}

"بنات ألفة": عن اللاتي أكلهن الذئب!

أريج جمال 13 يوليه 2024
سينما "بنات ألفة": عن اللاتي أكلهن الذئب!
يتناول الفيلم موضوع تغلغل الأفكار الإرهابية للجماعات الأصولية
إن لم تكن قرأت عن فيلم "بنات ألفة" للمخرجة التونسية كوثر بن هنية، وإن تكن شاهدت مقاطع منه، قبل أن تبدأ الفُرجة عليه، فمن المُحتمل أنك ستظن، حين تلتقي ألفة، وابنتيها آية وتيسير، للمرة الأولى في ملابس الحداد، وبنظرات زائغة وحزينة، ستظن أن الابنتين المفقودتين من الكادر (لأنه حتى عنوان الفيلم بالإنكليزية هو أربع بنات Four daughters) قد توفيتا بطريقة ما. تفتتح المُخرجة الفيلم بتعليق صوتي، تُقدم فيه بطلاتها، وتذكر الفتاتين الغائبتين رحمة وغفران بأنهما: "أكلهما الذيب"، وأيًا كان هذا "الذيب"، فإن الانطباع الأول أنهما اختفتا بطريقة مروعة، حتى إن شرحها لا يحدث فورًا ما يتناسب مع فداحتها، وأنهما كذلك ستظلان مفقودتين حتى نهاية الشريط.
"ألفة وبناتها" هو فيلم تُجري مُخرجته مزجًا بين الأنواع، فهو فيلم روائي في المقام الأول، كوثر كانت تعرف على ما يبدو كيف ستُحقق فيلمها، وهو أيضًا عمل تسجيلي، لأنه يُقدِّم السيدة ألفة وبناتها الحاضرات منهن والغائبات، كموضوع رئيسي للتصوير، نراهن يتصرفن ويتحدثن على طبيعتهن، داخل حيز الكادر والأماكن المُصورة، والفيلم في معظم مشاهده يدور داخل بيوت مُغلقة، وقليلًا على السطوح. ثم هنالك هذا الخيط الذي يربط بين الواقع في شكله التسجيلي، والخيال في شكله الروائي الفيلمي، يتجسد في حضور النجمة هند صبري، والتي يُنتظَر منها عدة أدوار، أهمها أن تؤدي المشاهد التي ستعجز ألفة عن إعادة تمثيلها من حياتها (هكذا تُملي عليها كوثر، حين تسألها ألفة عن سبب حضور هند صبري في الفيلم)، ويُمكن القول إن هذا هو السبب المُعلن لوجود هند. لكن سيكون عليها كذلك، أن تُعلِّق على آراء ألفة وأفكارها وسلوكياتها العنيفة أغلب الوقت والقامعة لبناتها. وفي هذا الدور الأخير، يُمكن النظر إلى هند صبري باعتبارها المُمثلة الرسمية لحضور كوثر بن هنية نفسها في الفيلم، أي أمام الكاميرا، بما أننا لا نرى سوى ظهرها، وبما أن هند صبري، وبالمثل كوثر بن هنية، تنتمي اجتماعيًا وثقافيًا إلى شريحة أخرى غير التي تنتمي لها ألفة بطبيعة الحال، وبالتالي تُمثلان معًا وعيًا نسويًا أرحب من الوعي الذي تُعبِّر عنه ألفة في سرد حياتها ومسلكها لا سيما مع بناتها. وهو المسلك الذي أدى في النهاية، إلى تسليمهن تسليمًا لهذا "الذيب" الذي التهمهن.

بين شرق وغرب

ينهض "بنات ألفة"، نظريًا على موضوع يمسّ كل من الشرق والغرب في آن، وهو موضوع تغلغل الأفكار الإرهابية للجماعات الأصولية، كداعش وأخواتها، في المجتمعات. ولا يطرح الفيلم سؤالًا مباشرًا حول أسباب اختراق داعش لأسرة ألفة، لكنه ينتهي على أي حال للإجابة على هذا السؤال، وإلى تتبع الثغرات الاجتماعية التي أدت إلى ظهور الإرهاب ربما كحل وحيد في نسيج المجتمعات العربية.

هذه القُدرة على مخاطبة كل من الشرق والغرب هي سمة نجدها في أفلام أخرى عند كوثر، ففي "على كف عفريت" (إنتاج 2017)، كان الموضوع الأساسي للفيلم هو الطريقة المُنتهِكة في النظر إلى أجساد النساء، والثورة بمعنى المناداة بتحرير هذه النظرة، وبالتالي تحرير هذه الأجساد، بما يحميهن في النهاية من الاغتصاب. وموضوع النظرة إلى أجساد النساء، هو موضوع حاضر في كتابات الموجة الجديدة من الكاتبات النسويات الفرنسيات، أي أنه ليس همًا عربيًا فحسب. وكذلك كانت الحال في فيلمها "الرجل الذي باع ظهره" إنتاج 2020، عن لاجئ سوري في زمن الحرب، من أجل أمله في حياة جديدة، يقايض بالتنازل عن ظهره، إذ يبيعه لفنان غربي يريد أن يُحقق معرضا للفن المعاصر عن حياة اللاجئين، وفي ظروف تُناقِض، بصورة مفضوحة، الأوضاع المتدهورة لأولئك اللاجئين أنفسهم.

تترافق هذه السمة "العالمية"، إن جاز التعبير، في أفلام كوثر بن هنية، مع الطبيعة التوثيقية لأفلامها. ينهض "على كف عفريت" مثلًا على قصة اغتصاب حقيقية وقعت لفتاة تونسية. ولا يغترب الأسلوب السينمائي، في "الرجل الذي باع ظهره" عن الروح التوثيقية، من دون أن ينتقص ذلك من المسعى الجمالي لعمل يُركِز على قضية راهنة، كقضية اللجوء واللاجئين.
في "ألفة" تشتغل كوثر على مزيد من التقريب بين الواقع والفن، إلى حد يبلغ الخلط التام، والرغبة في تذويب إمكانية التفريق أصلًا بينهما، عند المُتفرِج بالطبع. ومن هذه الرغبة في التشويش والتجريب تنتج كثير من جماليات هذا العمل. فثمة واقع يُحكى على لسان أبطاله، وهن جالسات أمام الكاميرا، كما يحدث في السينما الوثائقية الكلاسيكية، لكن أيضًا في حضور مُمثلين مُتخصصين، على رأسهن هند صبري، يؤدون ما يُحكى. وفي لحظة مُعينة، تضم كوثر ممثلتين مُحترفتين إلى طاقم الفيلم، هما: نور قروي، وإشراق مطر، ليؤديا دور الفتاتين الغائبتين، بل وتعمل على دمجهما وسط أسرة ألفة، التي تُرحِب بإحداهن أكثر من الأخرى، إلى حد أن تبلغ ألفة في لحظة أقرب للهذيان، أن تسألها إن كان يُمكن أن ترضى بها أمًا؟




كذلك يُمكن النظر إلى بنات ألفة من عين المسرح. على سبيل المثال، يلعب ممثل واحد هو مجد مستورة دور جميع الرجال الذين تقاطعت معهن ألفة في حكاياتها، إذ يلعب زوجها الأول، والأب المُتخلي والمُسيء للبنات، ثم عشيق ألفة وزوجها لاحقًا، وما تبع ذلك من مشاهد تصف الانتهاك الذي وقع منه على البنات. ولعلّ هذا الخيار، أن يلعب ممثلُ واحد كل الأدوار الرجولية في مسرحية حياة ألفة وبناتها، يتناسب مع تشابه الضرر الذي سببه هؤلاء الرجال في حياة البنات.
من حين لآخر، سوف يندلع الواقع فجأة، كأن تتدخل ألفة الحقيقية مُصححةً طريقة أو لفتة عند هند صبري التي تلعب دورها، لأنها ترى عدم تطابقها مع حقيقتها، أو في المشاهد التوثيقية المحضة التي تستعين بها كوثر في نهاية الفيلم، من التلفزة التونسية، أو الفقرات المُقتطعة من البرامج التي ناقشت قضية الفتاتين الهاربتين إلى داعش، رحمة وغفران، على ضوء القضية. بصفتيهما فتاتين مؤثرتين في الجماعة الإرهابية. وكذلك تُعيدنا إلى الواقع مشاهد هند صبري وهي تتمرن على تقليد طريقة حديث ألفة وخطابها، عبر مقاطع مسجلة على هاتفها. على الرغم من أن هند لم تُقلد في الفيلم ألفة، إنما كأنها صنعت نسخة فنية، أو سينمائية، لشخصية ألفة المُركَّبة.

الخوف يحكم النساء

تبدو أسماء بنات ألفة نفسها "رحمة، غفران، تيسير، آية"، مُتناقضة مع رحلة ألفة المُضطربة مع جسدها، وبالتالي مع أجسادهن، فلا هي اتبعت طريق الرحمة، ولا آمنت بإمكانية الغفران واليسر. وبالمثل يبدو حكي ألفة عن صباها ومُراهقتها، بصفتها فتاة قوية مُتحررة من الصورة التقليدية للأنثى الضعيفة، مُتناقضًا مع مسلكها العنيف والمُخضِع لصغيراتها. فالسيدة التي رفضت أن تمنح نفسها، حتى لزوجها، ليلة زفافها، والتي رفضت أن تُقدِّم للمجتمع دليل بكارتها على ملاءة بيضاء، واستعاضت عنه بدم رأس زوجها المشجوج، هي نفسها التي تقول إنها: "تكره البنات"، ولم تكن تُحب أن تكون أمًا لبنت، وهي تبرر هوسها بكل ما يتعلق بأجساد بناتها، بأن "بدن المرأة للرجل الذي سيتزوجها فقط"، مع أنها هي لم تُقدِّم بدنها لأحد، ولا حتى لوالد بناتها.
قد يكون التناقض أحد أبرز صفات "ألفة"، لكننا لا نستطيع أن نقول إنه صفتها حصريًا، فهو في الأساس صفة أصيلة لمجتمعات تتصالح مع رجالها، وتُسقِط الذنب مُضاعفًا على النساء. وألفة التي تقول إنها أدارت علاقاتها بالرجال على هواها، لم تترك لبناتها فرصة لأي إرادة، وسلبتها منهن نيابة عن المجتمع. في الفيلم ثمة مشاهد للبهجة الطاغية، كلحظات اعتراف البنات بعلاقتهن مع أنوثتهن أمام الكاميرا، وثمة كذلك مشاهد مُفرِطة في قسوتها.



لا يُمكن نسيان مشهد الاعتداء بالضرب، الذي أدته هند صبري، بالنيابة عن ألفة، على غفران، ولا المشهد التمثيلي الأليم لجلد البنت نفسها عقابًا على تفويت الصلاة. ثم هناك مشهد البنات وهُن يُمثلن عملية التكفين والغُسل، ضاحكات وكأنها كلعبة، بعد أن لقنتها لهن رحمة وغفران، بهدف التعليم الديني، والتخويف من عذاب القبر، وهو الخطاب الذي يسيطر به هذا النوع من الجماعات الدينية، على عقول مريداتها من النساء. فالمرأة تخدم الرجل المُقاتل في سبيل الله، وتُطيعه كي لا تتعذب بالنار في القبر، بينما الرجل يقاتل ويسبي وينتصر، من أجل أن يحظى لاحقًا بالحوريات في الجنة، أي أن النساء يخضعن بالترهيب، والرجال بالترغيب!
خطاب مُتناقِض، لكنه يملك سطوة على مَنْ تربين في حضن هذا الفزع، من الذات والجسد. وتُعلِّق هند صبري على خضوع ألفة لاحقًا لقسوة رحمة وغفران عليها، بعد اتباعهما طريق الجماعات الإرهابية، وبعد سنوات من القسوة العكسية من البنات على أمهما تعليقًا صائبًا: "الحاجة الوحيدة اللي غلبوكي فيها بناتك هي الدين"، ذلك أن الدين هنا لم يكن يعني سوى الخوف.

هل من طريق للخروج؟

يبقى السؤال الذي تطرحه تجربة الفُرجة الأليمة لفيلم "بنات ألفة"، هو: هل من أمل في المستقبل، أم أننا محكومات بإعادة تمثيل هذه الدورات اللعينة بين الخضوع والإخضاع؟ والحل قد يكون في ما حققه هذا الفيلم كتجربة عاشتها هذه الأسرة المكوَّنة من ألفة وبناتها أثناء تصويره. لعلّ إعادة إحياء الماضي، وربطه بالحاضر، مع إعطاء مساحة التعبير المستقبلي المُتمثل في إبراز صوت البنتين الصغيرتين، تيسير وآية، قد يكون أصلح شيء في رؤية الأم لموقفها مع صغيراتها. ولعلّه كذلك صوت الوعي ذاك، الذي عبّرت عنه هند صبري حين قالت إن الأمور تستمر سيئة، إلى أن يأتي ذلك الجيل الذي يتمرد، هو ما يُقدم أسعد نهاية مُمكنة في تراجيديا مُفجِعة!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.