}
عروض

العهد القديم والتوراة أساطير بابلية

صلاح حسن

10 يونيو 2018

يورد المفكر العراقي فالح مهدي، في مقدمة كتابه "البحث عن جذور الإله الواحد"، الصادر حديثًا، حكاية في غاية الإثارة والدهشة يرويها مساعد مدير المتحف البريطاني وعالم الآثار فنكيل في كتابه الأخير "الفلك قبل نوح".

تقول الحكاية "قبل ثلاثين عاما طرق بابي أحد المواطنين وبعد أن قدم نفسه أعلمني أن أباه عمل في العراق بعد الحرب العالمية الأولى، طلب مني أن أعلمه بمحتوى اللوح الطيني الذي اقتناه أبوه في العراق وأصبح من مقتنياته الآن. أخذت ذلك الرقيم البابلي وأنا على يقين من أن ذلك الرجل سيعود بخفي حنين عندما يعلم أن ما مكتوب في داخل ذلك الرقيم الذي لا يتجاوز حجمه حجم الكف لا يتضمن إلا أمرا تافها كما هو الحال مع الأعداد الكبيرة من الألواح الرافدينية، إذ اعتاد القوم على تسجيل كل ما يتعلق بالأمور اليومية لا سيما الحسابات. بيد أنني وما أن بدأت بقراءة السطور الأولى، أصابني الذهول وكاد قلبي أن يتوقف عن الحركة، ذلك أن الرقيم الذي كنت أظنه لا يثير الاهتمام، وجدت فيه الخطة التي وضعها الإله أنكي لإنقاذ أتراحاسيس من الطوفان. لقد أعلمته بما يحتوي عليه ذلك الرقيم وطلبت منه أن يتركه معي لبضعة أيام حتى أتمكن من دراسته، بيد أنه رفض. ومرت الأيام، وبعد ثلاثين عاما التقيت به صدفة وطرحت عليه السؤال نفسه، ولقد كنت مسرورا ذلك أنه وافق على تركه معي".

يقول المفكر فالح مهدي إن هذا الكتاب، الذي ترجم إلى أكثر من لغة وكتب عنه الكثير في الدول الغربية، سيكون أحد أهم مصادره في كتابه المذكور سابقا والذي سيفند ويفكك فيه العهد القديم والتوراة ويعيد ما سرقه اليهود من الآداب البابلية والرافدينية ككل وضموه إلى تراثهم. ليس هذا فحسب، فهناك أسئلة محيرة سيطرحها في الكتاب حول عدم صمود الحضارة المصرية والحضارة الرافدينية حتى اليوم، في الوقت الذي بقيت فيه اليهودية حتى الآن.

يتحدث مهدي، وهو بصدد البحث عن جذور الإله الواحد، عن مجموعة من النصوص اليهودية التي تشكل بمجملها العهد القديم والتوراة ويعيد تفكيكها ويقارنها بالحضارتين المصرية والرافدينية لكي يبين المصادر التي انبنى عليها التراث اليهودي وكيف أصبح يهوا إله اليهود الوحيد، وقصة الشعب المختار، وقصة الطوفان، وقصة الخلق.

في الفصل الاول "تعريف الدين" يتوقف الباحث فالح مهدي عند الديانات التوحيدية الثلاث، ويقارن بين المشتركات فيها وكيف انتقلت بعض القصص من اليهودية إلى المسيحية والإسلام، وكيف انتحلت اليهودية الأساطير البابلية بعد أن غيرت الأسماء والأماكن وجيرت كل ذلك لصالح الإله يهوا والنبي موسى الذي يقول عنه الباحث إن موسى ومثله إبراهيم شخصيات تاريخية وليس لها وجود حقيقي.

ويرد في هذا الفصل تعريف للدين على لسان ماركس تغاضى عنه الكثير من الباحثين رغم أهميته الاستثنائية يقول "الدين هو النظرية العامة لهذا العالم، قيمته الموسوعية، منطقه بشكله الشعبي، نقطة شرفه الروحانية، ولعه وحماسه البالغ، عقوبته الأخلاقية.. طمأنينته وتبريراته الكونية التي تمثل الإنجاز المتخيل للكائن الإنساني والسبب في ذلك يكمن في أن الإنسان لا يمتلك الواقع الحقيقي". الدين إذًا، كما يقول عنه الباحث مهدي، من نتاج ما يسميه "الحيز الدائري" الذي يقوم بتجميده وإعادة تمثله في كل زمان ومكان.

في الفصل الثاني يورد مهدي قصة الخلق البابلية وقصة الطوفان السومري، ويعمل مقارنة بين أدبا السومري وآدم العبري من خلال قراءة أنثروبولوجية عبر اللغة والمكان والاختبار والسلوك، يفكك فيها العهد القديم وما جاء بالتوراة ويرجع كل شيء إلى أصله الحقيقي، أي إلى الأساطير الرافدينية بكل وضوح.

أما سفر الخروج وتعاليم موسى وكيف أصبح اليهود موحدين، فنجدها في الفصل الثالث مفصلة بالإشارة إلى ظهور إبراهيم في مصر وقصة زواجه من ابنة الفرعون مع حقيقة جوهرية تقول إن اليهود قبائل بدوية مترحلة ولا تمتلك ما يؤهلها للتفكير بأصول الدين، خصوصا وأنه يرتبط بالمكان ارتباطا شديدا كالمدن والحضارات المستقرة. ولأجل توضيح ذلك يناقش مهدي قضية سبي اليهود إلى بابل على يد نبوخذ نصر وتهديم إسرائيل ويهودا وكيف استلهم اليهود في بابل الحضارة البابلية من كل جوانبها ونقلوها إلى تراثهم بعد أن غيروا أسماء الأنبياء والملوك وزوروا التواريخ.

مفهوم الصلاة في العالم القديم، ومتضمناتها في الابتهال وتقديم القرابين، وعلاقة ذلك بالذاكرة والأسطورة، نجدها في الفصل الرابع الذي يختتم فيه الكتاب، ونجد فيه الإجابة عن سر صمود اليهودية واندثار الحضارة الرافدينية والمصرية، عازيا ذلك إلى الدور الكبير الذي لعبته اللغة في انطفاء هاتين الحضارتين مقارنة بالعبرية والإغريقية اللتين ما زالتا تعيشان في الثقافة المعاصرة.

ويطرح المفكر فالح مهدي عددا كبيرا من الآراء حول ذلك، من بينها أن العهد القديم كتب على يد أكثر من محرر، بل ساهم في صياغته عدد من الصعب إحصاؤه وفي عصور مختلفة لا تقل عن خمسمئة سنة، مما سمح بوجود تناقضات وتباين في مستويات السرد، ومما سمح أيضا بالاستفادة من ثقافة الآخرين.  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.