}
قراءات

نبيّ ما بعد الحداثة يعودُ عاريًا إلى "أم الدنيا"

محمود خير الله

6 أبريل 2018

حوَّل صدور كتاب "الخروج من مصر ـ مشاهد ومُجادلات من سيرة ذاتية" للمفكر الكبير مؤسس مصطلح "ما بعد الحداثة"، البروفسور إيهاب حسن (17 أكتوبر 1925 - 10 سبتمبر 2015)، الصادر مؤخرًا عن "دار العين للنشر" في القاهرة، مؤلفه إلى شخصية مهمة، تشغل بال الكثيرين من المثقفين المصريين، بعد عقود من التجاهل والنسيان الرسمي والأكاديمي والإعلامي، وبعد ثلاثة أعوام من موت الرجل، الذي خرج شابًا، في النصف الثاني من عقد الأربعينيات في القرن العشرين، وأمضى سبعين عامًا من النجاح في الولايات المتحدة الأميركية، واستقر جثمانه في مثواه الأخير هناك، من دون أن يفكر ـ ولو لمرَّة واحدة فقط ـ في زيارة بلده الأصلي مصر!!.

الكتاب، الذي هو بمثابة سيرة ذاتية ملهمة، يُحطم عدة أساطير مرتبطة بالشخصية المصرية بحكاية واحدة، فلأول مرة نقرأ مذكرات مصري مُغترب لا يحن مطلقًا إلى بلده الأم، ولا يتمنى حتَّى العودة إليه، وطبعًا لا يُطنطن بأي هراء حول أسطورة "الشرب من نيلها"، إلى آخر هذه العواطف المُعتادة، بل هو على النقيض من كل ذلك تمامًا، مُغترب وسعيدٌ جدًا بهذه الغربة، قانع بـ "منفاه الذاتي"، ويكتب ذلك معترفًا بكل بساطة في منتصف عقد الثمانينيات من القرن العشرين: "مرَّت أربعون سنة، لقد غيرتُ الأوطان والمهن والزوجات، وسافرتُ ثلاث مرات حول الكرة الأرضية، ولكني لم أعد إلى مصر مُطلقًا".

يعودُ "نبي ما بعد الحداثة" بهذه السيرة، التي كتبها في "ميونيخ" الألمانية، وصدرت بالإنجليزية في أميركا عام 1986، إلى مصر عبر الكلمات فقط، مواطنًا عاريًا من كل تعصب ومن كل انتماء، حانقًا ومغتاظًا، من دون أن تسقط منه دمعة واحدة، بعد غربة وترحال داما نحو سبعة عقود. يعود بالكلمات، بما يليق بمهاجرٍ لا يقض الحنين إلى بلاده مضجعه. يعودُ وقد تبدَّد العالم الجميل الذي لم يكن يُرضيه، في هذا الوطن، وتحول إلى مراراتٍ وخرائب، إلى هشيم تذروه الرياح، إلى عطب وصدأ. يعودُ كما يعود مواطن قادر على إثارة الأسئلة، هو "الخواجة" ابن الحضارة الغربية، الذي أمضى الأربعة والعشرين عامًا الأولى من عمره في هذه الجغرافيا، ما سمح له أن يعرف أدق عيوب الشخصية العربية، مقترحًا بمبضع جراح بريطاني بارد سبلًا للتخلص منها.

صحيح أن الرجل أمضى حياته في القاهرة كخواجة، لكنه حين جلس ليكتب خلع قبعة الخواجة، ووجّه لومًا إلى طبقته الاجتماعية المتداعية في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، التي عملت في مصلحة الرأسمالية العالمية. يلوم الاستعمار بتطبيقه سياسة "فرق تسد"، مضيفًا أن الأحزاب السياسية المتنازعة في مصر دليل على نجاح هذه السياسة: "لقد حكم البريطانيون مصر أولًا وأخيرًا بمساعدة أسرة حاكمة متداعية، وأقلية حاكمة مرتشية وعقيمة، تفتقر إلى الكفاءة من أصحاب المال والأراضي والنسب.. فهل جلبت بريطانيا معها الأمية والأمراض؟"..

يروي لنا كيف عاش لحظة الصدام بين الجماهير الشعبية الغاضبة في استقبال بطلها الشعبي مصطفى النحاس باشا، ضد السلطة التي يمثلها والدُه، الذي كان تقريبًا أهم شخصية في مدينة المنصورة: "في ذلك اليوم المشؤوم في المنصورة انقسم ولائي بين أبي وأعدائه، وبعد ذلك بثلاث سنوات أصبح مصطفى النحاس باشا رئيسًا للوزراء، وأُجبر أبي على الاستقالة، ومن ذلك الوقت فصاعدًا أقمنا في القاهرة في ظروف معيشية لا تتناسب مع وضعنا الاجتماعي".

يحكي عن النماذج المصرية التي رآها وتعلم منها، يحكي عن الأمير فايز، ابن الأسرة الملكية العاق، الذي كان يحاول كل فترة عبور الصحراء بمفرده، مشيًا على الأقدام، ما كان يعرضه للأهوال والأخطار، ويقول: "فكرتُ أنا أيضًا، وكنت أصغره بخمسة عشر عامًا في الفرار من المنزل، لكني لم أذهب إلى أبعد من حديقتنا".

انقسام الهوية

ألقت حكاية إيهاب حسن حجرًا ضخمًا من الأسئلة في بركة الثقافة المصرية الآسنة، التي لا تزال تؤمن بالمسلمات، بخصوص مصير الثقافة في بلد كبير مثل مصر، كيف وفرت (في النصف الثاني من عقد الأربعينيات في القرن العشرين)، الذي يعتبره كثير من المؤرخين عصر الحريات، المناخَ التعليمي والديني والثقافي السيء، الذي يدفع عقلًا نافذًا مثل إيهاب حسن، إلى أن يخطط ـ وهو لا يزال تلميذًا غضًا في الجامعة ـ للفرار من هذا البلد التعيس، الذي كان تحت الاحتلال البريطاني، إلا إذا كان يعاني نوعًا ما من "انقسام في الهوية" تتبدى ملامحه في كثير من سطور هذه الحكاية، مثلما يمكن مثلًا أن نتلمسه في حكايات السيرة الذاتية للمفكر الفلسطيني إداورد سعيد، ومثلما يمكن تلمس ملامحه أيضًا في بعض أفلام المخرج السينمائي المصري يوسف شاهين.

يقول حسن عن علاقته بالإنجليز، الذين استعمروا بلاده وتحالفت الطبقة التي ينتمي إليها معهم:

"تقع طفولتي كما أدركت فيما بعد في حقل خفي للقوة هو النزعة الكولونيالية البريطانية. صحيح أن كلمة "الإنجليز" كانت تنقل إلى مسمعي أحيانًا إيحاء بالخطر أو العار، لكني كطفل لم أكن أشعر أحيانًا بالنفور من كلمة "الإنجليز"، ولا من المتحدثين الأصليين باللغة الإنجليزية ذاتها، الذين كانوا يقومون بالتردد على منزلنا من حين لآخر".

السيرة لم تخل من فضائح، وتعرِّي عددًا من أفراد أسرته، التي كانت ثرية وشريكة في الحكم. فالكاتب العائد إلى وطنه بالكلمات ـ كما لو في رحلة عكسية لرحلة دانتي أليجيري في "الكوميديا الإلهية" ـ لا يُرضيه إلا أن يعود عاريًا، لكي يعرِّي العالم الذي يكتب عنه، في مصر الغنية التي كانت تلهث بسبب الاستعمار، بينما كانت آلات الحرب العالمية الثانية تحصد أعمار الملايين بمنتهى الوحشية، وتدفع المؤمنين بحق الإنسانية في الوجود، إلى اكتشاف مبررات أقوى تدل على صدق إيمانهم.

الحكاية التي يقدمها مؤثرة جدًا في بساطتها، وأسرارها واكتشافاتها، هي نفسها حكاية أسرته، حيث عاش وتربَّى في أحد أفخم أحياء القاهرة في ذلك الزمان، متنقلًا بين قصور وبيوت علية القوم، فوالده كان جزءًا لا يتجزأ من الطبقة الحاكمة في مصر، وتولى مناصب رفيعة في عهد الملك فؤاد، منها محافظ القليوبية ومحافظ بور سعيد ومحافظ سوهاج، الأمر الذي جعله يخوض في قصص عائلة مصرية، فيها القاتل والثائر والموظف الكبير، كما تضم أيضًا ولا شك فرعًا فقيرًا، كما في كل العائلات على وجه الأرض.

عن الترحال

مشيرًا إلى أمثولة "الابن الضال"، يحكي إيهاب حسن حكاية رحيله عن مصر، فذات صباح في أغسطس 1946، غادر الشاب خاليًا إلا من الأحلام، ميناء بور سعيد، على متن السفينة أبراهام لينكولن مودعًا والده لآخر مرة، متجهًا إلى الولايات المتحدة، مبعوثًا من جامعة القاهرة لدراسة الهندسة الكهربائية، بعد شهور من القلق، وعمر من الأخطاء في اللغة العربية، التي كان يرفض الحديث بها مع أصدقائه، فقد أتقن الحديث باللغتين الفرنسية والإنجليزية، بينما كان بليدًا في اللغة العربية. ويقول إنه وضع خطة للهروب من مصر، بينما كان لا يزال طالبًا جامعيًا: "كان هدفي الوحيد هو التخطيط للهروب من مصر، مثلما فعل الكونت دي مونت كريستو وهو يخطط للهروب من سجن "دي إف". اجتزت امتحانات السنة الرابعة في كلية الهندسة بجامعة القاهرة بتقدير جيد، وصممت على التخرج السنة الخامسة بتقدير امتياز".

طبعًا في مثل هذه الحالة الملتبسة، لا بد أن يعيد الكاتب تعريف كلمة "الوطن"، كما يعيد تعريف مفهوم الترحال، محاولًا أن يجد لنفسه مبررًا لحالته "الوطنية" الشاذة تلك، حيث كانت أول قصة حب في حياته مع فتاة يهودية شقراء وجميلة، كانت ذهبية البشرة بلون الشمس، خضراء العينين لم يعرف اسمها قط، كانت منضمة لمعسكر آخر، يتألف من الشبان والشابات المتأهبين للهجرة إلى إسرائيل بعد الحرب، ويكتب في سيرته: "يقولون إن الوطن هو حيث يقع القلب، لكن ثلاثة قلوب تخفق في صدري، أحدها وجودي فاوستي بعض الشيء، وواحد يوتوبي، رغم أنه سياسي، وواحد أورقي صوفي على وجه التقريب، وعندما يترنح واحد من تلك القلوب الثلاثة، تذبل إنسانيتنا بعض الشيء". أما عن الترحال فيقول إنه "يعرف أناسًا لا يحبون السفر، لكننا نلتقي ـ في السفر ـ في أنفسنا بالغريب الذي يخشى لقاءه، إننا نخبُر العالم تفاعليًا ونشعر بصدمة الاختلافات ونحن نمتصها داخل أنفسنا".

ومنذ التصدير يتساءل الكاتب: "كيف أحكي قصة انفصالي ومنفاي الذاتي في شذرات هي على ما أعتقد زلاتٍ للذاكرة، بقايا استبصار في مشاهد العمر، مجادلات ومحاجات يجري تذكرها (جمع أعضائها مبعثرة)، مثل عظام أوزوريس". ومنتقدًا التعصب الذي رأى كثيرًا من أنواعه في مصر، يقول: "هذا هو المبدأ الضمني لعقد الكولونيالية: الاكتفاء بتمجيد الاختلافات التي تصب في صالح الذات، والاستخفاف بغيرها من الاختلافات أو تجاهلها، وهكذا تشكل العقدة الكولونيالية وتُمأسِس في آن معًا سوء الطوية الواجبة للمقاومة واحترام الذات ومجرد البقاء على قيد الحياة والغامضة والمراوغة رغم ذلك في ذات الوقت".

أما عن فزع العودة إلى مصر، فالكاتب لم ينس الكابوس الذي رادوه أثناء النوم لسنوات: "عاودني حلم سيء بعد مغادرتي مصر، ولأمد طويل حلمتُ أنني اضطررت للعودة لأتمم مهمة سخيفة وأغلق بابًا مواربًا. كان هناك رعب في ذلك الحلم السخيف".

بين السيرة والتاريخ

منذ البداية يحاول الكاتب أن يلفتنا إلى أنه ليس من اليسير علينا في عالمنا الراهن رؤية أين يبدأ التاريخ وأين تنتهي السيرة الذاتية، يقول: "إن الشقوق تتخلل كليهما، تتخلل الوجود المعاصر كله، وجودًا نكِدًا يمتلئ بالصمت والغضب والتضليل والرعب. لقد أقحمت مقالات مختصرة في حكيي ـ صفحة أو صفحتين- فيما يبدو لملء هذه الشقوق".

لكنه يعود فيذكرنا بأن ما كتبه ليس "سيرة ذاتية خيالية"، على الرغم من توخِّيه بعض الحرية في معالجة بعض المشاهد والأسماء. ويضيف: "ولكن الصدق؟ إنني أعرف شيئا ما عن الرغبة واحتيالها، إشكالية سرد الشخصية من الذاكرة، على هذه الخلفية يمكننا فقط التماس الرغبة في الموثوقية، في الثقة المتبادلة ليس غير".

يحكي هذا الرجل الجريء، مثل أستاذه هنري ميلر، عن ذلك الولد المرفه الذي كانه وهو صغير، عن أطفالٍ غلابة كانوا يطاردونه عادة في الشوارع بعبارة "بقشيش يا خواجة"، هذه العبارة الفاتنة تلخص كثيرًا من عذابات هذا الرجل، فابن الأغنياء لم يكن يعني للمصريين الغلابة ـ ومن أول نظرة ـ سوى مواطن أجنبي فعلًا، من تلك الطبقة التي تعود إلى أصول شركسية، والتي تولت كثيرًا من المناصب القيادية في جهاز الدولة المصرية، واستغلت القوانين الجائرة التي تصاغ لمصالحها، وتوسعت أملاكها على حساب الطبقات الفقيرة من جماهير المصريين، وتلك كانت أول أسباب غربته عن مصر.

يحكي عن بقايا المجتمع العبودي في مصر، فهذا الفلاح لا بد أن ينزل من فوق حماره، لأن إيهاب حبيب حسن، ابن الباشا، يمشي على قدميه. امتقع من هيئة فلاح مقيد بالسلاسل، من كاحليه، لكنه يقول إن الأجانب المقيمين في فيللات الشركة العالمية لقناة السويس البحرية في بور فؤاد، كانوا ينهبون الآثار المصرية القديمة، مستهزئين بقوانين البلاد، وحين سأل والده ذات مرة: "لكن لماذا؟"، رد الأب قائلًا: "هذا هو أسلوب القوة"، ثم أضاف: "لكن تذكر أيضًا شامبليون وحجر رشيد. هذا نوع مختلف من القوة، وبإحدى يديه صنع قبضة وبالأخرى بسط كفًا كما لو كان يقدم هبة خفية ما".

يعترف أنه ذات رحلة جامعية استمرت أسبوعين اثنين خارج القاهرة وبعيدًا عن الأسرة، اكتشف أنه لم يكن مشتاقًا لرؤية أحد في العائلة، لم يشعر بالحنين إلى أمه مثلًا، ولا بالحنين إلى أبيه، يقول "عندما عدتُ إلى القاهرة بعد أسبوعين أدركت بهدوء أنني لم أحس بغياب أي أحد على الإطلاق، إنني لم أولد على ما يبدو لكي أفتقد أهلي، أو أحن إلى منزلي".

العمل إبداعي بامتياز، كُتب بطريقة الكولاج المتداخل، على هيئة شذرات من السيرة مصحوبة، أو بمعنى أدق مضفورة بتأملات في الوجود والثقافة والتاريخ والأسطورة، وساهمت سلاسة الترجمة (بتوقيع المترجم القدير السيد إمام) في تقديم الوجه الإبداعي لحسن، الذي تفرغ خلال سنوات عمره الأخيرة لكتابة الرواية. والذي لا شك فيه أن ترجمة هذه السيرة عمل مجهد جدًا لأن الكاتب على درجة عالية من الثقافة، وتتطلب ترجمته إلمامًا بعدة حقول معرفية من التاريخ إلى الأسطورة ومن الجغرافيا إلى الفلسفة، مرورًا بالأدب والنقد الغربيين، وهي مجالات اهتمام حسن المهنية، إذا صح التعبير، فقد شغل عدة مناصب جامعية مرموقة، كان آخرها أستاذ متفرغ في قسم بحوث فيلاس في جامعة ويسكونسن في مدينة ميلووكي، أكبر مدن ولاية ويسكونسن الأميركية.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.