته، والإحساس بالوفاء لهذا الحب.
نعيش في المشاهد الأولى من الفيلم مشاعر المرأة العجوز وهي تكابر على وهن جسدها، وتحيك بيدها كفنًا لزوجها، وتتشبث بموقفها القاضي بضرورة أن يعود الجثمان من المستشفى في المدينة إلى البيت في القرية عبر الطريق القديم محمولًا على الأكتاف، وسيرًا على الأقدام، رغم أن الظروف غير مواتية، فالطقس بارد، والطريق طويل، ولا يوجد رجال في القرية يكفون للقيام بالمهمة، والأهم من ذلك أن ثمة سبلًا أكثر يسرًا متوافرة، كاستخدام السيارة، أو العربة، وهذا ما يحاول ابنها أن يقنعها به.
في خضم تشبث الأم بموقفها، يستعيد الابن العائد من الغربة للمشاركة في تشييع جثمان أبيه قصة الحب التي كانت قد جمعت والدته ووالده، لنعيش خلال ذلك سحر تبادل الأحاسيس ما بين الفتاة الجميلة اليافعة والمعلم الجديد على نحو ما ندر أن شهدت السينما مثيلًا له، فالحب المقدم هو حب نقي خالص من الشوائب والافتعال، فبمجرد أن تلتقي الفتاة بالمعلم الجديد القادم للتو، تسري قشعريرة الحب في جسدها، فتقشعر معها أبدان المشاهدين.
تكشف التفاصيل أن للحب لغة مستقلة، لغة لا يفهمها إلا من يعيشها، لغة لا تعبر عن نفسها بالمفردات، بل بالأحاسيس، فحين رأته، من النظرة الأولى، قدرت أنها منذورة لإحساس نبيل، فراحت تتصرف من وحي هذا الإحساس، تشارك في إعداد طبقها الخاص لتشارك به في وجبة جماعية أقيمت في الساحة للمعلم والعمال الذين يبنون المدرسة كل يوم. ونراها وهي تراقب بعاطفة شديدة المعلم، متمنية أن يختار صحن الطعام الذي أعدته، ولكن ذلك لا يحصل.
كما ثمة تقليد في القرية أن يتناول المعلم طعامه كل يوم لدى إحدى أسر القرية، ويحين موعد تناول المعلم للطعام في بيتها، تذكر له مراقبتها له أثناء الوجبة الجماعية، وكيف كانت تتمنى أن يتذوق الصحن الذي أعدته، فيهز لها رأسه، ولتمر عليهما هذه اللحظة أكثر عمقًا ودلالة من أي حوار مستفيض يمكن أن يجري بينهما.
تتطور الأحداث حين يُطلب المعلم إلى المدينة للتحقيق معه في شأن نشاطات لها علاقة بانتماءاته السياسية. يتزامن ذلك مع الموعد الثاني لتناوله طعام الغداء في بيتها. يأتيها على عجل ويخبرها بضرورة أن يذهب إلى المدينة، ويهديها دبوسًا لتزين به شعرها...
تركض خلفه لإعطائه طبق الطعام الذي أعدته له... ولكن عجلات العربة تغطي على لهاثها المحموم، فتتعثر وتتهاوى متدحرجة على الأرض، فينكسر طبق الطعام، وتفقد الدبوس.
تصاب في غيابه بحالة من الهستيريا، إذ يهيأ لها، في لحظة، أن صوته يعلو في المدرسة، فتذهب إلى هناك لاهثة لتجد الصف فارغًا إلا من صفير الريح، فتهرع إلى تنظيف جدران ومقاعد ونوافذ الغرف الصفية لتكون على أفضل حال حين يعود.
يعرف كل أهالي القرية قصتها، فيتضامنون معها، ويلتفون حولها حين عثروا عليها ذات طقس بارد مغمى عليها في الطريق بعد أن كانت تحاول الذهاب للبحث عنه في المدينة.
إلى هنا تتوقف تفاصيل بداية قصة الحب، حيث ينقل لنا الابن بأن المعلم (والده) عاد بعد ذلك إلى القرية وتزوجها، وأمضى حياته معلمًا في المدرسة، يجوب القرى المجاورة بحثًا عن دعم إضافي لتحسين الأحوال في المدرسة، فيما بقيت هي وفية لحبها له، وها هي في يوم وفاته تكتم شهقة في صدرها، تفضحها على شكل دمعات ساخنة تنسكب من عينيها، فكيف لا ينصاع لمطلبها في نهاية المطاف الجميع، ويعود الجثمان بجنازة مهيبة يشارك فيها رجال متطوعون كانوا من تلاميذه وهرعوا إلى الجنازة من أرجاء البلاد بعد أن بلغهم الخبر ليشاركوا في حمل الجثمان.
هنالك كثير مما يمكن أن يكتب أو يقال عن الفيلم، غير أن أهم ما فيه، في رأيي، هو قدرته على اجتياز حاجز السهل الممتنع في السينما، وتمكنه من نقل الإحساس بالحب، ومعنى الوفاء، إلى الشاشة، في إطار واقعي، وليس رومانسيًا فحسب، وهو ما تتلعثم أمامه أعتى السينمات بكل ما يتوافر لها من إمكانيات وبذخ في الإنتاج، فالحب على بساطته ظل معضلة صناع السينما، عبثًا يحاولون تقديم قصة حب مفعمة على الشاشة، رغم أنه، أي الحب، هو القاسم المشترك لأغلب الأفلام السينمائية، ويندر أن يمر فيلم من دون أن يعتمد فيه المخرج على قصة حب، سواء على هامش قصة الفيلم، أو في صميمها، غير أن التمكن من إيصال الإحساس بالحب يظل الحلقة المفقودة، وها هو فيلم "الطريق إلى البيت" يأتينا بالحب في أرقى تجلياته، ألا وهو الحب المقرون بالوفاء.
نشأ المخرج ييمو في بيئة فقيرة، ابنًا لعائلة تشق طريقها بالدم، وعرق الجبين، واستطاع أن يجعل من هذه البيئة كنزًا يغرف منها أفكاره في صناعة أفلام أدهشت الملايين. دراسته للتصوير الفوتوغرافي، وليس الإخراج، ساعده كثيرًا في الاعتماد على الشكل. إذ يصرح بهذا الشأن: كنت أعتمد، في بداياتي، على الشكل، ثم صرت أكثر اهتمامًا بالمضمون. ولعل ما يفعله هو مزج بين الشكل والمضمون، مما يجعل أفلامه ذات رونق خاص. فأنت تشاهد تحفة فنية، إضافة إلى متابعة مجريات فيلم، وهذا ما سوف نتعرف إليه أكثر مع فيلم "الأوقات السعيدة"، الذي يعرض طيبة وبساطة الصينيين.