}
عروض

وجه إسطنبول المليء بالندوب

وداد نبي

5 ديسمبر 2020

إسطنبول المدينة القديمة، الساحرة، الغنية والحية بالتاريخ. هي مدينة كتب عنها الشعراء والكتاب الكثير لأنها الغاوية لكل غريب بالإقامة فيها، بالتماهي معها حد ذوبان السكر في الماء. لكن الروائية التركية أليف شافاك في روايتها "10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب"، والتي صدرت عن دار الآداب في بيروت عام 2020 بترجمة محمد درويش، استعرضت لنا خلال 478 صفحة وجوه إسطنبول الأخرى، الوجوه المختلفة والقاسية، المليئة بالجروح والندوب، مثل شخصيات روايتها، تلك الوجوه التي لا يركز عليها الشعر، لكنها ليست مجرد وجه سري، بل واقع مخيف وبشع وقاتل تعيشه النساء والمهمشون.
هذا الواقع  نسمعه من خلال صوت شخصية الرواية الأساسية، ليلى التكيلا، العاهرة المقتولة والمرمية جثتها في حاوية قمامة معدنية، حيث تسرد لنا بعد أن ماتت في الدقائق العشر والثواني الـ38 التي بقي فيها دماغها نشطًا، قصة حياتها دون تراتب زمني، فهي تنتقل بالزمن بين الطفولة وتعرضها للتحرش على يد عمها ومرحلة الشباب التي قضتها في ماخور وتعرفها على أصدقائها الخمسة وزواجها من د. علي ، وصولًا لزمن موتها ووجود جثتها بمكب النفايات، كأن الزمن مائع، متحرك، غير ثابت، رغم أن البطلة اعتبرت "أن ذاكرتها مقبرة، دفنت فيها مقاطع من حياتها، ممددة في قبور منفصلة، ولم تكن لديها أي نية في بعثها للحياة من جديد" إلا إن دماغها وهو يحتضر في الدقائق الأخيرة، استطاع استحضار معظم ذكرياتها دفعة واحدة، وبعجالة، أخرجها جميعًا من القبور التي كانت راقدة فيها لسنوات. الدماغ الذي يعرف عنه أنه المسؤول عن تصرفاتنا العقلانية والمنطقية، هو الذي أخذ مهمة القلب الذي توقف، حيث استدعى الذكريات العاطفية، ورواها بطريقة عميقة كما لو أن القلب لا يزال يعمل مع الدماغ.



لكل ذكرى رائحة
تستدعي ليلى الذكريات من خلال ربطها بالروائح، فلكل ذكرى رائحة، وهي أكثر ما كانت تثير مخيلة البطلة وهي تسترجع الماضي، فترافقنا على طول صفحات الرواية روائح البطيخ الأحمر والليمون والسكر، القهوة والتوابل، البصل والكمون، رائحة الموقد المشتعل بالخشب، وروائح مني الرجال الذين منحتهم جسدها في تلك الغرفة بشارع المواخير. وأخيرًا رائحة حامض الكبريتيك الذي رماه عليها أحد زبائن الماخور الذي كانت تعمل فيه.
تركز شافاك في عملها على أهمية الروائح الطيبة في حياة البطلة، في مفارقة غريبة، وهي وجود جثتها بين القمامة لحظة استذكار دماغها لكل تلك الروائح، كأنها تريد التأكيد على عدم عدالة الحياة حتى في لحظة موتها.

الرواية تستمر أحداثها لمدة يوم واحد فقط تكاد تكون بلا زمن، فالزمن عائم
والأحداث تعوم في داخل دماغ البطلة ليلى التكيلا، وهذه كانت النقطة
التي تعتبر ذات أهمية في بناء هذه الرواية.



الأحداث السياسية موجودة بقوة في خلفية الرواية، كما لو كانت جزءًا من ستائر منازل الشخصيات، فهناك ذكر لجدار برلين وسجن مارتن لوثر كينغ، احتجاج السود في أميركا وحصول النساء على حق التصويت في إيران، الحرب في الفيتنام، مصرع الرئيس الأميركي جون كنيدي، احتجاجات الطلاب الأتراك في السبعينيات، والمذبحة التي حدثت في إسطنبول بعيد العمال عام 1977 والصراعات بين اليساريين والقوميين في تركيا...  وكأن هناك خيطا خفيا يربط بين ما يحدث في إسطنبول وبقية العالم، خيط واه، استطاعت شافاك الإمساك به جيدًا بحبكة متينة، حيث جمعت ليلى بأصدقائها الخمسة، المختلفين والحالمين الهاربين من مدنهم ومجتمعاتهم الصغيرة والمنغلقة لعالم إسطنبول الواسع، فهناك شخصية المرأة المتحولة جنسيًا، والمرأة القزمة، العاهرة، المعنفة والمقموعة، الشخصيات التي لا يتقبلها المجتمع ويريد تدجينها وترويضها، أو نفيها للهامش. هذه الشخصيات من مدن مختلفة، من فان التركية، لبنان، الصومال، ماردين، وما يجمعهم هي إسطنبول، باحثين فيها عن الأمل والتغيير، غير مدركين أنهم سوف يلتقون بأقدارهم المأساوية. فالمدينة لم تظهر لهم سوى وجهها المليء بالندوب والجروح والقسوة.

ما يؤخذ على الرواية أن شافاك جعلت السرد أحيانًا على لسان الشخصية ليلى وهي طفلة، أكبر من عمرها العقلي والزمني، بحيث لم يكن مقنعًا للقارئ هذا السرد الناضج



شافاك تؤكد في عملها على حق كل سكان إسطنبول مهما اختلفت أعراقهم وقومياتهم وجنسياتهم، أحلامهم وميولهم، بالانتماء لهذه المدينة، حقهم بقبر ضمن مقابر المدينة، وذلك من خلال رفض أصدقاء ليلى دفنها في مقبرة الغرباء، المقبرة التي دفن فيها كل من لم يقبلهم المجتمع: المتحولون جنسيا، الأتراك الهاربون من مجتمعات أرادات تدجينهم، المهاجرون الذين غرقوا في البحر أو الذين لم يحصلوا على أوراق، حيث هناك قبور لباكستانيين، إيرانيين، أتراك، عراقيين، سوريين، أفغان، صوماليين، ارتيريين، نيجيريين، إلخ. فالروائية لا تهتم بالحواجز العرقية والقومية والجنسانية بين سكان إسطنبول.

 

الذكريات لا تموت
الرواية التي تستمر أحداثها لمدة يوم واحد فقط تكاد تكون بلا زمن، فالزمن عائم والأحداث تعوم في داخل دماغ البطلة ليلى التكيلا، وهذه كانت النقطة التي تعتبر ذات أهمية في بناء هذه الرواية.
إن الذكريات لا تموت. هذا ما تؤكده ليلى وهي تغرق في البحر بعد أن رمى جثتها صديق طفولتها سنان المخرب من أعلى جسر البوسفور، وعادت لتسبح مع السمكة التي أطلق أهلها سراحها يوم ولادتها، لقد عادت للماء، لماء رحم أمها المالح حيث رفضت أن تأتي للحياة لحظة الولادة، لولا أن القابلة أجبرتها على البكاء قبل أن تنتقم منها الحياة بكل هذه القسوة، لذا رفضت أن تدفن تحت ست أقدام من التراب، مفضلة أن تكون في الماء على أن تكون تحت الأرض.
هذه الرواية احتفاء بقيمة الصداقة، الأصدقاء الذين اعتبرتهم نالان صديقة ليلى، المتحولة جنسيًا، أنهم أسرة الماء بينما الأقارب هم أسرة الدم، فهم يحتلون مكانة في القلب ومساحة أكبر من المساحة التي يحتلها كل الأقرباء مجتمعين، حيث "ثمة أوقات يكون فيها الماء فيها أكثف من الدم".

الأحداث السياسية موجودة بقوة في خلفية الرواية، كما لو
كانت جزءًا من ستائر منازل الشخصيات



ما يؤخذ على الرواية أن شافاك جعلت السرد أحيانًا على لسان الشخصية ليلى وهي طفلة، أكبر من عمرها العقلي والزمني، بحيث لم يكن مقنعًا للقارئ هذا السرد الناضج، الذي لم يكن يناسب عمر الشخصية في تلك المرحلة. أو كما على لسان صديقها سنان الذي قال وهو طفل في السادسة: "يتعيّن على المرء أن يكون أرق مع الأحياء من الأموات لأن الأحياء هم الذين يكافحون من أجل فهم العالم وإيجاد معنى له".
إن شافاك من خلال اختيارها لشخصيات روايتها، المختلفين والمنبوذين اجتماعيًا، الأشخاص الذين يعيشون على هامش المدينة، أرادت أن تطرح مجموعة قضايا إشكالية في المجتمع التركي، والشرقي عمومًا، قضايا تتنوع بين تعنيف وظلم النساء، التحرش من قبل أفراد العائلة، والتحول الجنسي والأشخاص الذين يغردون خارج سرب العادات والتقاليد لمجتمعاتهم المحافظة والمنغلقة، والتي لا تزال تعيش خارج تيار الحداثة. كما تناولت قضايا الهجرة والهوية من خلال شخصية د. علي وعائلته، الذي لم يستطع رغم حصول عائلته على الجنسية الألمانية أن يشعر بأنه مواطن ألماني. وكذلك رفضه بلده الأم، ولم يقبل به كمواطن تركي.
إنها رواية عن غياب العدالة وقسوة الحياة، من خلال مصائر شخصيات الرواية التي تتقاطع مع إسطنبول، المدينة الواعدة بالحياة والآمال والمقابر.
(برلين)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.