يقسم وديع خالد معرضه "من غرفة بيتنا في المخيم"(*) إلى عالمين فنيين متوازيين، واحد عبارة عن لوحات كبيرة الحجم ملونة، وآخر عبارة عن حبر على كانسون، أو ورق. وفيما الأول هو جوهر المعرض بوصفه يعبر عن عنوانه من خلال رسم الحياة داخل غرفة البيت في المخيم، فإن الثاني يرسم الإيقاع الزمني الذي تنتقل فيه مشاعرنا ونحن نجيل نظرنا بين اللوحات، حيث تركز لوحات الحبر على عالم ما بعد السابع من أكتوبر من خلال التوثيق اليومي لمشاعر الفنان خلال ملحمة الصمود والتضحية والعطاء. وعبر عالمين متوازيين ندخل في كوة ضيقة إلى عالم رحب، يبدو مضطربًا حين نلج فيه، ثم يكشف لنا عن تناغم وتآلف مذهلين، فنحن نقف على عتبات الذاكرة، ونحن نغوص في الماضي، فيما يظل خيط رفيع من الحاضر يرمى بنا مثل طابة طفل في قاع بئر، ويسحبنا إليه مرة أخرى.
حتى في توظيفه لتقنيات الفن فإن كثيرًا من لوحات وديع عبارة عن مربعات لونية تبدو مثل قطع الليغو الذي قام الفنان بدقة بلصقها متجاورة، حيث في بعض اللوحات قد تقف مشدودًا تحاول أن تتخيل كيف له أن يقوم بلصق مئات القطع بهذه الدقة لتكوين لوحة مفترضة ومتخيلة في رأسه. عندها تقع في الشرك والفخ الذي نصبه لك، فأنت غير مطالب بأن تؤول اللوحة، ولا أن تفسر عالمها، فطالما نظرت إليها وجدت نفسك جزءًا من هذا العالم كثيف الحضور عميق الجوانب تنزلق فيه من دون تردّد.
لوحة وديع خالد تأخذك إلى داخلها، ولا تترك لك فرصة حملها إلى عالمك ومحاولة مقاربتها بتفاصيلك، أو فرض سياق غريب عليها، بل هي من يسحبك إلى داخلها. إنها لوحة "تحتوي" المشاهد والمتلقي، وتجعلهما قسرًا جزءًا من عالمها المغلق المخفي الموارب، وربما السجين داخل الخزان، أو داخل الغرفة، أو حتى داخل العالم الأرحب والأوسع الذي تسعى لتجسيده. وبقدر ما تبدو كلمة تجسيد مواربة حين يتعلق الأمر بأعمال وديع، فإن ثمة استنطاقًا للمشاعر وللذكريات الحميمة خلف ستائر الزمن لا يسعى وديع إلى العودة بها إلى الماضي، بل يرسمها من زاوية وعين من يقف في وسط الماضي، ويقذف به خارج أتون الزمن حين يبدو من النسيج العام للحياة كما نعيشها. بذلك، فإن النوستالجيا العالية والكثيفة التي يستحضر فيها، وعبرها، الفنان، عالم الماضي ليست بأكثر من قشرة رقيقة تزول فور تأمل اللوحة. إنها تلك القشرة الرقيقة التي يغدو فيها العالم أعمق وأغوط وأكثر رحابة، قشرة تكفي لأن ينزلق المرء إذا ما هشم سطحها في وادٍ سحيق، لكنه يظل قريبًا.
ويمكن ربما لمن عاش في المخيم، مثلي ومثل وديع، أن يفهم معنى ذلك، حين يكون الموقت هو جوهر الدائم، وحين يكون الشعور بهذا الدائم أمرًا موقتًا. كذلك الأمر حين يتعلق الموضوع بفعل التذكر، فأنت لا تتذكر فقط، أنت تعيش ما تظن أنه مضى، لكنه لا يمضي. لا شيء يمضي، كل شيء يظل كما هو. والحال كذلك فإن أعمال وديع ليست رحلة عبر الزمن، ولا هي استعادات واثقة لعالم مؤطر في كبسولات الماضي، بل هي معايشة حقيقية لفعل لم ينته. لا يوجد تذكر، ولا يوجد استرجاع، بل ثمة خلق متواصل لعالم هو كل ما تبقى لنا بكلمات غسان، عالم لا نملك إلا أن نعيشه، وحين نعيشه علينا أن نعيشه ضمن هذا الشعور المتناقض بين الدائم والموقت. إنه الشعور الذي يجعل اللوحة تأخذ المتلقي إلى داخلها، فيصبح تفصيلًا صغيرًا من تفاصيلها الكثيرة والكثيفة، ويصبح عليه أن يتخلى عن عالم الغرابة الذي يشعر به للوهلة الأولى، وهو يقترب من تخوم عالمها.
العيش في خزان يشبه كثيرًا العيش في غرفة، إنه ضيق المكان الذي يخلق كل هذه التفاصيل. في هذا العالم الضيق يصبح كل تفصيل مهمًا، كما تصبح درجات اللون أكثر أهمية. في هذا العالم، التفاصيل ليست ديكورًا، ولا هي مجرد استطراد هامشي، أو مساحة فارغة يمكن ملؤها بأي شيء حتى تكتمل اللوحة. على العكس، اللوحة ممتلئة قبل أن تبدأ تفاصيلها. ففي هذا العالم الضيق لا مكان للثرثرة، ولا مساحة للترفيه. كل شيء محسوب بدقة، وكل شيء موضوع بعناية من الوجوه والأجساد المتكورة على بعضها بعضًا تبحث عن الأمان، وتمنح الحنان، وتصبو نحو التكامل، وهي أحاسيس لها علاقة مرة أخرى بطبيعة الحياة التي تعيشها، ومن تفاصيل الغرفة الضيقة، من أثاث مضطرب، وبقايا موقد، وبعض إشارات للزمن.
كل شيء في اللوحة يتذكر. ليس الفنان الذي يحمل ريشته من أجل الولوج إلى هذا العالم الذي لم يصبح ماضيًا بعد، ولن يصبح كما تقترح اللوحة بكليتها، بل أيضًا كل تفصيل في اللوحة يتذكر ويقوم بما يقوم به وديع. كل شخص، وكل وجه، وكل أثاث، وكل ظل في داخل اللوحة، يقوم بالفعل ذاته بطريقته. وعليه، حين تنقل نظرك بين عناصر اللوحة المختلفة فأنت تنتقل من موجة إلى أخرى، لكنك تظل على التردد ذاته. ثمة بحر هائج داخل اللوحة، بحر من المشاعر، ومن الذكريات، ومن الحنين، كما من الألوان. كل شيء يحمل نفسه إلى العالم ذاته الذي يريد وديع أن يحملنا إليه. ثمة حلم لم يستيقظ صاحبه، وثمة مشاعر من زمن غابر لم تتبخر بعد، ولم تلوثها قوة التجربة، أو إثم النضوج. إنه العالم الذي يحتوينا داخل خزان، أو غرفة بحجم الرغبة في التذكر، والرغبة في الولوج إلى حاضر اللحظة التي مضت. لذلك، فإن الألوان التي يستخدمها وديع تبدو ألوانَ هذا العالم الحالم والمغلق على ذاته. التدرج بين الأخضر والأصفر في تلك المساحة اللونية التي يجب أن تبدو معتمة بالضرورة، لكن بطريقة مذهلة، وباستخدام الظل واللون يبرع وديع في رمينا في أتون نور مبهر ونحن نقف أمام اللوحة، يأخذنا من ظلمة النظرة الأولى إلى بهاء اليقين أمام طزاجة التأمل، مستخدمًا تكنيكات متعددة وأساليب رسم مختلفة، من التكعيبية، إلى نقائضها الانطباعية والكلاسيكية، ومن الأجساد الممتلئة الدائرة إلى الأعضاء الأسطوانية، كما في المنحوتات القديمة. رحلة اللون كما رحلة الفكرة هي رحلة الفنان الذي يريد لنا أن نرى كيف بدا العالم وكيف يبدو من غرفة بيتهم في المخيم. كيف يمكن لهذه الغرفة بتفاصيلها البسيطة أن تحمل تعقيدات العالم الآثم الذي فرض على من يعيش فيها هذا الضيق وهذا الوجع. إن لوحات وديع بقدر ما هي احتفال بالطفولة الحاضرة بقوة في كل لوحة فإنها إدانة للعالم الذي يسجن الفلسطيني في بطن حوت إسمنتي ويريد أن ينعم بذلك ويشكر.
تكثيف حضور الأشياء داخل الخارج ليس إلا نفيًا لكل شيء خارجها. نحن لا نرى شيئًا خارج الغرفة في المخيم، فالغرفة هي العالم كله، والحياة فيها تستحق كل هذا الاحتفال. أيضًا، ثمة عالم مقيد مندهش من وحدته في لوحات الحبر التي تسجل ليومياتنا الكفاح الوطني، ليس فقط من خلال أسماء اللوحات ذات المدلول النوستالجي، بل أيضًا من خلال تكوينات الشخصيات وتعالقها وتداخلها ومحاولة احتوائها للعالم في اشتباك ظاهري يعكس عمق ما يعتمل داخلها من قلق ومن وجع ومن إصرار أيضًا.
هذه ليست جنة الجحيم برغبة ميلتون، ولكنها نضوج الطفل حين كبر وشعر أن ثمة حاجة لأن يظل كل شيء حاضرًا في ذهن العالم. وهي مهمة الفن الحقيقي بأن يجعلنا دائمًا نسعى وراء كمال أنفسنا عبر السير والبحث في نقصها.
هامش:
* افتتح معرض وديع خالد الأسبوع الماضي في غاليري باب الدير في رام الله.