منذ الثمانينيات والفنانة تحيك نسيج عالمها. ففي وقت كان فيه الفن العربي لا يزال منغمسًا في قضايا اللون والشكل والمعنى، كانت فيه منى حطوم تتابع مغامرتها في الشكل والمادة والمكان. فلقد جاءت أعمالها في تلك المرحلة مشحونة بالغضب والتحدي والسخرية السوداء، محمولة على هوى الافتتان بالاختزالية (Minimalism) والمفاهيمية، ما جعلها ترتكز بالأساس على الفيديو الذي كان قد استهوى فناني تلك الفترة. كان المنزع النسوي يستحوذ حينها على فيديوهات منى حاطوم التي دأبت فيها على تفكيك السلطة وتقويض أسسها الكابحة. ومن أبرز أعمال تلك المرحلة فيديو (1983) تبرز فيه، ويدا رجل تكممان فمها. ثم جاءت فترة البناء وتركيب الأعمال في منشآت فنية زجّت بالفنانة في استعمال الفضاء. هنا بدأ علمها يتعقد وأسئلته تكبر وتتشابك. فالعلاقة بالمواد صارت تفرض عليها ضربًا من التركيز (سرير، قفص، أدوات منزلية...) والتكثيف والتجريد الذي يخلق السؤال، وهو ما عبّرت عنه قائلة: "أريد أن أخلق حالة يكون فيها الواقع في حد ذاته نقطة تساؤل، حيث يتوجب على المشاهدين أن يعيدوا النظر في افتراضاتهم وبعلاقتهم بما يحيط بهم".
في معرض "اضطراب" بالدوحة، كما في معرض باريس أو نيويورك، يبدو العالم المتاهي للفنانة باعتباره مسير بحث متناسل عن الأسئلة الهاربة. فإذا كانت الأعمال الأولى تسائل الهوية الذاتية، وخاصة في عملها "جسد غريب" (1994)، فذلك لأن هذه الهوية هي في الآن نفسه استشكال ذاتي وانفتاح غيري. تستعيد منى حاطوم بالتأكيد مسألة الجذور والشتات الفلسطيني وذاكرة الأسرة المبعدة وحرقة المنافي المتوالدة، غير أنها لا تسجن نفسها في المكان أو الزمان. إنها تمارس الانزياح عن ذاتها وجسدها وأمكنتها الرمزية وهويتها الفلسطينية التي تحملها في داخلها كالجرح. هذه المواربة الذكية هي التي جعلت أعمالها تفكك الهوية وتعيد بناءها على التعدد الجارف وعلى اللاتحدد المنتج للمعنى. وذلك ما حلله إدوارد سعيد بالكثير من التبصّر: "في عالم منى حاطوم الفني لم يعد المكان الثابت الدائم ممكناً، فهذا الفن مثله مثل الغرف الغريبة المواربة التي تجعلنا حاطوم ندلف إليها، يعمل على جلاء تفكك وانزياح أساسي، وبذلك لا ينقض على الذكرى التي يحملها امرؤ كان موجوداً يوماً ما فقط، بل على كم هو منطقي وممكن، كم هو قريب وبعيد في الآن نفسه، ذلك التفصيل الجديد للفضاء والأشياء الأليفة، عن المقام الأصلي. الألفة والغرابة هنا مشتبكتان معاً بأكثر الطرق غرابة، فهما متاخمتان بعضهما لبعض ويصعب حل التناقض بينهما في الوقت نفسه".
عالم منى حاطوم أشبه بالمتاهة البصرية التي لا تبلور "تناسقها" المفترض إلا في امتلاكنا الحسي لمفرداته البسيطة. فإذا كان استعمال الجسد ضربًا من المسْرحة للذات وجعلها منطلق العمل الفني، فإن جسد الآخر يتم استدعاؤه دومًا في نباهته وحضوره المكثف كي يمنح للعمل اكتماله. من ثم فأعمال منى حاطوم تثير ذكاء المتلقي ولا تستغفله أو تستبلده من خلال منح المعنى الجاهز، حتى وهي تفور بالمعاني السياسية. أليس تلك هي أسرار الفن المعاصر من حيث إنه ينْصاغ في عين الآخر؟ من ثم فللحدْسي والحسي دور كبير في ولادة المعنى في تعدده المشاكس. ومنذ أن بدأت الفنانة في بناء منشآتها الفنية وهي تحول الفن إلى ممارسة حسية من خلال بناء مسار البصر والمشاهدة والمعاينة والمعايشة التي يعيشها المتفرج الذي يتحول فاعلًا ومكونًا للعمل الفني المنشأ.