}

"التحديق بالأشياء": مقاربات المرئي واختراق ظلاله

غسان مفاضلة 17 أبريل 2024

غالبًا ما نحدّق في الأشياء لكي نراها، نعاينها ونحاورها من طرفٍ واحدٍ. ونادرًا ما نحدّق فيها لكي ترانا، فتظلّ صورتنا وفق هذه الندرة، مجزوءة أمام مرئيات العالم. وسبق أن وقف العديد من الفنانين والأدباء والفلاسفة على جوانبٍ متنوّعةٍ من العلاقة التبادليّة بين "الرائي والمرئي"، والتي ظلّ أفقها مفتوحًا على تنويعات عين الرائي وتأويلاتها تجاه موضوعاتها. وليس كتاب "التحديق بالأشياء" لمؤلفه الفنان التشكيلي والناقد الأردني محمد العامري (1959) سوى وقفة مع مقاربات تلك العلاقة واستعصاءاتها التي طوّعها عبْر الحوار البصري المفتوح على المرئيّات الفنيّة والطبيعيّة، واخترق ظلالها بعينٍ ولغةٍ نافذتين.

تستند مقاربات الكتاب، الصادر مؤخرًا عن دار "خطوط وظلال" في عمّان، على نزعتها التأمليّة في معاينة المرئيّات واختبار حضورها العيني والمتخيّل. وهو الاختبار الذي وسّع خيارات المؤلف في إعادة تأويل ما يرشح من علاقات بين موضوعاته الفنيّة والطبيعيّة، ليقف على محاور التقاطع  والتناص فيما بينها، وإعادة انتاج ما تبثّه من دلالاتٍ تعبيريّةٍ وجماليّة.

التناظر والحدس والتأويل

يضعنا "التحديق بالأشياء" عبْر 180 صفحة بقطعها المتوسط، أمام طيفٍ واسعٍ من موضوعات المعاينة البصريّة التي يتقاطع فيها المنحى الظواهري مع التماعات الحَدْس والتأويل، وذلك باعتبار أن الحَدْس هو "الأكثر فاعليّة في اختبار وجود الأشياء وتقليبها مع متشابهاتها في الوظيفة والصورة" بحسب العامري الذي أصدر خمسة عشر كتابًا توزعت بين حقول الشعر والنقد والسرد. ولعلّ هذا الكتاب، يمثل ثمرة تمازج ما هو مشترك بين تلك الحقول، معطوفًا عليها الحقل التشكيلي، ما مكّنه من امتلاك أدوات الانفتاح على العلاقات بين الأشياء، ومعاينة مظاهر وجودها وفاعليّتها.

التواشج والترابط البصري بين مرئيات الطبيعة والإبداعات الفنيّة التي شكّلت جانبًا من قسمات الكتاب، يجدان صداهما في بعض المفاهيم التي اشتغلت عليها الفلسفة، القديمة والجديدة، مثل مفهوم "المحاكاة "المأخوذ من شعريّة أرسطو، و"الأصل والصورة" عند جيل دولوز، وفق ما جاء في تقدمة الكتاب للناقد المغربي إبراهيم الحيسن الذي يرى أن تباين تلك المفاهيم واشتباكها في الكتاب، يعود إلى السياقات الجماليّة والإبداعيّة والثقافيّة التي استحضرها المؤلف عبْر أسلوب التفكيك وإعادة التركيب الذي قاده "نحو بلوغ بعض المعاني الضامرة والمتوارية خلف النماذج الفنيّة والبيئيّة التي اشتغل عليها"، رادًا سبب غَلَبة سِمة "التناظر" في نماذج الكتاب، إلى "ظرفيّات العمل الإبداعي ومرجعيّاته البصريّة والاستلهاميّة التي يعتمدها هذا الفنان أو ذاك، أو كحصيلة لتقاطعٍ بصريٍّ مفترض"، وهو ما أفضى إلى توسيع سمة "التناظر" وإشاعتها وفق المرئيات الفنيّة وتجاوراتها المفاهيميّة والدلاليّة.

استرداد المعنى

يذهب العامري في مقدمته "هشير المخيّلة" إلى أن منظور حقيقة الأشياء تتخفّى في تلك المجاهيل التي تتوالد منها الصور والمعاني بما يفوق ما نراه منها. وهذا ما يفترض انفتاحًا ممهورًا "برجرجة المعاني" حسب تعبيره، تجاه طبائع وجود الأشياء "في محاولة استرداد المعنى والإشارة والفراغ"، وذلك عبْر مواصلة عدم التسليم بتلك المعاني التي تبثها الصور المنظورة والمحصورة فيما نراه منها فقط. فهناك دائمًا ما هو محتجبٌ ومخفيّ ولامرئيٌ في المرئيات. وهو ما يستدعي التعامل مع جملة استعارات بصريّة وتخيّليّة مركّبة. من هذا المنطلق، أخذ العامري بناء مقارباته وفق وسائط عديدة امتزجت فيها العبارة الأدبيّة مع اللوحة التشكيليّة والصورة الفوتوغرافيّة والمنحوته، لتندرج في سياق ما يسميه "البعد الشعري الرابع لزمن الأشياء" الذي تشتبك معه وسائط إعادة إنتاج المرئي، انطلاقًا من زعْزعة صورته الذهنيّة التي يتوارى خلفها ويحتجب.

المنحى الظواهري المتوازي الذي ينفتح معه الكتاب على ممكنات تأويل الصورة، بالتساوق مع انفتاحه على ممكنات الشكل وتقاطعاته مع محيطه، ساهم في تعزيز تماسك الخبرة الحدسية وفاعليتها في معاينة الظواهر والتمثّلات المرئيّة، وإعادة توليد صورها ومعانيها، وتغذيتها بواسطة الحبل السرّي للمخيّلة.

احتلّت الصورة الفوتوغرافية التي تكاد في راهنها المعاصر أن تمتصّ كل شيء وتستحوذ على المنجز الإنساني برمته، صدارتها المركزيّة في "التحديق بالأشياء" ربما لأنها امتصت بدايةً، وعلى نحوٍ تدريجي، الطاقة التعبيريةّ للغة في أبهى تجليّاتها الشعريّة والتصويريّة، فصارت اللغة في العقود الثلاثة الأخيرة على أقل تقدير، مجرّد منصّة لتعقّب إشارات الصورة وتموّجاتها المتلاحقة. فكان للعامري وقفته مع ثلاثة نماذج فوتوغرافيّة اتخذت من علاقة انعكاس الوجه في كأس الماء، موضوعًا  للكشف عن المسافات المراوغة التي تفصلنا عن حقيقة المرئي. وهو الكشف الذي تحرّك معه بعين ثالثة مفتوحة على التنافذ مع مُمْكنات التأمل والحوار والتأويل.

بيكاسو


الفوتوغراف وظلال المعنى

استحضر الكتاب تجربة المصوِّر الفوتوغرافي الأميركي فيليب هلسمان، صديق جماعة السرياليين، وأحد المصوِّرين البارزين في القرن العشرين، من خلال تصويره بورتريه لـ بابلو بيكاسو (1981- 1973) من وراء كأس مملوء بالماء. حضر وجه بيكاسو بمسحةٍ سورياليّةٍ تقوم على تفكيك الشكل وإعادة تركيبه وفق توليفات مغايرة لأصولها من دون أن تفارقها. قدَّم العامري، أيضًا، قراءته السيميائيّة المغايرة لصورة بيكاسو الحقيقية، والمحايثة للصورة الفوتوغرافيّة التي صار وجه بيكاسو موضوعها العياني. وصار للمؤلف صورته الخاصة التي التقطها من مقاربات الصورة مع مرجعياتها الحقيقيّة والفوتوغرافية والمتخيلة. 

لم يفقد وجه بيكاسو الذي تماهى مع ذرات زجاج الماء، ملامحه الدالة عليه، وظلّت نظرته الثاقبة، تخترق الكأس وتحتلّ مركزيّة المشهد. ورغم ذلك، ظلّ وجهه يلوح كأنه أجزاء غير واقعيّة من سائل غير مستقرٍة؛ أجزاء "التقطها هالسمان كمادة تعبيريّة محمّلةٌ بمعانٍ جديدة تنتمي إلى سورياليّةٍ مُرَمّزةٍ بمحمولاتٍ نفسيّةٍ وفلسفيّة". لم يكن اختيار وجه بيكاسو موضوعًا فوتوغرافيًّا، اختيارًا اعتباطيًّا، بحسب العامري، وإنما جاء بفعل تحطيم بيكاسو لانتظامات الوقائع المرئيّة من خلال "تكعيبيّته" التي شكّلت قطيعتها البصريّة في الفن التشكيلي الحديث قبل نحو مائة عام، فصار وجه بيكاسو نفسه، وجهًا فوتوغرافيًّا خاضعًا للتفكيك والتركيب.

وفي السياق ذاته، يعرّج الكاتب على تجربة فوتوغرافيّة أخرى للفنان الألماني مارتن فالدباور الذي تتحرك نماذجه بين قطبيّ الواقع والمخيال، مُقتفيةً أثر الزمن ووقعه على الإنسان والمكان، لتضعنا أمام تحديات التعرّف على الواقع بواقعٍ جديدٍ وصادمٍ "فالصورة التي تتحدّى تصوّرك عن الواقع، هي في حقيقتها واقعٌ جديد".  يواصل مع نموذجه الثالث "امرأة تتكسر في مضلع البلور" تتبّعه مسار العلاقات التي تبتكر حدوثها وواقعها الجديد. إمرأة وجهها خلف كأس ماء بثلاثة أرباع امتلاء. وطيفٌ واسعٌ من انثيالات الصور والخيالات تتقافز من انعكاسات وجه المرأة وإعادة ترسيمه على كأس الماء. من هنا، يبدأ العامري اقتفاء ظلال المعنى ما بين الفراغ والامتلاء الذي قسم وجه المرأة خلف الكأس إلى نصفين من دون أن يغفل تحوّلات الشكل وانزياحاته على وجه المرأة الذي غادر مكانه ليسكن في الكأس البلوري المُعدّ سلفًا لإنكسارات الصورة وإعادة انتاجها من جديد.

ومع الماء أيضًا، وبوصفه وسيطًا وحاملًا للتعيّنات البصريّة، يعيد المؤلف تعيين العلاقة التناظريّة بين لوحة "نرسيس" للفنان الإيطالي كاراكافيو (1571- 1610) التي تصوّر "نرسيس" وهو يتمرأى صورته من على سطح الماء، وبين صورة الدوائر الناجمة عن سقوط القطرات في الماء. مشهدان يتناظران ويتقاطعان في الملمح والتكوين على السطح المصقول. في السياق ذاته، ذهب إلى تتبّع الأصداء الصوتيّة الراشحة من دوائر قطرة الماء في الصورة نفسها، بالتزامن مع تتبع تلك الأصوات في "الدوائر المتواليّة" للفنان الإيطالي فابيو التي تحاكي تردّدات دوائر نقطة الماء.

وفي مقارباته للعديد من الأعمال الفنيّة مع مماثلاتها في الطبيعة، جعل، على سبيل المثال، من عمل "طائرٌ في الفضاء" للنحات الروماني كونستانتين برانكوزي (1876- 1957)، نظيرًا لريشة طائر برّي، وفقًا للبنية الاختزاليّة للمنحوتة، وانزياحاتها البصريّة والدلاليّة التي تمثّلت في انزياحها وتعدّيها على حقل الريش في كيانه الأول.

يظلّ كتاب "التحديق بالأشياء" مفتوحًا على المقاربات الحدسيّة تجاه المرئيات، والتي تغذيها خبرتنا المباشرة بتعيّناتها وتقمّصاتها، بعيدًا عن تصوراتنا المسبقة التي نسقطها على معنى وجودها على هذا النحو أو ذاك. ونخلص مع الكتاب إلى أن خبرتنا مع تلك المرئيات، ليست سوى واحدة من نتائج انفتاحنا على تمظهراتها التي تقول دائمًا ما يفوق خبرتنا بها، ما دامت تطلّ علينا بوصفها أثرًا وإشارةً وعلامةً. وهو ما يضعنا مباشرةً، أمام تلك الصورة التي يصبح معها المرئي مُحفّزًا للمقاربات البصريّة والدلاليّة، وحاضنًا  لتوليد الصور والمعاني التي لا تنْضَب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.