بداية أصابه ماركيز بالإحباط، واعتبره "برجوازيًا أنانيًّا"، وأنه ينحاز لفكرة "ذاتية المبدع"، ليكتشف بعد زمن، أن إجابة الروائي الكولومبي العالمي كانت غاية في الذكاء، فالإنسان، أي إنسان، يساريًا كان أم يمينيًّا، أصوليًا متدينًا أم علمانيًّا، إنما يفعل ما يفعله لإرضاء ذاته، وليعيش متصالحًا معها.
محمد صالح خليل الذي أصدر كتابًا أشبه بسيرة بصرية لأعماله مؤخرًا، حملت اسمه ورسمه لذاته وشيئًا من مرسمه ولوحاته دون عنوان، عاش طفولة قاسية مع أسرته في دمشق، التي ارتحل إليها رفقة عائلته من الأردن، بعد أحداث عام 1970، حيث تركهم والدهم الفدائي في رعاية جدهم، وكان يغيب لفترات طويلة في معسكرات الفدائيين الفلسطينيين ببيروت، وخاصة بعد أن اشتعلت رحى الحرب الأهلية في لبنان، ثم تلتها أحداث "تل الزعتر"، وكانت تنقطع أخباره عنهم لأشهر.
وفي مسيرته الفنية درس خليل ما بين عامي 1982 و1988 في أكاديمية "دريسدن" للفنون، وهي المدينة التي كانت معقل أول تجربة ألمانية في التعبيرية عبر تأسيس جماعة "الجسر"، مطلع القرن الماضي، وخاصة بعد الأهوال التي خلفتها الحرب العالمية الأولى.
عندما كان الفلسطيني محمد صالح خليل شابًا يافعًا يدرس الفنون في مدينة "دريسدن" الألمانية، كان في أوج حماسته السياسية، يساريًّا "حتى النخاع" |
ولعل "الجسر" الذي يربط بين ضفتي نهر، ويعني صلة الوصل من جانب لآخر، كانت له دلالاته ووقعه، وربّما تجاربه على الفلسطينيين، خاصة بعد احتلال ما تبقى من الأرض في عام 1967، ومع ذلك فإن خليل كان يرى في المصطلح دلالة على التقدم، ومجالًا رحبًا في الجانب الفني لإعمال المخيال.
والمطّلع على أعمال الفنان المولود في الزرقاء بالأردن، عام 1960، ويعيش في رام الله الفلسطينية، والحاصل على درجة الماجستير في الفنون، يدرك التحولات الكبيرة من جهة، والهوية الجوّانية الثابتة نسبيًّا، وانعكست على برّانيتها كمنتجات بصرية، بدءًا من كتاب "صبرا"، مشروعه الغرافيكي الأهم في شبابه، وهو كتاب فنّي نفّذه بتقنية الحفر على النحاس، بعض أعماله اتّشح بالسواد، وبعضها الآخر كان ملونًا، متكئًا فيها على تقنية الحفر بالمسمار الحاد أحيانًا أو الحرق بالأسيد أحيانًا أخرى، في تعبير فنّي عن مجزرة صبرا وشاتيلا، مُضمنًا كتابه، وقتذاك، بمقاطع من قصيدتي "بيروت" و"مديح الظل العالي" لمحمود درويش، باللغتين العربية والألمانية.
طُبع من ذلك الكتاب 30 نسخة أصلية فحسب، استحوذت أكاديمية الفنون في دريسدن على عشرين منها، حيث كان الكتاب بمثابة مشروع التخرج لدرجة الماجستير في الفنون، وحاز على الميدالية البرونزية في مسابقة "الكتاب الأجمل" بمعرض لايبزغ الدولي للكتاب عام 1989، وجائزة "هانس غروندش" للفنون من أكاديمية الفنون التي تخرج فيها، كما تم اقتناء ثلاث نسخ من قبل المكتبة الألمانية في لايبزغ، والمتحف الوطني في برلين، والمكتبة الساكسونية في دريسدن، أما في فلسطين فتوجد نسختان منه، واحدة مقتناة من المقتني الأشهر في فلسطين جورج الأعمى، والثانية أهديت في حينه إلى صاحب نص الكتاب، محمود درويش.
وشكّلت مرحلة التسعينيات، أي سنوات ما بعد التخرّج الأكاديمي لمحمد صالح خليل، مرحلة البحث عن الهوية البصرية لفنان شاب، على وقع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، والتي إثرها يعود مع كوادر المنظمة إلى فلسطين، لأول مرة في حياته، ويقرر أن يعيش في ريفها حيث الحقول والفلاحة، ما دفعه نحو التجريد، والعيش فنيًّا في المساحات والكتل اللونية العريضة.
وفي الألفية الثالثة، وتحديدًا في نهاية عام 2000، تندلع "انتفاضة الأقصى" في فلسطين، وخاصة في الضفة الغربية، وبعد أقل من عامين على الحدث الذي اتخذ طابعًا مُسلحًا على عكس "انتفاضة الحجارة" في عام 1987، أي في نهاية آذار/ مارس 2002، يجتاح جيش الاحتلال الإسرائيلي مناطق السلطة الفلسطينية، فيقرّر في ذات العام تأسيس جمعية أهلية لدعم الأطفال من خلال الفنون، فكان "منتدى الفنانين الصغار"، الذي بات اليوم يعرف باسم "منتدى الفنون البصرية"، ومقرا كليهما في مدينة رام الله، وهو ما أخذ الفنان، منذ اثنين وعشرين عامًا، بعيدًا عن المرسم، لدرجة اعترف أنها أثرت في تقدّم تجربته التشكيلية قُدمًا، ومع ذلك يُنجز معرضًا وحيدًا تحت عنوان "هندسة الجسد"، نبّه فيه إلى ضرورة العودة إلى مسار التفرغ الفنّي.
وفي الفترة ما بين عامي 2010 و2020، ورغم عمله في دائرة الفنون بوزارة الثقافة، مديرًا لدائرة الفنون التشكيلية ومديرًا عامًا للفنون، إلا أنه تفرّغ أكثر لتجربته الفنيّة، وتملّك مرسمًا خاصًا به، فكانت مرحلة غزارة الإنتاج وتطوير الرؤية والتجربة وتقنيات العمل، وكأن الفنان وجد ضالته في عزلته.
لسنوات اشتغل محمد صالح خليل على إثراء تجربته، وهو الذي يمكن وصفه بـ"ملك البورتريه" في فلسطين، إن لم يكن واحدًا من مبدعيه الكبار ومجدّديه، وإن كنتُ على يقين بأن هذا الوصف لن يروقه، لكونه وصفًا برجوازيًّا وربّما ديكتاتوريًا في بعض الأحيان؛ هذا الثراء الفني انعكس في أعمال كثيرة يمكن لكل واحد منا التوقف عندها، وكتابة مقال بأكمله عنه، كعمل فنيّ، أو عنها كلوحة.
وبرزت سنيّ الاختمار هذه في معرضه "بورتريه"، في مؤسسة عبد المحسن القطان، الصيف الماضي، ووجدت في مقال لي نشرته جريدة "الأيام" الفلسطينية، العنوان الجامع لمعرض شكّلته لوحات لوجوه نعرفها وأخرى لا نعرفها، وجاءت لاعتقاد صاحبها الدائم بأن "النافذة الحقيقية الوحيدة التي قد تفضح مشاعر الإنسان من الداخل، وتكشف أسراره الكامنة، هي وجهه"... لذا، كثيرًا ما بقيت تشدّه التفاصيل الصغيرة الظاهرة في وجوه الناس الذين يلتقيهم، وباعتباره فنّانًا تعبيريًّا، أو هكذا يصنّف نفسه، فإنه "يهتم بالحالات الكامنة داخل النفس البشرية، كالغضب والحزن، أو الفرح والسعادة، وما بينهما من مشاعر متشابكة"، وبالتالي فالوجه بالنسبة له هو "نافذة مهمة جدًا للتمعّن فيها وتصويرها"، لأنه لا يرسم الوجه كما يظهر للعيان، بل يرسم الإنسان المختبئ خلف هذا الوجه، فالفن، كما يراه، "ليس الصورة المسطحة، بل هو ما يمكن أن تأخذك هذه الصورة إليه من عوالم وأسرار".
ومؤخرًا، وتحديدًا في أيار/ مايو 2024، كان لمحمد صالح خليل معرض احتضنه المتحف الفلسطيني في بلدة بير زيت القريبة من مدينة رام الله، من وحي حرب الإبادة المتواصلة على غزة، وبدأت تتدحرج سريعًا باتجاه الضفة الغربية، لا سيما مخيمات اللاجئين في شمالها، بعنوان "بث حي"، حيث كانت لوحة "شارع صلاح الدين" العملاقة لهذا الفنان، بكامل تفاصيلها وسوداويتها، تتوسطه، في محاكاة لجانب من جوانب الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، فيما شكّلت لوحات المعرض الأخرى توثيقًا بصريًّا فنيًّا يمكن أن يكون عنوانًا للحظة الراهنة المعجونة بوجع الفلسطينيين ووحشيّة المحتل الإسرائيلي، علاوة على كونه تحديًّا لحالة العجز الذي تكاد تشلّ الكثير من المبدعين، كجزء من تداعيات الحرب المتواصلة والمتدحرجة.
من الجدير ذكره أن الفنان الفلسطيني مصطفى الحلاج كان أول من اهتم بتجربة محمد صالح خليل حال عودته إلى دمشق، بحيث استوقفته أعماله التي حملها معه من ألمانيا، وخاصة منجزه الإبداعي "كتاب صبرا"، فقرر الحلاج تنظيم المعرض الأول له في "صالة ناجي العلي" للفنون التشكيلية التي كان يتولى إدراتها في دمشق، وكان ذلك في عام 1989، واشتمل إضافة إلى محاكاته المذهلة لمجزرة صبرا وشاتيلا، على أعمال زيتية وكولاج انكبّ الفنان على إنجازها خلال الأشهر القليلة التي أعقبت عودته إلى العاصمة السورية، هو الذي عند توجهه إلى نيقوسيا (قبرص)، عمل مشرفًا فنيًّا لمجلة "صوت الوطن"، كما أقام ثلاثة معارض كان أولها في عام 1992، قدّم فيها أعمالًا فنيّة متأثرة بالتعبيرية الألمانية، تلاه معرض تعبيري آخر في 1993، والثالث قبيل عودته إلى أرض الوطن، أي عام 1994، ضم لوحات متنوعة في الأساليب الفنيّة، وإن لم تغادر التعبيريّة التي تسكنه.
ويبقى محمد صالح خليل فنانًا ذا طابع خاص، له خطّه الفنيّ الذي يميّزه ويتمايز به عن غيره، حتى بات يشكل مدرسة فنيّة في فلسطين، فاللوحة عنده، كما يصف الشاعر الفلسطيني محمود أبو هشهش، مدير برنامج الثقافة والفنون في مؤسسة عبد المحسن القطان، تولد مثلما تولد القصيدة في حضرة شاعرها، مكتملة أو شبه مكتملة... يحتاج إلى معاودة زيارتها في أيام لاحقة، مرّات عدّة، حتى يتأكد من أن ليس في جعبته ما يضيفه عليها بعد، يواجهها بجرأة، لا يخاف سطوة اكتمالها أمام ناظريه، ولا يتردد برهة في هدمها وتحطيمها إن ارتأى ذلك، مدفوعًا بحالة من عدم الرضى وبالجنون، فيحدث في غمرة تأمله في منجزه أن يغيّر لون السماء في لوحة أنجزها قبل شهور طويلة، أو يقصّ لوحة من المنتصف، ليبقي نصفها على حاله، ويواصل الرسم على نصفها الآخر، فهو لا يستكين لأسلوب أو موضوع، ولا يساوم على حريّته الفنيّة، لا لأجل ذائقة دارجة أو رائجة، أو خوفًا من ملامة لاغتراب كثير من أعماله، ظاهريًّا، عن سياق إنتاجها وبيئته، أو لمقاومته في إنتاجه لما هو متوقع من فنان فلسطيني مثله أن ينجزه.