وفي حواريّة من بين حواريّات تأريخ الفنّ التشكيليّ في فلسطين، أدارها الشاعر إيهاب بسيسو، في مكتبة رام الله العامّة، أخيرًا، استذكر عناني كيف كانت بداياته في الفنّ مرتبطة بتجربته في المدرسة، حيث لم يكن يحبّ التعليم التقليديّ القائم على التلقين، لذا كان يجد نفسه في الرسم، بل إنه بدأ يكتشف شغفه بالفنّ عبر الرسم داخل الفصل، وبينما كانت الحصص "شغّالة"، كاشفًا عن أنّ معلِّم التربية الإسلاميّة كان له دور في تشجيعه على ممارسة الفنّ، ما ساعده على تطوير موهبته.
وعندما تطرَّق إلى نكبة 1948، وصف أحد رموز الفنّ البصريّ الفلسطينيّ الحديث، كيف تأثَّرت عائلته بالأحداث التي شهدتها فلسطين، حيث بدأت أفواج من اللاجئين تتدفَّق إلى المناطق المختلفة، مُبرزًا التغيُّرات التي طرأت على حياته وحياة عائلته بعد النكبة، وكيف أنّ تلك الأحداث شكَّلت عالمًا جديدًا مليئًا بالتحدِّيات، مُستعيدًا العلاقات التي كانت تربطه بجيرانه ومدرسته، وكيف أنّ تلك الروابط بدأت تتغيَّر مع الظروف الجديدة، موضِّحًا كيف أنّ تلك التجارب، رغم صعوبتها، ساهمت في تشكيل هويّته الفنيّة والإنسانيّة، ما جعله يسعى للتعبير عن معاناته وآماله من خلال فنّه.
استذكر عناني طفولته في الخمسينيّات، حيث كان عمره حوالي خمسة أعوام، عندما بدأت الأحداث تتسارع من حوله، ويصف كيف كانت الحياة في تلك الفترة مليئة بالتغيُّرات، حيث كان يسمع من والدته عن وجود البريطانيّين في المنطقة، وكيف كانوا يستعملون سيّاراتهم ويتنقَّلون بين القرى، هي التي حدَّثته عن معسكرات الجيش البريطانيّ القريبة، وكيف أنّ تلك الأجواء كانت تشكِّل جزءًا من حيواتهم اليوميّة.
استرجع عناني ذكرياته عن استشهاد أحد جيرانه، وكيف أثَّر ذلك عليه بشكل عميق، حيث كان يشاهد الجنازة ويشعر برائحة الموت التي كانت تلاحقه... يروي كيف أنّ تلك الأحداث كانت تعكس واقعًا قاسيًا، حيث كان الجنود يجمعون الشباب ويحتجزونهم في المدارس، وكيف عمدت النساء جاهدات إلى إيصال الطعام والماء لأحبّائهنّ المحتجزين، ما يعكس روح التضامن في تلك الأوقات الصعبة.
تحدَّث عناني عن مظاهرات النساء من حلحول إلى القدس، وكيف كانت تلك الأحداث تعكس القمع والاضطهاد الذي تعرَّض له الفلسطينيّون، مشيرًا إلى أنّ تلك الأساليب لا تزال تتكرَّر حتى اليوم، مؤكِّدًا أنّ ذكريات طفولته مثقلة بالحزن والمعاناة، ولكنها أيضًا كانت تحمل لحظات من فرح الشباب في ذات الوقت.
تأثَّرت أعمال عناني الفنيّة بشكل كبير بتلك الذكريات، حيث بدأ في رسم مشاهد من قريته، مُستحضرًا الوجوه والأماكن التي شكَّلت جزءًا من طفولته... "كنت أحبّ الذهاب إلى الأحواش، حيث كانت هناك أجواء جميلة وذكريات مرتبطة بأجدادي... كنت أستمتع بالابتكار واكتشاف الأشياء الجديدة في تلك الأماكن، مثل كيفيّة بناء المعمار الشعبيّ الذي كان يحيط بي".
وتأثَّر أسلوب عناني الفنيّ بشكل عميق بتجربته في القرى الفلسطينيّة، حيث كان يفضِّل الحياة البسيطة في الريف على حياة المدينة، وكان يعبِّر عن جماليّات الطبيعة الفلسطينيّة، عبر الأشجار، وخاصّة الزيتون، الذي كان ولا يزال متَّكأً محوريًّا من هويّته الفنيّة، ومن الهويّة الجمعيّة للفلسطينيّين.
وعندما انتقل إلى مصر لدراسة الفنّ التشكيليّ، واجه تحدِّيًا جديدًا يتمثَّل في التكيُّف مع الحياة الحضريّة، لكنّ شغفه بالقرية والطبيعة بقي حاضرًا في أعماله... كان هذا الانتقال بمثابة فرصة لاستكشاف آفاق جديدة في الفنّ، مع الحفاظ على جذوره وذكرياته التي شكَّلت شخصيّته الفنيّة.
تأثَّر نبيل بالفنّ المصريّ، حيث كان له أساتذة ممَّن أثَّروا في أسلوبه الفنيّ، ومع ذلك كانت لديه رغبة قويّة في التعبير عن هويّته الفلسطينيّة، ما دفعه للابتعاد عن التأثيرات المصريّة والتركيز على جذوره، فبدأ في البحث عن العناصر الفلسطينيّة في فنّه، مستلهمًا من التاريخ والتراث الفلسطينيّ.
وكشف عناني أنه شارك في جمعيّة إنعاش الأسرة، حيث كان عضوًا في لجنة التراث الشعبيّ الفلسطينيّ، ما أتاح له الفرصة للقيام بدراسات ميدانيّة حول الحياة الفلسطينيّة، وأنه عمل مع زملائه على كتاب عن الأزياء الشعبيّة الفلسطينيّة، ما ساعد في توثيق التراث الثقافيّ. كما قاموا بإصدار دليل بهدف تشجيع الفتيات على تعلُّم التطريز.
ومع ذلك، كانت تجربته في العودة إلى الوطن بعد دراسته مليئة بالتحدِّيات، حيث واجه آثار حرب عام 1967، التي أدَّت إلى فقدان العديد من الفلسطينيّين حقّ العودة إلى بلادهم، ما أثَّر بشكل عميق على هويّته كفنّان، حيث بات عليه التعبير عن معاناة شعبه من خلال فنّه، ما أضاف بُعدًا جديدًا لأعماله.
بعد تخرُّجه، واجه نبيل عناني تحدِّيات كبيرة، حيث لم يتمكَّن العديد من الفلسطينيّين من العودة إلى وطنهم بعد سنوات من النزوح، فوجد نفسه في الأردن، معلِّمًا للفنون في مدرسة، وهو ما كان يمثِّل تحوُّلًا كبيرًا في حياته.
تخرَّج نبيل عناني في عام 1967، في وقت كانت فيه الحرب قد قطعت عنه مصادر الدعم الماليّ، ما جعله يشعر بالعزلة، فتوجَّه مع مجموعة من الفلسطينيّين إلى المحافظ في الإسكندريّة ليطلبوا المساعدة، حيث حصلوا على دعم ماليّ شهريّ من الرئيس المصريّ الراحل جمال عبد الناصر حتى تُحلّ قضيّتهم... "كانت تلك الفترة صعبة للغاية، حيث كان علينا مواجهة تحدِّيات الحياة اليوميّة"، متحدِّثًا عن تجربة طريفة مع نحّات من غزة، حيث كانا يتبادلان المساعدة الماليّة في أوقات الحاجة.
عندما عاد نبيل عناني إلى فلسطين، كان لديه شغف كبير للعودة إلى وطنه، حيث شعر بأنّ كلّ شيء في حياته مرتبط بتلك الأرض، متحدِّثًا عن أنّ عودته إلى فلسطين شكَّلت نقطة تحوُّل في حياته، حيث كان بإمكانه أن يسير في مسار مختلف تمامًا لو لم يعد، لافتًا إلى أنّ سبعينيّات القرن الماضي كانت بمثابة فترة تأسيسيّة بالنسبة له، حيث بدأ بالتفاعل مع المجتمع من خلال الفنّ، ما ساهم في تعزيز الهويّة الوطنيّة، مُستعيدًا لقاءاته مع فنّانين آخرين كسليمان منصور وتيسير بركات، اللذين كانا أيضًا جزءًا من تلك الحركة الفنيّة المتنامية.
وتطرَّق في حديثه هذا إلى تأسيس رابطة الفنّانين عام 1975، حيث نُظِّمت معارض فنيّة تحت عناوين تعكس القضايا الوطنيّة، مثل: معرض "القرية الفلسطينيّة"، ومعرض "يوم الأرض"، وغيرهما، وكانت تجمع فنّانين من مختلف الجغرافيّات الفلسطينيّة، ما ساهم في تعزيز الهويّة الثقافيّة، ومع ذلك، واجه الفنّانون صعوبات كبيرة، حيث تمّ إغلاق المعارض التي كانت تعبِّر عن مواقفهم السياسيّة، وتمّت مصادرة أعمالهم، علاوة على منع الاحتلال لهم من مغادرة البلاد، ما جعلهم يعتمدون على إنشاء لوحات صغيرة يمكنهم حملها بسهولة... "كانت تلك الفترة مليئة بالصعوبات، لكنها أيضًا كانت فترة إبداعيّة غنيّة، حيث استمرّ الفنّانون في التعبير عن قضاياهم من خلال الفنّ، مُتحدّين كلّ العقبات التي واجهتهم".
استمرَّت تلك السنوات في تشكيل مسيرته الفنيّة، إذ كان يعمل على دمج الفنّ مع القضايا المجتمعيّة والوطنيّة، ما جعل أعماله تعكس تجارب الشعب الفلسطينيّ، بحيث أكَّد على أهميّة التاريخ الحقيقيّ للفنّ الفلسطينيّ، مشيرًا إلى النقاشات التي دارت حول الفنّ التشكيليّ قبل أن يصل إلى حركة التجريب والإبداع في عام 1979، مشدِّدًا على أنّ الفترة منذ نهاية سبعينيّات القرن العشرين وحتى اندلاع انتفاضة الحجارة في عام 1987 كانت "فترة حاسمة"، حيث كانت تعبيرات الفنّانين مرتبطة بشكل وثيق بالاحتلال والصراع من أجل التحرُّر.
وفي حديث البوح والذكريات هذا، تحدَّث عناني عن معرض أقيم في لندن، وكان من المعارض المهمّة لتعريف الفنّ الفلسطينيّ، حيث شارك فيه العديد من الفنّانات والفنّانين، لافتًا إلى أنّ المعرض أقيم على متن سفينة حربيّة قديمة، ما أضفى طابعًا فريدًا على الحدث، وكان خلاله العلم الفلسطينيّ حاضرًا بقوّة، حيث تمّ استخدام أقمشة بألوان العلم لتزيين المعرض، ما جعل الحدث مؤثِّرًا للغاية.
وانتقل الحديث إلى استخدام عناني للجلد كخامة فنيّة، لافتًا إلى أنّ رائحة الجلد كانت تذكِّره بطفولته، حيث كان يذهب إلى مصنع الجلد في الخليل، ورغم أنه لم يدخل المصنع في البداية بسبب الرائحة القويّة، إلّا أنه كان مفتونًا بعمليّة التصنيع التي كان يقوم بها جدّه، بحيث تعلَّم كيفيّة معالجة الجلد واستخدامه في أعماله الفنيّة، ومن ثمّ بدأ بتجربة الألوان الطبيعيّة كالحنّاء، والشاي، والسمّاق، ما عكس التزامه بفكرة مقاطعة المنتجات الإسرائيليّة والأجنبيّة، فكانت هذه التجارب تعبيرًا عن هويّته الثقافيّة، حيث استلهم موادّها من البيئة المحيطة به.
وفي وقت لاحق اتّجه دون قطيعة مع ماضيه الفنيّ إلى المنحوتات، التي وصفها بأنها "تعكس الهويّة الفلسطينيّة، وتساهم في تعزيز الفضاء العامّ"، مُتطرِّقًا إلى التحدِّيات التي واجهته في عمليّة صنع التماثيل، حيث لم يكن هناك إمكانيّة لصبّ البرونز في فلسطين، ما دفعه إلى التوجُّه إلى الصين، حيث تمّ إرسال صور لتمثال كان يصمِّمه لتثبيته وسط مدينة رام الله بالاتّكاء على تجسيد لشابّ يرفع العلم الفلسطينيّ على سارية، وهو التمثال الذي بات معلمًا بارزًا في المدينة.
وتطرَّق عناني إلى ذكرياته الشخصيّة في غزّة، حيث الأماكن التي كان يزورها مع عائلته، مثل فندق "أبو هويدي"، على سبيل المثال، مُعبِّرًا عن حزنه لفقدان العديد من الأصدقاء والفنّانين، ومن أبرزهم الفنّان القدير فتحي غبن، الذي كان له تأثير كبير في المجتمع الفنيّ.
وتحدَّث أيضًا عن جمال غزّة وتفرُّدها، مشيرًا إلى المناطق التي تتميَّز بالطين، وتعكس طابع الحياة هناك، مستذكرًا تجربته الشخصيّة في السفر عبر مطار غزّة، الذي تمّ قصفه من قِبَل طائرات الاحتلال عام 2001، مشيرًا إلى أنّ هذه الرحلة كانت الوحيدة له عبر هذا المطار، لافتًا إلى أنّ الذكريات تبقى حيّة، وإلى أنّ الفنّ يمكن أن يستمرّ رغم كلّ التحدِّيات، ما يعكس قوّة الإرادة الفلسطينيّة في مواجهة الصعوبات.