}
قراءات

"سيد الخواتم".. هل هو مغامرة فلسفية؟

نجيب مبارك

16 سبتمبر 2020

تحتل رواية "سيد الخواتم" للإنكليزي جي. آر. آر. تولكين مكانة بارزة ومرجعية في تاريخ الأدب الفانتازي. ومنذ تحويلها إلى فيلم جماهيري ناجح في بداية هذه الألفية، تزايد عدد المعجبين بها بشكلٍ مضطرد، ولم يتوقّف النقاش حولها إلى اليوم، سواء بين القرّاء والمعجبين أو حتّى بين الأكاديميين والمتخصصين. وإثراء لهذا النقاش المتجدّد، صدر مؤخّرًا كتاب جديد بعنوان "سيّد الخواتم: مغامرة فلسفية" (إليبس، 2020)، من تأليف مشترك بين ماثيو أما وسيمون ميرل، وهو بحث في خمسة عشر فصلًا عن المسائل الفلسفية التي تثيرها الرواية، يستند على مفاهيم ومقولات عدد من المفكرين والفلاسفة الكبار عبر التاريخ.

 

بين لوغوس وموثوس
لا يسعى المؤلفان إلى طرح تفسير شامل لهذه الرواية، فهما لا ينطلقان من منظور أكاديمي ومنهجي لعالم تولكين الأسطوري. كما أنّهما لا يدّعيان أنهما من زمرة المتخصّصين في "التولكينولوجيا". وبهذا المعنى، فإنّ من يرغب في دراسة أعمال الكاتب البريطاني من منظور النقد الأدبي أو الأدب المقارن، يمكنه الاطّلاع اليوم على إنتاج نقدي وفير باللغة الإنكليزية، وأيضًا باللغة الفرنسية، صدر على مدى عشرين عامًا الماضية. لكنه يبقى كتابًا جديرًا بالقراءة، لأن من أنجزه اثنان من المشتغلين بالفلسفة، ظلَّا لفترة طويلة من هواة قراءة عوالم تولكين، ولهذا السبب أرادا البحث في الدوافع الفلسفية لهذا الإعجاب بعالم "سيد الخواتم" الفريد. وقد جاء كتابهما في شكل فصول قصيرة، تدعو القارئ لمواصلة مغامرته الأدبية مع تولكين، إلى جانب المغامرة الفلسفية.
أراد تولكين في البداية، من خلال كتابته لهذا العمل، "خلق مجموعة من الأساطير المترابطة بشكلٍ أو بآخر، تمتدّ من العظيم والكوني إلى خرافات الرومانسيين"، وهي أساطير مكرَّسة لبلده الأصلي إنكلترا. وبعد ذلك، أصبح مشروعه أقرب إلى كتابة أساطير جديدة، يمكن أن تُستخلَص منها قصص خلق العالم، أو الخرافات، أو الأعمال الدرامية البطولية والملحمية. ويبدو واضحًا أنّ الأمر لم يكن يتعلّق بالفلسفة خلال تصوّر العمل المبدئي، وحتى خلال إنجازه، خصوصًا وأن التاريخ يميّز منذ قرون بين هذين النوعين من الخطاب: الأسطورة والجدل الفلسفي، إذ يتعارض "موثوس" مع "لوغوس" مثل تعارض الخيال مع العقل.
إنّ براعة حكاية "سيد الخواتم" - لكونها "موثوس"، بالمعنى الواسع - تُقاس جزئيًا من خلال قدرتها على الإدهاش وخلق متعة خاصّة يُثيرها التعرُّف على الواقعي عبر الخيالي، وكذلك من خلال إثارة ما يسمّى التساؤل "الفلسفي" بداخل الروح. وهذا لا يعني أنّه يجب أن يكون المرء فيلسوفًا "محترفًا" ليكون قارئًا جيّدًا، بل يعني أن القارئ الشغوف دائمًا ما يكون "فيلسوفًا" بشكل من الأشكال، دون أن يكون لديه وعي واضح بذلك. ومن وجهة النظر هذه، يطمح مؤلِّفا هذا الكتاب إلى مساعدة هذا القارئ في توضيح ومناقشة بعض الأسئلة "العميقة" التي تصلح لمرافقة قراءته والمشاركة فيها، بأشكالٍ متنوّعة قد تكون أقلّ أو أكثر وضوحًا، وهي أسئلة تتمحور حول قضايا فكرية أساسية، أخلاقية ووجودية وميتافيزيقية، وبالتالي تقع في نطاق التساؤل الفلسفي، مثل: ما هي رمزية الخاتم؟ هل كان "فرودو" حرًّا أم لا ليتحمّل هذا العبء؟ لماذا نحبّ كائنات "الإلف"؟ ما الذي يجعل الهوبيت عظماء؟ هل "مرآة جلادريل" هي صورة المصير؟



التفلسف انطلاقًا من الرواية
إنّ هذه القائمة من الأسئلة ليست إلزامية، وتظلُّ مفتوحة أمام تعدد القراءات والتأويلات. وهذا لا يعني بالضرورة أنّه يجب طرح أسئلة معينة دون غيرها، أو أنّ تولكين أراد طرحها في الواقع، بشكلٍ صريح أو ضمني. فهذه الأسئلة هنا من اقتراح المؤلّفين فقط، وهما يعبّران فيها عن لقاء فريد بين العمل الأدبي وقرّاءه. لكن الحقيقة هي أنّ أيّ سؤال يُطرح بطريقة فردية لا يستبعد أن يكون له معنى وصدى كونيان، وإلّا لما كانت هناك حاجة للأدب أو الفلسفة. ومن جانب آخر، فإنّ المناقشات الحامية التي أثارتها رواية "سيد الخواتم" بين العديد من القرّاء حول العالم تُثبت، في بعض الأحيان، وجود مثل هذا الثراء الفلسفي.
لكن يجب الانتباه إلى أنّ قراءة من هذا النوع لا تنطوي، بأيّ حال من الأحوال، على التعامل مع "سيّد الخواتم" ككتابٍ فلسفي أو عملٍ يمكن استخلاص فلسفةٍ منه. وعلاوة على ذلك، فإنّ تولكين، في مقدّمة هذا الكتاب، يعترض مسبقًا على أيّ قراءة استعارية أو "شمولية" ترغب في إسقاط رموز أشياء خارجية على روايته: أحداث سياسية (كُتب جزء كبير من العمل أثناء الحرب العالمية الثانية) أو نظريات من كلّ نوع. وهو يكرّر هذا الاعتراض في سياق آخر: "لا أحبُّ الأليغوريا". لهذا يجب النظر إلى "الأرض الوسطى"، بكلّ شخصياتها ومواقفها، كما هي على حقيقتها: خيال مستقلّ، عالم خيالي وفريد، ​​وليست انعكاسًا لنظرية ما. لكنّ النظر إلى هذه "الأرض الوسطى"، على ما هي عليه، يعني أيضًا الاعتراف بوجود كائنات رهينة الشك، فهي تتساءل عن حريتها، ومصيرها، ومعنى حياتها، وأنواع الشرّ والخير، وطبيعة الكائنات والأشياء من حولهم- وهي كلُّها مناسبات ودوافع للتفلسف انطلاقًا من رواية "سيد الخواتم".



لكن ماذا عن الخاتم، الذي تدور حوله أحداث الرواية؟ إنّه شيء غنيّ بالرموز.
ويمكن مقاربته من خلال فكرة الدائرة التي يجدها المرء بانتظام في الرواية


إن "سيد الخواتم" هي، أوّلًا وقبل كلّ شيء، قصّة مغامرة. إذ نقرأ في الكتاب مغامرة فرودو، وفكرة أن يترك المرء منزله ليرحل ويواجه عالمًا غير معروف، وبالتالي مخيفًا أيضًا، دون أن يعرف ما إذا كان سيعود يومًا. ونحن هنا لا نتحدّث عن المغامر المحترف، بل عن هذا المغامر بالصدفة، الذي تعني المغامرة له انفتاحًا على الممكن، وعلى الاكتشافات والمتعة الجديدة والتعلُّم. إنّ الهوبيت يكتشفون خلال رحلتهم العالم الواسع الذي يمتدّ إلى ما وراء المقاطعة. في هذا الصدد، يرى فلاديمير جانكيلفيتش أنّ هذه المغامرة ليست جغرافية فحسب. وإنّما هي ترمز إلى تجربة داخلية، وإلى منعطف كبير يدخله المرء ليتعرّف على نفسه بشكل أفضل. إنّ الهوبيت يسلكون العديد من المسارات، ويتجوّلون في أكثر من مكان، يواجهون عقبات، ويتعاملون مع تقلّبات الحياة - عاصفة ثلجية تجبرهم على الاختباء تحت الأرض في موريا ، على سبيل المثال- ويجدون أنفسهم في كلّ مرة عند مفترق طرق، وهو استعارة أبدية عن الاختيار. وهذه التجربة تذكّرنا بالفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغارد، الذي يرى أننا لا نُعرِّف أنفسنا بالطريق الذي نسلكه، ولكن بالطريقة التي نتبعها ونحن نشقّ هذا الطريق. وفعلًا، تسلك شخصيات الرواية نفس المسار تقريبًا، لكن كلّ واحد منها له علاقة مختلفة بالطريق. فأراغورن، على سبيل المثال، سوف يعلّم الهوبيت أن يمشوا بطريقة أكثر تبصّرًا وأقل تهورًا. بينما يستسلم بورومير لإغواء الخاتم، فيجد نفسه تائها في طريق مسدود.

 

الدين ونقد الحداثة
إنّ استعارة الطريق هي من المواضيع الكلاسيكية في الأدب. ومسعى فرودو هو بمثابة درب آلام حقيقي. وفي الواقع، من الصعب تجاهل البُعد المسيحي عند فرودو، هذه الشخصية القربانية التي تحمل عبئًا يزداد ثقلًا، إلى درجة ينتهي به الأمر جاثيًا على ركبتيه، والذي يتوقّف عليه كلّيًا مصير الأرض الوسطى. لكن لا ينبغي الذهاب بعيدًا في استحضار هذا البعد الديني، لأنّ فرودو يمكنه بسهولة أن يحيلنا على بطل المأساة اليونانية. إنّ تولكين يلعب باستمرار على العديد من المرجعيات. وقد نجد أيضًا آثارًا للكاثوليكية في شخصية الإلف، والتي تذكّرنا بالملائكة: فهي غير مادية، نورانية ومتفرّدة للغاية.

جي. آر. آر. تولكين 

















من جهة أخرى، إن فضائل الهوبيت ليست القوّة أو السحر أو الذكاء الاستثنائي، بل الصداقة والولاء والمثابرة. إنّ قوتهم تأتي تحديدًا من شخصيتهم المتوسّطة المرسومة على المقاس. فهم لا يميلون إلى الأعمال الخارقة، سواء في الخير أو الشر. لذلك هم محميُّون بشكل أفضل من إغراءات الخاتم (كاندالف، على سبيل المثال، يرفض الاستيلاء على الخاتم خوفًا من فساده!). لذلك يعلّمنا الكتاب أنّ الهدف الرئيسي لا يكمن في العمل المجيد بل في الثبات ورباطة الجأش. ولأنّ الهوبيت يجسّدون نوعًا من الأبطال العاديين والديمقراطيين، تضعهم الرواية في مواجهة الطبقة الأرستقراطية الممثَّلة في الإلف، والّتي يخسف نجمها في بداية الكتاب. وهنا يمكن اعتبار الرواية عملًا انتقاليًا، يخترقه حنينٌ فيكتوري جوهري إلى النظام القديم (في زمن تولكين، كانت إنكلترا تحلم بعالم القرون الوسطى، بنظامه وتجارته ونقاباته). والمؤلّف نفسه كان مقرّبًا من حركة "الفنون والحرف اليدوية" التي تطمح إلى الدفاع عن الحرف اليدوية ضدّ الصناع، والرّوح الريفية ضد التحضّر. ولكن، إلى جانب آثار نقد الحداثة، يشكّل الهوبيت بطلًا عصريًّا حازمًا.

 

حول رمزية الخاتم
لكن ماذا عن الخاتم، الذي تدور حوله أحداث الرواية؟ إنّه شيء غنيّ بالرموز. ويمكن مقاربته من خلال فكرة الدائرة التي يجدها المرء بانتظام في الرواية: دوائر منازل شاير، أو تلك التي تحيط بقلعة إيزنغارد، أو حتى تلك التي يشكّلها كاندالف أثناء تدخينه الغليون!
تقليديًّا، تشكّل الدائرة رمز الكمال والوحدة، ولكنها تحمل بداخلها تناقضًا: تتماسك الدائرة مع بعضها البعض ولكنّها تحاصر ما بداخلها (مثل الخاتم)، إنّها توحّد وتُقصي في آن واحد. وقد جعلها الفيلسوف الأميركي إيمرسون فكرة هيكلية في فلسفته. تتطوّر علاقتنا بالعالم عبر الامتداد والتصادي بين الدوائر: دائرة العين أوّلًا، ثمّ دوائر آفاقنا المختلفة. في "سيّد الخواتم"، يُترجَم هذا المفهوم إلى روابط تتشكّل أوّلًا بين أعضاء جماعة الخاتم، ثمّ بين الشعوب. بحيث أنّ من يكون أسيرًا للخاتم يغرق في الهاوية والهوس وغياب الأفق. وإلى جانب رمزية القوّة، الإيجابية والسلبية، والمتكرّرة عدة مرات في الرواية، سنلاحظ أنّ الدائرة ترمز إلى شكل من أشكال التعادل. إنّها تسمح لساورون بحكم العالم، ولفرودو بتدمير ساورون. إنّها أيضا شكل لانهائي مثل الصفر. وإعادة اكتشاف "الخاتم الأوحد" هي فرصة الأرض الوسطى للتطوُّر مستقبلًا، وفرصة لشعوبها المهيمنة للتحالف مع بعضها البعض. فهذه القوى المتّحدة المركز، الشبيهة بموجات الصدمة، هي التي تخلق التحالفات. كما يرتبط الشكل الدائري أيضًا بالكلام، لأنّ الصمت يحيط به في الدائرة مثل فقاعة.

 







مسألة الشرّ
تقع مسألة الشر في قلب رواية تولكين. فبالنسبة لأفلوطين، الفيلسوف اليوناني الروماني الذي عاش في القرن الثالث الميلادي، فإنّ جذور الشرّ تكمن في المادة، لأنّنا "لسنا أساس الشرّ، ولسنا أشرارًا في ذواتنا، لأنّ الشرور موجودة قبلنا". في "سيّد الخواتم"، يكون الشيء المُفسد طبعًا هو "الخاتم الأوحد"، الذي كان القصد من صياغته وصقل مظهره الجذاب أن يصير أيقونة للشرّ. على العكس من ذلك، فإنّ بعض الأشياء - وكلُّها من صنع الإلف- تجسّد الخير: قارورة، عباءة، حبل.
وبعيدًا عن كونها مانوية، تقدّم هذه الرواية شخصيات تتحوّل من الخير إلى الشر دون أن تكون واعية بذلك (سارومان، بورومير) أو الذين يظهرون شرًّا طبيعيًا (مثل قطّاع الطرق في بِري). لكن مناقشة الشكلين الرئيسيين (أو البدائيين) للشرّ عند تولكين، وهما ميلكور وتلميذه سورون، تمّت باختصار شديد. إذ يلاحظ أن التعطّش للسلطة يلتهم الأخير حرفيًا، حتى يتفكّك تقريبًا ويُختزل في عين واحدة. إنّه لمن المزعج أن نقرأ ما كتبه أفلوطين عن الشرّ: "إنّه يشبه العين التي تبتعد عن النور لترى الظلام، وبسبب ذلك لا ترى نفسها: لأنّها لا تستطيع أن ترى الظلام في النور، وبدون النور لا ترى شيئًا […]". وما يميّز أقرب خُدّام سورون، أرواح الخاتم، هو اختفاء أجسادهم المادية. ربما يكون الكائن الذي يمثل الشرّ المطلق هو "أرين"، الذي لم يُفسده شيء، ولكنّه يحمل معه ذلك الجوع الذي لا ينضب للحياة وطاقة جميع المخلوقات الأخرى.
في نهاية الكتاب، يتساءل المؤلّفان عن هويّة الأبطال. لقد تغيّر فرودو، ميري، بيبين، أراغون، كاندالف، جسديًا و/أو معنويًا من خلال مغامرتهم. واستنادًا إلى أبحاث بول ريكور حول تحديد ماهية الهويّة، يمكن القول إنّ هذه الشخصيات لم تتغيّر بشكل جذريّ، لكنها تمثّل، كلّ واحدة على طريقتها الخاصة، أشكالًا مختلفة من التكوين الذاتي، ومن التميُّز في العلاقة مع النّفس، مع الآخرين، ومع الضّرورة الخارجية.

غلاف الكتاب الصادر مؤخّرًا "سيّد الخواتم: مغامرة فلسفية" (إليبس، 2020)،  تأليف مشترك بين ماثيو أما وسيمون ميرل



الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.