}
عروض

إيزابيلا حمّاد باحثة عن فلسطين جدِّها "الباريسيّ"

عماد فؤاد

30 مارس 2020
"في الوقت الذي كانت الحرب العالمية الأولى تحطّم العائلات، تدمّر الصّداقات وتقتل العشّاق، كان الحالم الفلسطيني الشّاب يبدأ في العثور على نفسه"- بهذه الجملة الافتتاحية، يُدخلنا الغلاف الخلفي لهذه الرّواية الأولى لكاتبتها الشابة إلى عالم منسي من الذّكريات البعيدة عن أرض فلسطين، والحالم هنا هو المراهق الموهوب مدحت كمال، الذي ما إن نفتح صفحات "الباريسي"، أوّل روايات البريطانية الشّابة ذات الأصول الفلسطينية إيزابيلا حمّاد (28 عاماً)، الصادرة حديثاً في لندن عن دار "جوناثان كايب"، حتى نراه على متن سفينة تقلّه من الإسكندرية المصرية إلى مرسيليا الفرنسية، حيث يصل إليها في تشرين الأول/أكتوبر 1914.
مدحت كمال مع أولاده (electricliterature)

"كان الوقت مسافة غادرة، لن يتمّ تجاوزها إلا باستبدالات خطيرة للخيال"- هكذا تكتب إيزابيلا حمّاد مطلع روايتها الأولى، واصفة الحال التي وجد بطلها الشاب نفسه عليها آن وصوله إلى مونبلييه لدراسة الطبّ، تلبية لرغبة والده تاجر الأقمشة النابلسي الثري. نستطيع أن نصف شخصية مدحت كمال "الباريسي" هنا بالمعنى المحدود الذي أطلق عليه هنري جيمس "الأوروبي". فهو من نابلس، المدينة القديمة بالضفّة الغربية والتي ترزح اليوم تحت الاحتلال الإسرائيلي، وتقع نابلس في واد بين جبلين على بعد 30 ميلاً شمالي القدس، في تشرين الأول/أكتوبر 1914 كانت لا تزال في قبضة الإمبراطورية العثمانية، ليس من الغريب إذاً أن نعرف في الصفحات الأولى للرواية أن مدحت المغامر الشّاب كان قد تلقّى تعليمه في مدرسة فرنسية خاصة في مدينة القسطنطينية آنذاك، أو الآستانة فيما بعد، أو اسطنبول حالياً، وها هو يستقلّ إحدى السفن ذاهباً إلى مونبلييه لدراسة الطبّ. فوالده التاجر الثري يريد حماية ابنه البكر ذي الـ 19 عاماً من التّجنيد الإجباري في الجيش التركي، وكان المراهق حريصاً على إرضاء والده بعد وفاة أمّه، حتى بعد أن تزوّج الأب مرّة أخرى، ونقل عمله التّجاري من نابلس مسقط رأس العائلة إلى القاهرة.

 

قصّة أرض

  منظر عام لمدينة نابلس عام 1900 ( Getty) 
أتاحت الظّروف إذاً لمدحت الشّاب أن يستبدل مسقط رأسه نابلس بالذهاب إلى مونبلييه الفرنسية، وهناك يقيم في منزل يملكه عالم أنثروبولوجيا أرمل يدعى فريدريك مولينو، يعيش مع ابنته الوحيدة جانيت. ومنذ اللحظة الأولى للقائهما ينجذب مدحت المفعم بمشاعره المراهقة إلى جانيت، ليدرك السبب لاحقاً، كانا طفلين وحيدين ماتت أمّ كلّ منهما مبكّراً، ما خلق بينهما رابطاً يشبه اتّحاد اليتامى؛ توفّيت والدة مدحت جرّاء إصابتها بمرض السّل في شبابها، والذي أنهى حياتها بنوبات مستمرة من الهستيريا والصرع حتى ظنّها النّاس قد جنّت، وفي ذلك الوقت لم تكن أحوال النّساء في أوروبا المستنيرة بأفضل حال منها في المنطقة العربية.

تشكّل رحلات إيزابيلا حمّاد السردية التي تنتهجها زمنياً ومكانياً لرسم لوحتها التاريخية المتخيّلة عن حياة بطلها الشّاب، ومن ثم تاريخ القضية الفلسطينية من خلاله، نسيجاً متقاطعاً في بناء الهيكل الروائي لـ"الباريسي"، هذا النسيج التاريخي المتخيّل الذي استلهمته حمّاد، البريطانية المولد الفلسطينية الجذور، من القصة الحقيقيّة لجدّها، دون أن تقع في شباك خيوط العنكبوت والتشعّبات السياسية المعتادة لهذا النّوع من الرّوايات التّاريخية. تدور الأحداث بين فرنسا وفلسطين، التي تمّ تصوير ما كانت عليه أوائل القرن العشرين ببراعة وصفية تحسد عليها الكاتبة، مروراً بمدن أخرى كالقاهرة والآستانة، راصدة تاريخاً طويلاً من الصراعات والأحداث التاريخية المحورية في هذه الفترة، بدءاً من اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914، مروراً بالثورة العربية الكبرى سنة 1916، ثمّ حملة الصحراء العربية بقيادة الملك فيصل بن الحسين بن علي الهاشمي (1885 - 1933) ضد الأتراك، ودخوله دمشق إثر انسحاب القوات العثمانية منها في تشرين الثاني/نوفمبر 1918، ثم إعلان فيصل نفسه ملكاً على المملكة العربية السورية أو سورية الكبرى عام 1920، وصولاً إلى تصاعد العنف وسط حركات الاستقلال العربية بدءاً من سنة 1936، وكأنّ إيزابيلا حمّاد، وهي تنبش قصة جدّها الحقيقية ومغامراته في باريس، تعيد تقديم صورة عمّا كانت عليه فلسطين قبل تقسميها أوائل القرن العشرين، وأن تصدر روايتها الأولى في هذا التوقيت التاريخي الهام، حيث لا تزال هناك خطط حول القضية الفلسطينية من قبيل ما خرج به ترامب علينا مؤخراً تحت عنوان "صفقة القرن"، لهو سبب آخر، إلى جوار موهبتها السردية الواضحة، لوضع روايتها الجديدة تحت أضواء القرّاء والنقاد على حد سواء، لتنتقل الرواية منذ صدورها بالإنكليزية قبل عدة أشهر إلى أكثر من لغة، كانت الهولندية إحداها.

 

فأر تجارب



يواجه مدحت غربته في مونبلييه بحذر كثيف وخطوات يتحسّس مواضعها، كلّ شيء يراه كان يشكّل صدمة حضارية له، بدءاً من قطع الأثاث المحيطة به، وحتى أدقّ تفاصيل رسوم السجادة الباهتة المفروشة على سلم البناية التي يقطنها، كان يفكّر أحياناً في أنه امتلك خيالاً متحرّكاً بالنسبة لأجنبي، وهنا تترك إيزابيلا حمّاد العديد من العبارات الفرنسية في ثنايا سردها دون ترجمة، لمدحت ولنا على حد سواء، بينما هو نفسه يتحدّث عن "التّعريف الأمثل لشخص يستخدم لغة ثانية في تواصله اليومي". وعلى مدار الفصلين الأولين للرّواية الضخمة (600 صفحة)، نشعر أن ذكريات مدحت كمال عن مسقط رأسه نابلس، بجبالها ومبانيها الحجريّة وشوارعها الصغيرة المتعرّجة، لا تفعل شيئاً سوى أن تزيد من إحساسه بالغربة.

يتمّ استقبال الشاب القادم حديثاً إلى مونبلييه من قبل فريدريك مولينو، الأستاذ الأرمل في علم الأنثروبولوجي، وسرعان ما تصبح جانيت ابنة مولينو، موضوعاً لخيالات وأشواق الشاب المراهق، تلك الأشواق التي اشتعلت حين عرف مدحت أن جانيت هي الأخرى يتيمة الأمّ، كان الغموض يحيط بالدّائرة الاجتماعية لمولينو وابنته الوحيدة، وعلى الرغم من ذلك يجد مدحت نفسه واقعاً في حب يائس ولا أمل من ورائه مع جانيت، ويتأكّد إحساسه هذا حين يكتشف بالصدفة أن مولينو، عالم الأنثروبولوجي العجوز، لم يقنعه بالسكن في بيته إلا ليستطيع دراسة سلوكياته بوصفه عربيا أمام الحضارة الأوروبية! وكما لو كان أحد أنواع فئران التجارب، يضع مولينو مدحت أمام اختبارات عدة ليرى كيف ستكون ردة فعله، وهنا تتحطّم ثقة مدحت في الرجل وابنته التي أحبّها، فإذا كان هذا سلوك الأب تجاهه اليوم، فكيف سيكون لو تزوّج ابنته؟ وعندما تنحاز جانيت إلى صفّ والدها، يقرّر مدحت الرحيل تاركاً كلّ شيء خلفه؛ دراسة الطب ومونبلييه.. وجانيت أيضاً.
يقضي الشاب المكسور السنوات الأربع التالية في باريس دارساً التّاريخ في السوربون، ويبدأ في ابتكار شخصية جديدة لنفسه؛ العصا التي يمسكها في سيره متأنّقاً على غرار نجوم السينما، السّترات الحديثة ومجايرة الموضة الفرنسية في أزيائه، ومشيته البرجوازية كباريسي معتد بنفسه. في هذا الجزء الباريسي من الرواية، نجد الكاتبة التي تابعت خبرات شخصيتها الرئيسية خطوة بخطوة حين كان في مونبلييه، تسارع من وتيرة حكيها فترة إقامته في باريس، لننتقل خلفه بين قاعات محاضراته في السوربون، وحياته الليلية في حانات بيغال وصالاتها، وتنقلاته بين شقق حي سان جيرمان الباريسي ذات الغرف الضيقة.

 

ثلاثة أزمنة

 غلاف الطبعة الهولندية للرواية

















في "الباريسي"، تصنع حمّاد خطوطاً رئيسية لثلاثة أزمنة مختلفة، تتجاور خالقة لنا المشهد العام للرواية ككل، فهناك زمن الذّاكرة التّاريخية للأحداث التي مرّت على العالم، ومن بينها صعود وسقوط الإمبراطوريات في فلسطين وحولها، التي تصفها حمّاد بأنّها "بلد مريض بالرّغبة في التّحول إلى أُمّة"، متتبّعة - في سردها لحياة جدّها - تنقّل فلسطين من يد إلى أخرى؛ من الأتراك العثمانيين إلى البريطانيين، بالتوازي مع تزايد الهجرة اليهودية القادمة من أوروبا التي تعاني من مذابح الحروب. وهناك زمن السنة العاصفة التي قضاها مدحت لإنقاذ ما يستطيع من نفسه في مونبلييه. ثم فترة إقامته في باريس قبل عودته من جديد إلى نابلس، استطاعت إيزابيلا حمّاد في تنقّلها بين هذه الأزمان المختلفة، عزف حكاية بديعة عن فلسطين من خلال جدّها الأكبر، راصدة تحوّلاته الشخصية التي كانت - بشكل أو بآخر - انعكاساً مباشراً للتحوّلات السياسية التي مرّت بها فلسطين.

بعد عودة مدحت إلى نابلس، يبدأ كعادة الأبطال المكسورين في لملمة شظاياه من حبه المدمّر لجانيت، وفي محاولته الاستجابة مع شوق والده إلى رؤية أحفاده قبل أن يموت، يبدأ في التّعرف على فاطمة حمّاد (الاسم العائلي ذاته للكاتبة)، الفتاة الفلسطينية الجميلة وذات الصلة الوثيقة بالأحداث التي تعانيها فلسطين آنذاك: "وفي الوقت الذي كان الجميع يناقش فيه الانتداب الإنكليزي على فلسطين في أيار/مايو 1920، كان مدحت لا يفكّر في أحد آخر غير فاطمة حمّاد".

 

البطل الهشّ


لدينا في تاريخ الأدب المعاصر العديد من الكُتّاب الذين حاولوا تقديم بنية سردية للتغيّرات التاريخيّة الحادّة التي ألمّت بشعوبهم، من خلال رسم ملامح الأجيال التي عاشوا ونشأوا فيها، وصنعوا لنا شخصيات لا يمكن نسيانها، بدءاً من القرن التاسع عشر بقاماته العالية: تولستوي، تورغنيف، ستندال.. وغيرهم، وصولاً إلى وقتنا الراهن، وكانت أغلب هذه الشخصيات لأبطال مهزوزين متشكّكين في العالم الذي يعيشون أحداثه، من هنا ربّما نستطيع أن نفهم لماذا صوّرت حمّاد بطلها حالماً ويائساً، لم يقع اختيار الكاتبة الشّابة على شخصية ثورية تقليدية لتسرد من خلالها حكاية فلسطين في روايتها الأولى، كان من الممكن لها مثلاً أن تختار شخصية أخرى بطلاً لروايتها، مثل ابن عم مدحت كمال، أو الثّوري جميل حازم، أو زعيم سياسي كاريزمي مثل صديقه الباريسي هاني مراد، لكن حمّاد تستقر بدلاً من ذلك، على حالم متضارب الأهواء متشكّك في ذاته، حتى في حالة اضطراب حشد من الناس حوله، فإنّ مدحت "يكون داخل المشهد ومنفصل عنه في الوقت ذاته، يراقب من بعيد".

لا أعرف لماذا ذكّرتني شخصية مدحت كمال لدى إيزابيلا حمّاد بشخصية السيد فريدريك مورو، بطل رواية "التربية العاطفية" الشهيرة لغوستاف فلوبير، الذي يشبهه مدحت في تردده وهشاشته العاطفية، وحين عدت إلى الصفحات الأولى لرواية فلوبير وجدت أننا نلتقي بطله السيد مورو - مثله مثل بطل حمّاد – من الصفحة الأولى للرواية على ظهر سفينة عائداً بعد نجاحه في البكالوريا إلى مدينة "Nogent-sur-Seine" المجاورة لباريس، حيث عليه أن يمضي شهرين كئيبين، وما يؤكّد هذا التقارب أننا سنرى مدحت لاحقاً مغرماً بقراءة روايات فلوبير، مع خيط حرير يتدلى خانعاً بين صفحاتها.
بينما يبني حياته العائلية بعد عودته إلى نابلس المتربة رغم شهرتها بصناعة الصابون، يشتهر مدحت كمال بين الناس باسم "الباريسي"، أولاً بمودة ومزاح، ثم بالعداء المتزايد، خاصة بعد أن أقام الفرنسيون والبريطانيون عقبات متتاليّة لتقرير المصير الفلسطيني. كان بطلنا مثل فلسطين نفسها، لا يزال مقسّماً ومفتّتاً أمام تقرير مصيره، وجد نفسه في نابلس قد تحوّل إلى نقيض ما كان يطمح إلى أن يكونه حين غادر إلى مونبلييه ومنها إلى باريس، وها هو يعود إلى مسقط رأسه من جديد ليتحوّل نسخة من والده الثري، مجرّد تاجر أقمشة، هنا يكتشف مدحت كمال أنه يحمل في روحه شخصين، رجلين يتصارعان دون قدرة على حسم هذا الصراع، وكان هذا جحيماً لم يقدر على تحمله، يقول مدحت معترفاً لكاهن فرنسي خائب الأمل، ارتكب هو الآخر ذنباً فادحاً: "عندما أنظر إلى حياتي، أرى قائمة كاملة من الأخطاء، أخطاء جميلة، ولأنّها جميلة فلست نادماً عليها، ولا أريد عنها غفراناً".


#إيزابيلا حمّاد تقدم رروايتها "الباريسي"  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.