}

"الحياة حلوة": عنوان ساخر لواقع فلسطيني مرير

سينما "الحياة حلوة": عنوان ساخر لواقع فلسطيني مرير
ملصق الفيلم
لا يتناول المُخرج الفلسطيني الشاب محمد الجبالي في جديده: فيلم "الحياة حلوة" الحرب والمنفى، والمأساة الفلسطينية في عمومها، بشكل مُباشر. إذ، عبر تركيزه على توثيق رحلته الخاصة، ومُعاناته الشخصية في الهجرة والمنفى، ومُحاولات العودة إلى الوطن، يُبرز جُملة من الصعاب والمشاكل التي يُواجهها أغلب أبناء الشعب الفلسطيني، في مُختلف البلدان. المُدهش جدًا في الفيلم أن الأحداث التي يُوثقها، تتداخل وتتقاطع وتختلط والواقع الحالي في غزة، ومع ما يُحدث الآن للفلسطينيين إجمالا، والغزيين تحديدًا. وكأن ما نراه، وقاساه الجبالي، مُجرد فصل من فصول مأساة تتكرر، بدرجة مُتشابهة أو حتى مُتطابقة، على نحو يصعب تحليله وتفسيره فعلًا.
للوهلة الأولى، عند تأمل عنوان الفيلم، ومعرفة أنه لمُخرج فلسطيني، يتساءل المرء: هل قَصَدَ الجبالي أن يُقدم صورة مُتفائلة للفلسطيني، والعالم، أو أن العنوان به شُبهة تهكم وسُخرية مريرة من الواقع الراهن، وما يحدث حولنا إجمالًا؟ ولأن أغلب القصص المُرتبطة بغزة، أو القادمة منها، نادرًا جدًا ما تبعث على السعادة، أو تُلمِّحُ إلى حلاوة الحياة، فإن تأويل عنوان "الحياة حلوة" بدا شديد الغرابة، والأهمية، والإثارة. ورغم المآزق والصعوبات، والمنفى الطويل، والحدود المُغلقة، والحرب، وعسف القوانين، وكل ما لا يبعث على التفاؤل، إلا أن شخصية المُخرج، المُفعمة بالحيوية، تُصرّ على بث روح الفكاهة، ومُعانقة الأمل والتفاؤل، والتطلع إلى المُستقبل، ومن ثم، ينتهي الأمر بنا إلى مُشاهدة قصة مليئة بالتقلبات الحزينة والمُفرحة، مُلهمة إلى حد كبير، ومشحونة جدًا عاطفيًا، وصادقة إلى حد بعيد.
من خلال تجربة المُخرج الشخصية في المنفى، نُعاين في "الحياة حلوة" رحلة مُعاناة محمد الجبالي، مواليد غزة عام 1990، على مدى 7 سنوات لم يستطع خلالها العودة إلى غزة. توثيق المُخرج لحياته، أو تجربته الشخصية في الخارج، ناتج عن قدرته البارعة على السرد، والحكي بشكل مفتوح عن نفسه. ومن ثم، يتمحور الفيلم إجمالًا حول قصة مُخرج طموح يُحاول البقاء على قيد الحياة، والتأقلم مع ابتعاده عن غزة وأسرته والأصدقاء، وصعوبة إقامته القانونية في بلدة ترومسو النرويجية الصغيرة، التي علق فيها، رغمًا عنه.
في عام 2016، غادر محمّد الجبالي غزة إلى النرويج بعد تلقيه دعوة للمُشاركة في مهرجان فني. لكن الرحلة، التي كان مُقررًا لها أن تستمرّ لشهر واحد فقط، امتدّت لسنوات، إذ بمُجرد خروجه من القطاع، وبعد تطوّر القتال والقصف الإسرائيلي، أُغلق معبر رفح، نافذة غزّة الوحيدة على العالَم، فوجد نفسه عالقًا، وغير قادر على العودة، رغم المُحاولات. وعليه، تحولت الرحلة إلى سنوات من المنفى الإجباري، وثّقها الجبالي في فيلمه الوثائقي الطويل الثاني، "الحياة حلوة" (90 د)، من إنتاج قناة الجزيرة الوثائقية، وجهات أخرى دولية.
يبدأ الفيلم في يوم مُثلج في النرويج، حيث يُحاول جبالي إدارة تحركاته على الزلاجة، وضبط توازنه، ربما في إحالة إلى ما سيُحاوله على امتداد الفيلم، وسنوات المنفى، وهو القادم من بلد دافئ، وثقافة وخلفية مُغايرة كلية. يأسرك صوت الجبالي، راوي الفيلم، مُنذ اللحظة الأولى. لغته بسيطة، شديدة الشاعرية والطيبة، دافئة وذكية. كذلك، شخصه المُهذب، المرح، المُتواضع مع الجميع، في مُختلف الظروف وأصعب الأوقات.
في ترومسو، نتعرف على هيرمان وزوجته مارثا إثر استضافتهما لمحمد في بيتهما خلال فترة إقامته. تمضي الأمور على نحو سلس قبل أن تتعقد. إذ باقتراب انتهاء تأشيرته السياحية، تتأزم الأمور في غزة، ويُغلق المعبر لأجل غير مُسمى. ما يضعه في موقف لا يُحسد عليه بالمرة. ماذا يفعل؟ وإلى أين يذهب؟ يُحاول تمديد تأشيرته. لكن، كيف؟ وإلى متى؟ فالقوانين صارمة، ولا علاقة لها بما يحدث في غزة، أو كون بلدك في حالة حرب. سيما وأن محمدًا، عندما دخل إلى صفحة طلب تمديد الإقامة على شبكة الإنترنت، وجد أن بلده ليس موجودًا أصلًا في قوائم البلدان ليختار منها. يعرف أن جنسيته غير مُعترف بها من قبل الحكومة النرويجية.




ومن ثم، يتم تصنيفه على أنه "عديم الجنسية". تتعقد الأمور بشدة، يتطلب الأمر تدخل المُحامين، والصحافة، وحتى القضاء، في النهاية. مع ذلك، ثمة ضرورة تستوجب مُغادرة الأراضي النرويجية كي لا يُخالف القانون. ورغم كل المساعي، وكان منها التقدم بطلب للحصول على تصريح إقامة فنان، إلا أنها فشلت في النهاية، نظرًا لافتقاد الجبالي إلى أي شهادة دراسية في السينما، أو ما يثبت أنه يعمل فعلًا في السينما.
رغم البرد والثلوج، والقلق بخصوص مُحاولات توفيق أوضاعه والحصول على الأوراق الرسمية، يظهر الجبالي وهو يضحك مُتفائلًا وسط وجوه ورفقة ودودة ومُحبة ولطيفة من النرويجيين المُرحبين به وبوجوده بينهم. والمُثير أنهم يبذلون بصدق كل الجهود المُمكنة لمُساندته ودعمه والدفاع عن قضيته ضد القوانين البيروقراطية الجائرة، غير المُكترثة بحالته الخاصة، وعدم وجود مكان يذهب إليه، سيما وأنه بلا عمل، أو مورد رزق أيضًا.
أمام تلك الصورة القاتمة فعلًا، والتي نُعاينها الآن عبر الأحداث المُرتبطة بحرب غزة الراهنة، وتجعلنا نكفر بالتقدم والديمقراطية والقوانين الغربية برمتها، يثبت الأوروبي، أو العديد منهم، أصحاب الضمائر الإنسانية الحية والمواقف البطولية المُشرفة الداعمة والمُساندة، أنهم فعلًا، وبخلاف دولهم وقوانينهم، يكترثون للإنسان والبشر، بصرف النظر عن جنسه ودينه وجنسيته.

محمد الجبالي ولقطة من فيلم "الحياة حلوة"

إذ، بمُساعدة لا تعرف الكلل من هيرمان جريويل، الذي دعاه إلى مهرجان أفلام الشباب الشمالي في النرويج، واستضافه في منزله، ولم يُفارقه طوال الفيلم، ورفاق وصحافيين وفنانين مُناصرين، ومحاميته أيضًا، استطاع الجبالي التماسك والصمود. وفي انتظار قرار المحكمة، حمل جبالي كاميرته المُرافقة له في كل مكان، وراح يُسجِّل يوميات حياته التي انقلبت تمامًا، راصدًا ذلك التناقض الصارخ بين الهدوء والسلام في النرويج والوضع المُشتعل والدمار في غزّة.
نال الجبالي شعبية كبيرة في ترومسو وخارجها بسبب قضيته، خاصة بعد تغطية وسائل الإعلام المحلية لمحنته، وبعد احتجاج مُحاميته، والزملاء من حوله على سوء مُعاملته، وعُقم القوانين البيروقراطية. ومع ذلك، انصاع الجبالي للقوانين، وترك النرويج، وسافر لفترة وجيزة إلى لندن، إلا أنه عاد مُجددًا، وحصل على إقامة فعلية، كطالب، لدراسة السينما. وهو حاليًا، بعدما وقف أمام القضاء، يُواصل دراسة الماجستير في الفنون الجميلة في "الأكاديمية الوطنية للفنون"، في أوسلو. وذلك بعد حصوله على درجة البكالوريوس في الصور المُتحركة من "كلية السينما والفنون"، في نوردلاند، شمالي النرويج. والمُدهش أنه في خضم كل هذا لم يستسلم أبدًا ليأس وإحباط المنفى، وظروف إقامته، بل استغل الوقت في تجميع ومُونتاج وإنهاء فيلمه الوثائقي الأول الطويل "إسعاف" (2016).

إسعاف
طاف الجبالي بفيلمه على عدد من المهرجانات السينمائية الرائدة في العالم، وحصل عنه على جوائز كثيرة، منها جائزة "بي بي سي" للصحافة الشابة العربية. وفيه، نُعاين، أيضًا، المشاهد نفسها التي شاهدناها ونشاهدها على الشاشات منذ أشهر، تلك التي لأصوات الصُراخ في أعقاب القصف وانهيار البيوت، وأكوام الركام والغبار في أحياء غزة. وذلك في أعقاب عدوان بربري، وقصف صاروخي همجي استمر لأكثر من 50 يومًا عام 2014. على مدى هذه الأيام، كان الجبالي يحمل كاميراه، ويركب سيارة الإسعاف، طواعية، صُحبة سائقها الشجاع وطاقمه، في سباق يومي مُتكرر لإنقاذ الجرحى، رغم الخطر المُحدق في كل لحظة.




يرصد المُخرج في "إسعاف" كيف كانت الأمور تمضي تحت التهديد المُستمر في غزة، ووسط حرب تُصادر حتى المُستقبل. بفضل كاميرا الجبالي نختبر ما جرى فعلًا. نرى المآسي، والقتل، والعائلات المفجوعة، والمُوت المُحدق. المُدهش فعلًا أن الفيلم رصد لحظات جسدت، بصورة استباقية، بطولات رجال الإسعاف في شوارع غزة. وكانت بمثابة تكريم، ولفت الأنظار لهم، ولجهودهم، وما بذلوه وسيبذلونه.

الوطن
في الجزء الأخير من فيلم "الحياة حلوة"، الذي نرى فيه لقطات من "إسعاف"، وفوز الجبالي بالجوائز في المهرجانات، يُسجل المخرج، باقتضاب، رحلة العودة إلى الوطن. وكيف تأخرت كثيرًا، بل وتعثرت أكثر بسبب ساعات طويلة من التوقيف، والاعتقال، والاستجواب الرسمي، عند معبر رفح البري. ما أثار تعبيرات الغضب والاستياء الوحيدة التي نراها من الجبالي طوال الفيلم. كان الانتظار كما يصفه المُخرج أقسى من سنوات الغربة والمنفى. ما يُؤكد مُجددًا على الحقائق المريرة، الآنية والمُتكررة، لدرجة التطابق. في النهاية، يجتاز المعبر، ويلتقي بأسرته، التي لم يُخبرها بأمر قدومه. ما يجعل اللقاء غاية في التأثير، رغم أننا لا نحصل إلا على معرفة قليلة جدًا، طوال الفيلم، عن عائلته والأصدقاء الذين تركهم في غزة.
ورغم أن الفيلم لا يحتوي على لقطات فنية، أو جماليات هائلة، أو توظيفات تقنية لافتة، أو صورة استثنائية، أو نص مُذهل، وثمة افتقار إلى مواد مُؤثرة وسياقية أكثر، خاصة المُتعلق منها بالحياة الشخصية والفكرية والنفسية للمُخرج، ما يجعل الفيلم سطحيًا بعض الشيء، لكنه، رغم هذا، يحتوي على كثير من الصدق، والعواطف القويّة، والأمل. وإجمالًا، نجح الجبالي في تقديم وصف مُعبِّر وعميق لحالته وأزمته ومُعاناته، كنموذج للشباب الفلسطيني.

عروض وجوائز
بعد الانتهاء من "الحياة حلوة"، كانت أول عروضه الدولية ضمن فعاليات الدورة الـ36 لـ"مهرجان إدفا الدولي للأفلام الوثائقية" (8 ـ 19 نوفمبر/ تشرين الثاني، 2023)، في أمستردام. وهو أحد أهم وأعرق المهرجانات الدولية للسينما الوثائقية، وفيه فاز الجبالي بجائزة "أفضل مُخرج". وكانت أحدث العروض ضمن مُسابقة "مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة" في دورته الـ25 (28 فبراير/ شباط ـ 5 مارس/ آذار 2024). وأيضًا، "مهرجان الفيلم الفلسطيني للدول الاسكندنافية"، الذي انطلقت دورته الأولى في الفترة من 16 إلى 18 مارس/ آذار 2024. وقد تأسس المهرجان الوليد لتسليط الضوء على الهوية الفلسطينية، وسياسات التهويد، وجدار الفصل العُنصري، ومُواجهة الاستيطان، والحياة اليومية للغزيين.

لقطة من فيلم "إسعاف"

وانطلقت دورة هذا العام تحت شعار "تنفس هواء الحرية"، في العاصمة السويدية ستوكهولم. واستهدف رفع مُستوى الوعي بتاريخ فلسطين والثقافة الفلسطينية في الدول الاسكندنافية. وقد أقيم المهرجان بمُبادرة من صُناع أفلام وأكاديميين أوروبيين وأميركيين. واشتمل على عروض أفلام، وموسيقى، وقراءات شعرية، وستذهب عائداته لدعم صُناع الأفلام الشباب في فلسطين، خاصة في غزة. إضافة إلى تخصيص جزء من العائدات لترجمة الأفلام الفلسطينية إلى اللغات الاسكندنافية، وإنشاء قاعدة بيانات إلكترونية للأفلام الفلسطينية القديمة والحديثة. وهذا يتسق تمامًا، ويُؤكد على حالة الالتفاف والاحتضان والتضامن الجميلة مع محمد الجبالي وقضيته خلال سنوات غربته في منفاه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.