يسدّ الكتاب فراغاً في حقل الدراسات القانونية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وألفته الباحثة مسلحة بالأدوات المعرفية والمنهجية والبحثية الضرورية، وكشفت عن تعمق وسعة اطلاع ومقدرات تحليلية تمكنت من خلالها من تأليف الرواية القانونية للاستيلاء على فلسطين، أي كيف استطاعت إسرائيل، وبمساعدة غربية متواصلة، تسخير القانون الدولي والقوانين المحلية وسن قوانين جديدة لترسيخ الاحتلال وشرعنته بل وإخراجه من حيز إمكانية التفاوض عليه.
وكيف تآزر القانون الدولي مع قوانين دولة إسرائيل الاستعمارية ورسخ الاحتلال وخلق المبررات القانونية لتشريد الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم، وكيف أن الفلسطينيين جُردوا حتى من حق كونهم لاجئين، وكيف بدأت القصة مع وعد بلفور، بتحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود، وكيف حُمي هذا الوعد بقوة القانون، وصار من الممنوع قانونياً القول بما يخالفه، وتم تصوير الفلسطينيين كحالة فريدة من نوعها، وبأنهم لا ينتمون إلى أمة أو وطن، بالتالي لا تنطبق عليهم القوانين التي تعترف بحقوقهم أو يمكن التعويل عليها لاستعادتها.
يستخدم الكتاب إطاراً قانونياً نظرياً يشدد على التداخل بين القانون والسياسة، ومن خلال مقاربة عبرْ مناهجية تشمل التحليل القانوني والبحث الأرشيفي والمقابلات الميدانية، ويلقي الضوء على التاريخ القانوني عبْر علاقته باحتلال أرض فلسطين، ويفحص العلاقة بين القانون والقوة ويستفيد من الدراسات حول الاستيطان والمستوطنين وتراث الحركات الراديكالية السوداء كالحركة الناميبية ونضالها القانوني لاستعادة حقوقها.
يتألف الكتاب من تمهيد ومقدمة وخمسة فصول جاء أولها بعنوان عمليات المحو الاستعمارية، والثاني بعنوان الاحتلال الدائم، وجاء الثالث بعنوان ثوريون براغماتيون، فيما الرابع جاء بعنوان عملية أوسلو للسلام والخامس بعنوان من الاحتلال إلى الحرب وتلته خاتمة، كما يحتوي الكتاب على صور خرائط توضيحية لبعض المناطق التي تناولها البحث. والفصول الخمسة تعالج خمس مراحل مفصلية في المسألة الفلسطينية.
اتفاقية أوسلو
تذكر المؤلفة في مقدمتها أنه تبين كيف أن قانون الاحتلال (مجموعة القوانين الدولية التي تعالج احتلال عدو لأرض ما) فشل في قوننة المشروع الاستيطاني الإسرائيلي، وتلقي الضوء على التناقض بين انتباه الأمم المتحدة لقضية فلسطين وعجزها عن إحداث أي تغيير مهم، وكيف أن اتفاقية أوسلو أجهضت مشروع حل الدولتين، وأن وحشية التدمير الإسرائيلية في غزة صارت مسموحة في حدود اللغة القانونية، ذلك أن القانون هو السياسة ومعناه وتطبيقه مشروطان بالاستراتيجية التي يطبقها العاملون القانونيون وبالسياق التاريخي، كما أن القانون ليس خيالاً سياسياً، بل يخدم، كما ترى المؤلفة، كوظيفة تحررية إذا ما توفرت له حركة سياسية تستطيع أن تمنحه المعنى وتتحدى بنية القوة التي وضعت الفلسطينيين خارج هذا القانون.
وبما أن حكم القانون لا يعني تطبيق العدالة لا تقترح المؤلفة إطاراً قانونياً بديلاً كحل للصراع، ولا تدعو إلى إصلاح القوانين الحالية، بل تدعو إلى استخدام التحليل النقدي والذكاء الاستراتيجي في الصراع الفلسطيني من أجل الحرية. وتشكك المؤلفة بالقانون الدولي وتورد سببين يوضحان عجزه عن التغلب على الحقائق الجيوبوليتيكية ومناصرة القضية الفلسطينية؛ السبب الأول هو الأصل الخسيس للقانون الدولي كمشتق من النظام الاستعماري، والثاني هو افتقاره للسيادة وتحوله إلى أداة لخدمة مصالح الدول الكبرى.
يتناول الفصل الأول من الكتاب مسائل مفصلية منها الإضراب العام الذي قام به الفلسطينيون في 1936 ضد الإعلان البريطاني لفلسطين كموقع للاستيطان اليهودي وفشل بريطانيا كسلطة انتداب في الوفاء بالتزاماتها القانونية للشعب الفلسطيني، كما تتحدث المؤلفة عن ثورة عز الدين القسام ومقاومته للحكم البريطاني، وكيف بدأت مأساة فلسطين بوعد بلفور الذي أصدرته بريطانيا مقتبسة تصريحاً لوزير الخارجية البريطاني اللورد بلفور:
"إن الصهيونية، سواء كانت مخطئة أو مصيبة، متأصلة في تقاليد عريقة، في حاجات حالية وآمال مستقبلية، وهي أعمق وأهم بكثير من رغبات ومسبقات 700،000 فلسطيني يسكنون تلك الأرض العريقة".
يتحدث الفصل الثاني عن الخطط الإسرائيلية لضم الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967، وكيف أنها عملت على ضم الأرض دون سكانها كي لا تخل بالتوازن الديموغرافي وفتحت باب الاستيطان على مصراعيه، وكيف أن حرب 1967 خلقت فرصة قانونية لإسرائيل، وكيف حضّر الجيش الإسرائيلي خطط الاحتلال قبل أربع سنوات. يتناول الفصل أيضاً دور مئير شمغار والذي كان المحامي العام للجيش الإسرائيلي بين 1961- 1968 والذي عُين في 1975 رئيساً لمحكمة العدل العليا وخدم فيها لعقدين، وتحت قيادته تم تطوير الإطار القانوني لقوننة وجود إسرائيل في الضفة الغربية وغزة وكيف أن هذه المحكمة أوّلت القانون بطريقة تخدم مصالح الدولة وطموحاتها التوسعية على حساب الشعب الفلسطيني. كما يتحدث هذا الفصل بالتفصيل عن صعود منظمة التحرير الفلسطينية وحرب 1973.
"ثوار براغماتيون" هو عنوان الفصل الثالث ويتحدث عن وقوف ياسر عرفات في تشرين الثاني/نوفمبر 1974 على منبر الجمعية العمومية للأمم المتحدة وكيف شكل هذا انتصاراً للحركة العالمية المضادة للاستعمار، وكيف خدمت منظمة التحرير كمظلة سياسية لعدة فصائل مسلحة. وترى المؤلفة أن جهود منظمة التحرير في الأمم المتحدة مثلت جهداً استراتيجياً لخلق وعي قانوني بالقضية الفلسطينية، وهذه الاستراتيجية القانونية جاءت مكملاً لاستراتيجية سياسية هدفت إلى تحدي هيمنة القوى الاستعمارية السابقة على العالم.
يتناول الفصل الرابع عملية أوسلو للسلام وطرد منظمة التحرير من لبنان وبداية التدهور المطرد لمنظمة التحرير الفلسطينية، وصعود حماس والجهاد الإسلامي، وكيف أن المفاوضين الإسرائيليين في أوسلو التفوا على القانون الدولي وحقوق الإنسان من خلال اللجوء إلى حلول سياسية يمكن مصالحتها مع مبادئ قانونية، أي حل المشكلة بطرق عملية ثم معالجتها قانونياً. وترى المؤلفة أن اتفاق أوسلو وجه ضربة قاتلة إلى القضية الفلسطينية ذلك أن هذا الاتفاق غيّر النظرة إلى الصراع، إذ كما هو معروف نجحت منظمة التحرير الفلسطينية من 1974 إلى 1991 في إفهام العالم أن صراعها هو صراع ضد الاحتلال ونجحت في تهميش إسرائيل وعزلها عالمياً لكن الاتفاق أعاد صياغة النظرة إلى الصراع فجعله صراعاً بين طرفين متكافئين وأن الطرفين يجب أن يتنازلا للوصول إلى حل، رغم أن الاتفاق يوضح أن الفلسطينيين شعب بلا دولة. وهكذا خف الضغط على إسرائيل وحقق لها اتفاق أوسلو مكاسب اقتصادية ضخمة آنذاك.
من الاحتلال إلى الحرب
جاء الفصل الخامس بعنوان "من الاحتلال إلى الحرب"، وتتحدث المؤلفة فيه عن سياسة الاغتيال التي تبنتها إسرائيل ضد الناشطين الفلسطينيين بحجة مكافحة الإرهاب وتسويغها قانونياً من خلال نفي صفة الحرب عنها، ذلك أن إسرائيل منحت نفسها الحق القانوني في استخدام القوة المفرطة لكنها رفضت أن تصف الصراع كحرب أهلية أو كحرب ضد حركة تحرر، وأنكرت أن الفلسطينيين هم داخل النطاق القضائي الإسرائيلي، لكنها ألحت أنهم ليسوا خارجها بما يكفي كي يمنحهم هذا حق الاستقلال لأن هذا الاعتراف سيمنح غطاء شرعياً لمقاومة الاحتلال، وهكذا ابتكرت إسرائيل تسمية قانونية جديدة وهي "صراع مسلح لا يرقى إلى حرب".
كما تلقي المؤلفة الضوء على إجراءات قامت بها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية وكيف أنه في 2003 في منتصف الانتفاضة الثانية سعى الجيش الإسرائيلي إلى تجديد عقيدته العسكرية وطوع باحثين كي يضع إطاراً قانونياً تتم من خلاله محاربة الإرهاب حيث لا تنطبق قوانين وقواعد الحرب التقليدية، ويهدف هذا إلى تخفيف القيود القانونية على الأمم التي تحارب "إرهابيين". وتجلت هذه الجهود في غزة، بعد فك الارتباط أحادي الجانب، بعد أن صرحت إسرائيل أن غزة لم تعد أرضاً محتلة، بالتالي لم يعد بوسعها تسيير دوريات فيها مما يحتم استخدام القوة العسكرية، وكان هذا يهدف إلى تبرير سياسة الاغتيالات.
جاءت خاتمة الكتاب بنبرة رثائية لكن المؤلفة لا تقدم نظرة تشاؤمية، رغم أن عدد المستوطنين بعد اتفاق أوسلو ازداد 200% وتم الشروع في بناء جدار الفصل العنصري وتم أسر وحجز مليوني فلسطيني داخل غزة، وفهمت الأجهزة القضائية والمدنية والعسكرية والدبلوماسية والأمنية الإسرائيلية أن التداخل بين القانون والسياسة يخدم في تحقيق الطموحات السياسية لدولة الاحتلال. وصارت القيادة الفلسطينية جزءاً من المشكلة الفلسطينية لأن تعاونها مع نظام الفصل العنصري الإسرائيلي صار محورياً لهذا النظام ولنفي صفة العنصرية عنه، كما أن المشاركة الفلسطينية في محادثات ثنائية بوساطة أميركية حافظت على الأمل المزيف بإمكانية تحقيق دولة فلسطينية مستقلة، والتي صار تحقيقها، بحسب المؤلفة، أكثر صعوبة من تفكيك نظام الفصل العنصري الإسرائيلي. وترى المؤلفة أن المواجهات الدامية ستتواصل في المستقبل والسؤال الذي يجب أن يُطرح ليس كيف نتجنب عنفاً كهذا؟ بل هو أي مستقبل يمكن بناؤه للطرفين؟ وهل يمكن بناء مستقبل يجعل هذا التاريخ سجلاً للأمل وليس للندب؟
لكن الطريق غير ممهد جيداً كما تقول الباحثة، وغير موجود، إلا أن مستقبل فلسطين يمتلك الإمكانية لبناء احتمالات جديدة للإنسانية، وبناء نظام قانوني يتسم بالعدالة ولا يقتصر على طرف واحد.
تعميق الوعي بالقانون الدولي
لقد خسر العرب في المعارك العسكرية مع إسرائيل، ولم يحققوا أي انتصار نوعي استعاد الأرض بالكامل ورمّم الكرامة، وبالإضافة إلى خسارتهم في المعارك العسكرية فإنهم خسروا وما زالوا يخسرون المعركة القانونية، واهتمت إسرائيل بالشاردة والواردة في تسليح احتلالها قانونياً ولهذا كانت اتفاقيات أوسلو مخيبة للآمال على الصعيد القانوني بالنسبة للفلسطينيين، فقد رتب الإسرائيليون كل شيء كي يخدم مآربهم فيما لم يتنبه المفاوضون الفلسطينيون للعبة القانونية الذكية التي مررها عليهم مفاوضو الاحتلال. وهذا ما جعل اتفاقيات أوسلو محطة مهمة في انتصار المفاوض الإسرائيلي، إذ نعتها المفكر إقبال أحمد في حوار نُشر معه في كتاب بعنوان "مواجهة الإمبراطورية" بأنها اتفاقية ظالمة لأنها لا تقدم تعويضاً ولا مقابلاً لنصف الشعب الفلسطيني اللاجئ، ولا تقدم حماية من زحف المستوطنات أو حق تقرير المصير، ولا تقدم حلاً لمشكلة القدس، وتترك جميع المسائل الجوهرية المعرّفة للصراع العربي- الإسرائيلي مفتوحة.
يالإضافة إلى أهميته في إطار الدراسات الأكاديمية الصادرة بالإنكليزية حول القضية الفلسطينية من منظور قانوني يكتسب كتاب "عدالة للبعض: القانون وقضية فلسطين" أهميته في سياق النضال من أجل الحقوق الفلسطينية ويساعد على تعميق الوعي بالقانون الدولي وبقوانين إسرائيل وسياق تطبيق هذه القوانين والنتائج التي ترتبت عليها، وكيفية استخدام القانون لخدمة حركات التحرر. ويكتسب صدور هذا الكتاب أهميته في وقت يتسم بالصمت المريب من قبل الغرب الرسمي إزاء قضية فلسطين، إزاء مأساة تجري على مرأى ومسمع العالم كله، والذي أثبت عجزه عن فعل أي شيء للفلسطينيين سوى تقديم المساعدات الإنسانية لهم أو تسهيل هجرتهم، بل إن الغرب، مخترع حقوق الإنسان والقيم الديمقراطية وأفكار التنوير، يقف أصم أبكم أمام هذه المأساة، ويصور إعلامه "الرسمي" أو "إعلام الاتجاه الرئيسي" فيه إسرائيل على أنها الضحية، وهذه مسائل يعرفها جيداً من هم على تماس مباشر مع الموضوع. وكان العرب الرسميون يكررون في إعلامهم كلمات مثل "الشرعية الدولية" بشكل ضبابي، غير أن التجارب أثبتت منذ 1948 أن القوة هي القانون والقانون هو أداة القوة، فقد استطاعت إسرائيل أن تلعب اللعبة القانونية وتشرعن ممارساتها الكولونيالية، ووقع الطرف الفلسطيني في فخ اللعبة القانونية ذلك أن النص القانوني حمّال أوجه كالنص الديني وتأويلات القوانين تتغير بحسب الزمان والمكان، كما تبين الباحثة نورا عريقات في كتابها أنه لا يمكن أن تفاوض الإسرائيلي أو غيره حول قضية وطن دون أن تتقن اللغات الأجنبية وتتعمق في فهم القانون، لكن الباحثة ورغم أنها تكشف بعمق تحليلي عن كيف أن فلسطين اغتُصبت بالمعنى القانوني وأن القانون الاستيطاني والقانون الدولي تعاونا على ترسيخ هذه المعادلة، فإنها تعول على النضال القانوني وترى في القانون فرصة للضعفاء، فقد يكون أداة للمقاومة أيضاً، حين يكون النضال من أجل القضية مخلصاً وشريفاً ويمتلك زخماً.
التجارب أثبتت منذ 1948 أن القوة هي القانون والقانون هو أداة القوة، فقد استطاعت إسرائيل أن تلعب اللعبة القانونية وتشرعن ممارساتها الكولونيالية |
نورا عريقات هي محامية حقوق إنسان وأستاذة الدراسات الأفريقية في جامعة رتجرز، ومن المحررين المؤسسين للمجلة الإلكترونية المرموقة التي تصدر بالإنكليزية والعربية "جدلية"، وهي باحثة في مجال حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. كما تعمل محررة في مجلة الوضع الصوتية (ستاتوس)، وهي مجلة فريدة من نوعها قائمة على نشر المادة الصوتية بدلاً من المكتوبة، أطلقها بسام حداد، الأستاذ الجامعي والباحث الأكاديمي في الاقتصاد السياسي والذي يدير مؤسسة الدراسات العربية، والروائي المبدع والباحث الأكاديمي سنان أنطون ومجموعة من الكتاب والباحثين والفنانين الآخرين. وتنشر عريقات في هذه المجلة مقابلات صحافية صوتية منتظمة ومهمة ترتبط باهتماماتها البحثية، وبقضية فلسطين.
*صحافي سوري مقيم في أميركا