}
قراءات

نحن وكيت ميتشل.. الرواية سجلات مفقودة من التاريخ

ميسون شقير

3 أكتوبر 2020
علاقة التاريخ والذاكرة بالرواية هي علاقة وجودية عميقة شكلت منذ بداية القرن الماضي قضية إشكالية في الدراسات التي تناولت الروايات الصادرة طيلة القرن الماضي وبدايات هذا القرن، وخاصة تلك الروايات التي صدرت بعد الحرب العالمية الثانية بحوالي عشر سنوات والتي كان معظمها يستعيد ذاكرة الحرب كخلفية لحبكته الدرامية، وليس هذا فقط، بل بدأت هذه الخلفية القادمة من الذاكرة الجمعية تتحول إلى البطل الحقيقي الخفي للرواية، خاصة وأن الرواية كما يقول جورج لوكاش  تعتمد على "خصائص الشخصيات المشتقة من الخصائص التاريخية لعصرها"، وأن الذاكرة الجمعية أخذت تبني تاريخا جديدا، تاريخا قريبا ومختلفا في آن واحد عن ذاك الذي أوردته كتب التاريخ.
ضمن هذه الرؤية يطالعنا كتاب "التاريخ والذاكرة الثقافية في الرواية الفكتورية الجديدة" للباحثة كيت ميتشل، أستاذة الأدب الإنكليزي في "الجامعة الوطنية الأسترالية"، الصادر عام 2015 عن دار نينوى والذي قامت بترجمته الباحثة الدكتورة أماني أبو رحمة، والذي استطاع أن يقدم نظرية جديدة في طريقة تناولنا للذاكرة ولمحوريتها في إعادة صياغة التاريخ البشري بشكل أكثر حقيقية وعمقا، أو إعادة صياغة هذا التاريخ ولكن بإعطائه روحا ولحما ودما.
تعود كيت ميتشل في كتابها الى الماضي الفكتوري الذي تمثله نهاية القرن العشرين ومطلع الألفية الثالثة، معتبرة أنه أعمق وأبعد بكثير من مجرد "لعبة تلبيس القرن التاسع عشر لغرض استهلاكي بحت"، بل إنه استمرار في السعي وراء المعرفة، وإنتاج وعي كامل بالإشكاليات المتضمنة في تقصي هذه المعرفة التاريخية وتحقيقها.
هذه النظرية التي تطرحها كيت ميتشل تشكل خروجًا عن الكثير من أطروحات الرواية التاريخية المعاصرة خاصة عن أطروحة ليندا هتشيون، في كتابها "ما وراء القص التاريخي" الذي تركز فيه على الطرق التي "تُمشْكل" بها روايات هذه الحقبة تمثيلها للماضي، وعلى صعوبات تحقيق المعرفة التاريخية من خلال الرواية، لذا فقد أثار الكتاب ما يستحقه من ضجة خاصة وأن كيت ميتشل استنتجت في آخره بأن الرواية، كجنس أدبي، قادرة على هضم الأحداث وتحليلها، وقادرة على توظيف الذاكرة الجمعية فيها، و"تمثل في الحقيقة السجلات المفقودة من التاريخ" (ص 223).
تقول ميتشل في الفصل الأول إن روايات الفكتورية الجديدة يجب أن تقرأ بوصفها "نصوص ذاكرة"، أي أننا يجب أن نتعامل مع رواياتنا كأنها عنصر فعال يستمد قوته من الذاكرة الثقافية، أي أنها ليست منافسا أو بديلا عن الكتابة التاريخية البحتة، ولا يجب أن نقاضي الرواية على مدى دقتها في تقديم الوقائع التاريخية كما نعرفها نحن من كتب التاريخ الجافة، بل يجب أن ندرس الطريقة الأدبية التي يجري بها  تدفق التذكر لفترة ما، وهذا التدفق لن يكون من قبل الكاتب فقط، بل سيكون تدفقا لذاكرة القارئ أيضا، كما يجب أن ندرس شخصيات هذه الروايات، حيث تربط ميتشل هذا العهد بـ"ما بعد الحداثة"، بوصفه شكلًا حديث التكوّن من أشكال ما بعد الحداثة الاجتماعية والثقافية، جرى فيه الخروج عن سلطة التاريخ التقليدية التي كانت تلزم بتوخّي الدقّة والأصالة، من أجل تحرر السرد الروائي من هذه السلطة وأن تقدم له آفاقًا جديدة  يأخذ فيها الخيال  الدور الأكبر في التذكّر التاريخي، أي أن ندرس هذه الروايات بعيدًا عن الإخلاص التاريخي، وقريبا من التخييل الروائي.
ومن أكثر ما يلفت النظر في كتاب ميتشل هو اعتبارها أن الكتابة أو الإبداع بحد ذاته هو "نوستالجيا لدافع سياسي يشترط تكوين حالة الاندماج بالأمة" (ص 36)، وتأكيدها على أن وجود الذاكرة الجمعية في الرواية هو "انتقال بفرضية التقابل من الحقيقة والخطأ إلى التقابل بين الحقيقة والخيال" (ص 37)، وهو أيضا "تشكيل لفضاء جديد أهم مفرداته البصرية الأزقة والضباب والظلام" (ص 73)، مقترحًة أن "مقاربة الروايات الفكتورية الجديدة بوصفها نصوص ذاكرة، تمكنّنا من التناول النقدي لكثير من الصيغ التاريخية التي تمثّلها".
من الجدير بالذكر أن كيت ميتشل لم تكن وحدها من رأى أن الرواية هي توثيق وتناول حي للسجلات المفقودة من التاريخ، فقد صرح أمين معلوف بأنه: "لم يكنّ همي أبدا أن أعثر، داخل ذاتي، على انتماء معين وأصلي، حيث يمكنني داخله أن أتعرف نفسي، بل الموقف المضاد هو الذي أتبناه: أفتش في ذاكرتي كي أُخرج أكبر عدد من مكونات هويتي، أجمعها، وأرتبها، ولا أتنكر لأي واحد منها" (2006). كما صرح ديفيد لونثال بأن كلا من التاريخ والذاكرة "ينطوي على عناصر من الآخر، كما أن حدودهما غامضة" وأن "الذاكرة تستبدل المفضلات القديمةـ الطبيعة والثقافة واللغة ـ بوصفها الكلمات الأكثر اقترانًا بالتاريخ، حيث يعيد هذا التحول صنع الخيال التاريخي"، وإذا نظرنا إلى الذاكرة الجماعية بوصفها تلك الذكريات المحفوظة التي تدل على القيم والمشاعر والأحداث التي توحد الجماعات البشرية خلال الزمن، وإلى أن عملية تثبيت الذكرى، في الذاكرة، يستدعي تفاعلا مع قيم الجماعة، كما أكد موريس هالبفاكس حين تحدث حول دور الماضي في إدامة ذاكرة الجماعة وحين عرّف التاريخ باعتباره "لوحة تغيرات"، وعرّف الذاكرة بأنها "لوحة تشابهات" (1950)، وحين قال إنه "كيف لأمَّة، مهما كانت، أن تكون موجودة، وتبقى على قيد الحياة، واعية بنفسها إذا لم تُكوِّنْ نظرةً على مجموعة أحداث حالية أو ماضية، وإذا لم تكنْ قادرة على إعادة الزمن إلى الوراء، وأن تمرَّ مجددا، ودون توقف، على الآثار التي خلفتها هي بنفسها؟ وكيف لها أن تبقى دون الانتباه إلى أهمية المكان في الذاكرة الجماعية للمجموعة: فالمكان يتأثر ببصمة الجماعة، والجماعة تتأثر ببصمة المكان".



الرواية الفلسطينية، سواء رواية الشتات الفلسطيني، أو رواية الداخل الفلسطيني، هي التي قدمت لنا وبكل جدارة جانبًا كبيرًا من التاريخ
الحقيقي الحي لفلسطين، وحتى للمنطقة كلها


وإذا أردنا اسقاط نظرية كيت ميتشل وكل تلك النظريات الأخرى على أدبنا العربي المعاصر، سنجد أنفسنا أولا أمام المنجز الروائي الفلسطيني الذي منذ ولد ولدت معه حاجة التمسك بأثواب الذاكرة التي تحاول الإبقاء على وطن يتسرب من بين الأصابع، وعلى بلاد لم تعد تعيش إلا في صور حملها الفلسطيني معه، أو علقها في زوايا بيته وروحه علها تحمل معه حمل التشرد، أو حمل البقاء تحت آخر وأسوأ احتلال على وجه الأرض. ثم نكون أمام المنجز السوري الحديث الذي كان عليه أن يتحول لأدب الذاكرة بعد أن دفع ملاين السوريين ضريبة أحلامهم بالديمقراطية والعدالة، وبعد أن تم شنقهم بشعر أحلامهم الطويل.
بإمكاننا القول إذًا إن الرواية الفلسطينية، سواء رواية الشتات الفلسطيني، أو رواية الداخل الفلسطيني، هي التي قدمت لنا وبكل جدارة جانبًا كبيرًا من التاريخ الحقيقي الحي لفلسطين، وحتى للمنطقة كلها. وبإمكاننا أن نعترف أننا قد تعرفنا على فلسطين وعلى أنفسنا من خلال كتابات الكثير الكثير من الأسماء التي حاولت أن تحيك من بقايا الذاكرة شالا لتاريخ آخر، تاريخ حقيقي وقوي وثابت، يواجه المقولة الصهيونية بأن الكبار سيموتون والصغار سينسون.
واليوم يقاتل السوري فناءه بروايات يستعيرها من ذاكرة جمعية تعيد دم كل المجازر التي ارتكبها الأسد الأب في روايات مثل "القوقعة" و"السوريون الأعداء" و"مديح الكراهية" و"التجديف في الوحل"، كما تستعيد وتوثق وتؤكد على قدسية وملحمية الحدث الثوري السوري عام 2011، وكأنها تعرف أن لا شيء سيحمي بدايات الثورة السلمية إلا الذاكرة في الرواية.
نعم يا كيت ميتشل الرواية هي "السجلات المفقودة من التاريخ"، ونحن سنبقى نروي. 



الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.