}

ما وراء لوحة "مُنقذ العالم" المختلف في نسبتها لدافنشي

سمير رمان سمير رمان 9 سبتمبر 2024
تشكيل ما وراء لوحة "مُنقذ العالم" المختلف في نسبتها لدافنشي
لوحة "منقذ العالم" المختلف في نسبتها إلى ليوناردو دافنشي

انتشرت مؤخرًا أخبار تلقي جميعها الضوء على مستقبل لوحة "منقذ العالم"، اللوحة الأغلى في تاريخ الفنّ، والمنسوبة إلى ليوناردو دافنشي ذاته.
في عام 2017، بيعت تلك اللوحة مقابل 450 مليون دولار أميركي لولي عهد المملكة العربية السعودية محمد بن سلمان. تقول أهمّ الأخبار إنّ اللوحة ستكون الكنز الرئيس في جعبة المتحف الجديد الذي يشيّد الآن في الرياض، عاصمة السعودية. بالإضافة إلى ذلك، يعوّل على اللوحة كي تكون عاملًا مركزيًا يعوّل عليه في تحقيق قفزةٍ نوعية في صناعة السياحة في المملكة.
فهل هنالك بالفعل ما يدعو إلى التفاؤل بشأن هذه المخططات؟
لوحة "منقذ العالم" (باللاتينية Salvator Mundi) رسمت بالتحديد على تخوم القرنين الرابع عشر والخامس عشر، بريشة ليوناردو نفسه كما يقول بعضهم، الأمر الذي جعلها طيلة العشرين عامًا الأخيرة في مركز فضيحة لا تكاد نيرانها تخمد حتى تثار من جديد، سواءً كانت القضية قضية تهمّ المتاحف (مشكلة الأصالة وتحديد اسم المؤلّف)، أو كانت مسألة مالية (تدور حول عملية احتيالٍ وخداع مارسه تاجر الأعمال الفنية بحقّ مشترٍ قرر رفع دعوى قضائية)، أو حتى باعتبارها قضية فنٍّ تحولت إلى سياسية (بغرض منع عرض اللوحة في متحف اللوفر باعتبارها تحمل توقيع ليوناردو دافنشي وحده).
بالطبع يقف وراء هذه القصّة كثير من الطموحات، وكثير من ملايين الدولارات. كلّ هذه التداخلات تجعل من الصعوبة في مكان إدراج اللوحة فعليًّا في تاريخ الفنّ، وقد يصل الأمر إلى حدّ منع عرضها حتى.
في نهاية المطاف، لم تعرض اللوحة علنًا منذ المزاد الدرامي في دار كريستيز، حيث ارتفعت قيمة اللوحة من 100 مليون دولار (متوقعة) إلى 450 مليون دولار، لتغادر اللوحة إلى الشرق الأوسط. وصف موظفٌ سابق في دار كريستيز المزاد المذكور بأنّه ليس أكثر من "صراع ديَكة". غير أنّ المعارك الحقيقية حول اللوحة كانت تدور في مكاتب المتحف الهادئة، وبين نقاد الفنّ الأكاديميين الذين يصعب تقييم مدى تأثّر قراراتهم من دون محكمة تضع حدًّا للجدل، ولكن الأمر الذي لا يرقى إلى الشكّ هو تورّط رؤوس الأموال الحقيقية، أو الرمزية.
في موجزات أخبار وسائل إعلامية (غير متخصصة تمامًا)، ظهرت أسماء كبار المتخصصين في أعمال ليوناردو دافنشي. في عام 2022، اعترف مؤرخ الفن البريطاني مارتن كيمب بأن الأمير محمد بن سلمان دعاه إلى السعودية لمعاينة اللوحة: "اتّخذت خطواتٌ كانت هدفها إرغامي على تفحص اللوحة". وجاء الحكم: ليوناردو دافنشي أصيل! من ثمّ، وفي عام 2021، كلِّفت آنّا غونزاليس موزو، أمينة متحف برادو، بإعداد كاتالوغ تحت عنوان "ليوناردو ونسخة الموناليزا" لصالح المعرض. في هذا الكاتالوغ، عمدت موزو إلى تخفيض مرتبة لوحة "مخلّص العالم" إلى مستوى "أعمال منسوبة منتجة في ورشة ليوناردو، أو منجزة تحت إشراف ليوناردو". نجم عن الحكم الذي أطلقته موزو تدني تصنيف اللوحة في أدنى درجات التصنيف. في عام 2018، وقبل عرضهم أعمال دافنشي في اللوفر، أجرى مختصون من المتحف أكثر الأبحاث عمقًا عن لوحة "منقذ العالم"، أنكروا في نتيجتها، بشكلٍ قاطع، أن يكون ليوناردو دافنشي وحده هو مبدعها، وأعربوا عن استعدادهم للموافقة على القول فقط بأنّ العبقري التوسكاني الشهير قد "شارك" في أحسن الأحوال في رسم هذا العمل. الغريب في الأمر أنّ تقرير الخبرة والنسخة الأولى من كاتالوغ المعرض الذي أعدّته موزو قد اختفيا من دون أن يتركا أثرًا خلفهما تقريبًا، ولم تظهر اللوحة بعدئذٍ في المعرض أبدًا.




انتشرت شائعات غريبة حول مكان وجود "منقذ العالم". فإمّا أن تكون اللوحة مخزنة على يخت الأمير، أو أنّها ربما تقبع في مخزنٍ ما في جنيف، أو في مكانٍ آخر، وربما تكون قد اختفت تمامًا. تجدر الإشارة إلى أنّ لوحة "لا جوكوندا" سرقت في وقتٍ ما من متحف اللوفر، مما جعلها الأكثر شهرةً في العالم، بينما كانت قبل الحادثة مجرد لوحةٍ من لوحات دافنشي.
وأخيرًا، ورد خبرٌ خلال آب/ أغسطس الماضي أكّدت فيه مصادر متنوعة أنّ اللوحة ستعرض بصفتها التحفة المركزية ضمن مقتنيات المتحف الفنيّ الذي سيصبح جزءًا من المجمّع الملكي للفنون في حديقة الملك سلمان في العاصمة الرياض. بالإضافة إلى المتحف، سيضمّ المجمّع عددًا من المنشآت الثقافية، من ضمنها: المسرح القومي، المعهد الملكي للفنون التقليدية، أكاديميات عدة، مجمّع دور سينما، وغيرها. قام بتصميم المجمّع المهندس المعماري الإسباني الشهير ريكاردو بوفيل. ومن المؤسف أنّ متحف الرياض سيكون آخر أعمال المعماري الإسباني الذي وافته المنية عام 2022، وبذلك تم تنفيذ المشروع بعد وفاته، ويتوقّع أن يستكمل بناء المتحف هذا العام.
أصبح معلومًا في شهر تموز/ يوليو الماضي أنّ منصب مدير المتحف السعوديّ الجديد سيذهب لـ هارتفيغ فيشر، المدير السابق لمجموعة متاحف مدينة دريسدن الألمانية خلال الفترة (2011 ــ 2016)، ومن ثمّ مدير المتحف البريطاني (2016 ــ 2013)، حيث اضطر هناك للاستقالة بعد فضيحة مجلجلة أثيرت عقب وقوع سلسلة من السرقات شهدها المتحف الشهير. قبل أيامٍ قليلة، عرضت قناة BBC مسلسلًا وثائقيًا بعنوان "المملكة: أكثر أمراء العالم نفوذًا"، استرجع فيه البروفيسور برنستون برنارد حديثه مع وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان: أمر الأمير ببناء "نسخته من متحف اللوفر"، حيث ستحتل لوحة "منقذ العالم" مركز الصدارة، لأنّ الأمير يعتقد أنّ 90% من الدخل الذي يحققه متحف اللوفر يتأتّى بفضل لوحة دافنشي "الموناليزا".
من الناحية السياسية، يمكن القول إنّ هذه المخططات معقولة: إذا أمكن استقطاب ملايين السيّاح إلى السعودية، فإنّ ذلك سيؤثّر على التنوع الاقتصادي، الاجتماعي والثقافي. يمثّل المتحف وكامل حديقة الملك سلمان جزءًا من برنامجٍ أوسع هو برنامج "رؤية 2030" التي أطلقته حكومة المملكة العربية السعودية عام 2016، لتحقيق هذا الهدف. في واقع الأمر، لدى المملكة مشكلة تتعلق بحقوق الإنسان، تلك المشكلة التي لم تعد، ولسببٍ ما، تثار كثيرًا في الآونة الأخيرة، مما مكّن المملكة من الحصول على استضافة معرض Expo 2030، وكذلك تنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم عام 2034.
غير أنّ الاعتماد على لوحة "منقذ العالم"، وهي النسخة الذكورية من لوحة "الجوكوندا"، باعتبارها عامل جذبٍ رئيس للسيّاح هي فكرة سيئة على الأرجح. بالإضافة إلى ذلك، لا يمكن اعتبار مباركة يسوع المسيح موضوعًا يمكن أن يشكّل بطاقة زيارة في دولةٍ مسلمة بالكامل، الأمر الذي ذكِّر به مستشارون مؤثرون الأمير محمد بن سلمان أكثر من مرّة في خضمّ مفاوضات شراء اللوحة.
خلال الحملة الإعلامية الصاخبة، التي سبقت مزاد عام 2017، ظهر أناس عاديون، ونجوم من هوليوود، أمام الكاميرات يشاهدون اللوحة وهم يوشكون على البكاء. ولكن من غير المرجّح أن تؤثر تلك اللقطات الهوليوودية على مشاعر السيّاح الذين سيدفعون أموالًا طائلة لزيارة الرياض. وربما لا يريد أحدٌ أن يذرف الدموع عند النظر إلى ذلك الوجه الشاحب الذي يطلّ من اللوحة. ولكن، من ناحيةٍ أُخرى، فإنّ "أكبر تلاعبٍ تسويقي في تاريخ الفنّ"، على حدّ وصف مخرج الأفلام الوثائقية أنطوان ويتكين/Antoine Vitkine ، الذي أخرج عام 2021 فيلم "سلفاتور موندي"، هو أنّ حملة الترويج للفيلم قادرة تمامًا على الاستمرار في إدهاشنا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.