}
قراءات

"حياة الفراشات".. هشاشة الإنسان أمام جبروت الزمن ومكره

محمد الداهي

12 يوليه 2021



تستغرق أحداث رواية "حياة الفراشات" ليوسف فاضل (منشورات المتوسط، ط1، 2021، 381 صفحة) ظاهريًا خمسة أيام تمتد من الانقلاب العسكري إلى وفاة سالم، أو قتله. ارتأى السارد، فضلًا عن تركيزه على أحداث جسام، أن يسترجع سوابق الشخصيات التي تعود بنا إلى سنوات، أو عقود، مضت، حرصًا على استيضاح أصولها، ومنبت نبْعتها، وأواصرها العائلية، ووشائجها العاطفية. لا يمكن أن نفهم ما يقع اللحظة من دون تأطيره ووضعه في سياقه التاريخي والاجتماعي. وما يلفت النظر في هذا السياق أن السارد اعتنى أكثر بجزئيات الوقائع وتفاصيلها متعقبًا زمنيَّتَها البطيئة منذ انبلاج الصبح إلى الهزيع من الليل.
تندرج، بهذا الصنيع، الرواية ضمن الروايات التي تُعنى بشعرية التفاصيل وتأويلية اليومي، وتنزع أكثر إلى التوليف السينمائي لإعطاء لكل متوالية معنى ومنطقًا في إطار قصة متكاملة ومنسجمة. نجاري السارد في وسم كل متوالية بميسم خاص حرصًا على فهم موضوعها الأساس، ومواكبة انعكاساته على نفسية الشخصيات وتطلعاتها، ونجلي الطريقة السردية التي اتبعها السارد لتحقيق جملة من الأغراض والوظائف بالمراهنة على إشراك القارئ في إعادة تأثيث مجريات الأحداث، وملء ثقوبها بالنظر إلى مؤهلاته وتوقعاته.



يوم الانقلاب العسكري
يعد حدث الانقلاب العسكري المخفق نقطة الصفر التي تفصل بين ما وقع من قبل (سوابق الشخصيات)، وما سيحدث في ما بعد (التوجس من مستقبل غامض). وهو، على أهميته وجسامته، لا يشغل إلا حيزًا ضئيلًا في مجريات الأحداث وأحاديث الناس، في حين يستأثر ماضي الشخصيات بحصة الأسد سعيًا إلى التعريف بهويتها، والكشف عن مطامحها وتطلعاتها، واستجلاء سرائرها وجوانبها الداجية. وهكذا كان من الممكن أن يُستغنى عن هذا الحدث الجسيم لولا تورط سالم فيه؛ مما حفز ذويه وأقاربه وجيرانه على الاهتمام به لمعرفة مصيره ومآله.
صادف دخول الجيش إلى مبنى الإذاعة الوطنية وجود سالم في أحد الاستديوهات، وهو يتهيأ لتسجيل أغنيته الثالثة على مقام البياتي؛ فأُرغم على قراءة البلاغ العسكري رقم واحد معلنًا نجاح الانقلاب، وتحكم الجيش في دواليب الدولة وأجهزتها. وهو ما خلق الرعب في أفئدة أقاربه، وخاصة أخته حبيبة. بعد أن أُخلي سبيله، غادر بناية الإذاعة وهو يسمع من حواليه لعلعة الرصاص الطائش، ويتوقع الأسوأ بعد أن تناقلت الألسن على نطاق واسع ما تلفظ به، وأضحى، في ظرف وجيز، أشهر من نار على علم.




وضعه العسكر أمام امتحان صعب، إما أن يرفض طلبهم فيكون مصيره القتل، وإما أن يهادنهم ويداريهم حتى يفلت بجلده. وبتبنيه الاختيار الثاني، سُلطت الأضواء عليه لفهم حيثيات ما جرى في الإذاعة الوطنية، باعتباره شاهدًا على ما جرى، ومشاركًا فيه، واستجلاء ماضيه الشخصي وأهوائه ومطامحه في الحياة.
ليس نقابيًا، أو سياسيًا، بل هو مواطن عادي منغلق على نفسه، ومهموم بمشاكله الشخصية والعائلية. يُدرِّسُ العزف على العود في المعهد البلدي للموسيقى في الدار البيضاء، ويتردد على مقهى "دون كيشوط" لتنشيط الأمسيات والسهرات الغنائية. عندما ذهب والده عاشور عام 1942 إلى فييتنام تحت لواء الجيش الفرنسي، عاش برفقة أخته حبيبة في كنف العم المدني ورعايته، إلى أن اضطر إلى العيش في مخزن ملحق بإحدى الفيلات في حي لارميطاج. ظلت حبيبة، لإخفاقها في الزواج بعد تجربتين مريرتين، مع عمها، تخيط الملابس، وتعرضها للبيع في الحفارين، وتعمل في معمل النسيج بضواحي الدار البيضاء. آثرت أن تمكث في رعايته حتى بعد عودة والدها إلى أرض الوطن عام 1957.
ينحدر عاشور من بلدة دمنات، انخرط في الجيش الفرنسي، ثم قادته الأقدار إلى فييتنام. التحق بمعسكر الثوار الفييتناميين كما لو رضع الشيوعية من حليب أمه في دمنات، وجرى دم الثورة في دمه منذ ولادته. بعد أن انتهت الحرب، عاد إلى منزله في شارع ستراسبورغ في الدار البيضاء. تخلى عن إرسال لحيته على طريقة هوشي منه، وبدأ يرتدي المعطف الطويل عوض كسوة العصابات. انضم إلى نقابة الاتحاد المغربي للشغل، وشغل مرتبة هامة بحكم تجربته في التنظيم الثوري، وقدرته على مخاطبة الجماهير وتأجيج حماستها. وعلى الرغم من حصوله على التقاعد منذ أربع سنوات، ظلت قوافل رفاقه تتقاطر عليه في بيته لأكل وشرب ما طاب لهم على حسابه، وإيصال الليل بالنهار مستمتعين "بشرابه الرخيص، وحكاياته البالية، وتهريجه الفاجر" (ص 54)، وبقضاء أوقات زاهية وماجنة مع عاهرات اعتدن بيع أجسادهن خلف "المارشي سونترال". كان يستجير بهم عاشور لإثبات جدارته ومكانته وإصراره على حب الحياة، ويقفز على جثثهم لامتصاص قسط من حيواتهم وعافيتهم، وسرقة عنفوان شبابهم.



يوم الميلاد
اعتقل سالم، ثم أخلي سبيله، بعد تأكد المخابرات من صفاء سريرته. وقبل أن يغادر مخفر الشرطة، عاتبه العميد بقوله: "لماذا لم تستشهد من أجل الملك؟ لا بد أن حياتك أغلى من حياة الملك. قال وهو يضحك ويضرب على كتفي" (ص 118). قررت حبيبة في عيد ميلادها الأربعين أن تذهب إلى السينما بحثًا عن رجل مناسب تقضي معه ليلة مُستديمةً عصارتها إلى عيد ميلادها المقبل. يواصل هاني تمارينه الرياضية وهو، بين الفينة والأخرى، يتعقب خطوات حبيبة، ويراقبها حتى باب المعمل، وكتفه ملاصق لكتفها. وبينما تستطيب النوم تناهى إلى سمعها طرق على الباب في منتصف الليل. قرر هاني أن يختلي بها بعد مطاردة وتعقب عسيرين، لكنها لم تفتح له الباب، وهو ما جعله يثير جملة من الأسئلة بحثًا عن جواب مقنع يخفف به وطأة الحسرة والخيبة التي ألمت به.




الشخصيات جلها منهمكة حتى النخاع في شواغلها وهمومها الذاتية، باستثناء عاشور، الذي اهتم بموضوع الانقلاب، وأولاه الاهتمام المستحق. استغل المناسبة ليشنف أصدقاءه الندماء بوجهة نظره من الانقلاب. كان يسعى بعد أن لعب الخمر برأسه أن يقنعهم، بصفته شيوعيًا ونقابيًا وعسكريًا سابقًا، بأنه أدرى بالدسائس والمؤامرات التي تدار وراء الستار، ويثبت لهم بأن مهمته لم تنته بعد طرده من النقابة ما دام، بحسب ظنه، قادرًا على هزم خصومه المحتملين في السراء والضراء. لم يع لغروره واندفاعه أنه أضحى، بمرور الوقت، قطعة غيار غير قابلة للاستعمال، وظِلاً ثقيلًا لا يطاق. أصبح يهرف ويخلط في خطبه مستحضرًا أمثلة مستفزة من ذكرياته في الهند الصينية (طردوا الملك لأنهم لا يحبون الملكية) لا علاقة لها بمشاكل العمال انتظاراتهم؛ وهو ما حضَّ شابيْن على إخراجه من القاعة، ورميه في الشارع.



يوم الحب
ازداد شوق سالم للقاء حبيبته فاطمة التي لم يرها منذ خمسة أيام. يعدها، برفقة الموسيقى، حدثًا سعيدًا في حياته. لكنها لا تحبه، ولا تحب الموسيقى أيضًا. رافقته إلى حديقة الحيوان؛ وثمة نزلت عليه المفاجأة غير السارة. كان يتملى النظر في أشكال غريبة من الحجل والحمام البري، ولم يكن يتوقع أن يشاهد فاطمة تضحك مع شاب كما لو كانت تعرفه منذ سنوات "اندماجهما وانسجامهما كاملان. بعد مدة طويلة التفتت جهتي، وهمست في أذنه، وهمس في أذنها مما زاد كركرتهما درجة" (ص 193). قرر أن يقطع الخيط الذي يربطه بها، ويطوي إلى الأبد قصة حديقة الحيوان. لكنه لم يقدر على اتخاذ الموقف المناسب من شدة حبه لها وتعلقه بها. استضافها إلى مطعم باذخ مطل على البحر لتناول وجبة العشاء، وأهداها قارورة عطر. قبل أن يغادرا المطعم ذهبت إلى الحمام ولم تعد. ظل ينتظرها في حالة صحية يرثى لها (تقطع أمعائه، عدم قدرته على النهوض، ارتعاش بدنه)، فاضطر النُّدُلُ إلى إخراجه قسْرًا لتفادي أية مشكلة مع الشرطة. لم يتذكر ما وقع له بعد أن لفه الظلام الدامس من كل جانب.
جاءت حبيبة متأخرة اليوم إلى المعمل لتودع زميلاتها، وهو ما أربك حسابات حجاج (مسير المعمل) الذي كان يحبها في صمت، ويأمل الزواج بها لأنها المرأة الأجدر التي تستحق أن تقتحم محرابه، وتدنو من عرشه. لم تعطه الفرصة المناسبة للإقدام على الخطوة الحاسمة، فازداد إحساسه بأنه شخص غير مرغوب فيه ما دام يبادل العاملات كراهية بكراهية، ولا يتعاطف أصلًا مع البشر. أسعدت هزيمته طيور القعقع والعاملات، ولذا قرر أن يتوقف عن سقي الأصص حتى تختفي الطيور اللعينة بذبول النباتات ونفوق الديدان.



يوم النكسة
كلف شخص مجهول الطفلة (المعروف بالخنفساء) بتسليم حافظة نقود سالم إلى أخته حبيبة، وإعلامها بأنه طريح الفراش في المستشفى. تذكرت الشخص الذي طرق بيتها ليلًا، ليس لديها تفسير مقنع لعدم استقباله. تتمنى الآن أن يعيد الكرة لأنها في أمس الحاجة إليه لاستبعاد شبح الوحدة القاتلة. تفقدت المستشفى وهي تتوقع أسوأ السيناريوهات عن مآل أخيها سالم. طمأنها الطبيب إلى تحسن حالته الصحية بعد أن استفاق من إغماء عارض ألمَّ به في الشارع.
استبعد مصطفى ابن أخته هاني من قائمة المتبارين، لأنه غير مستعد نفسيًا. ولم يستطع مصارعو النادي أن يتغلبوا على خصومهم. انهزم الواحد تلو الآخر بذراع مكسور، أو ساق مطوية. استاء المتفرجون من الهزيمة، فانسحبوا من القاعة ساخطين ومتذمرين. وحده هاني غادر القاعة بإحساس المنتصر، وهو يهدي الهزيمة التي لم يشارك فيها إلى المرأة التي يأمل أن تنير ليلته القادمة.




عاتبه خاله بشدة محملًا إياه مسؤولية الهزيمة بسبب انشغاله بالمرأة الشبح، وتعقب خطواتها، وعدم اهتمامه بشؤون النادي، إلى أن تواضعت نتائجه. "لم يسألني عن علاقتي بها. اكتفى بأن نبح في وجهي بكلامه الغامض، مهددًا بإعادتي إلى أهلي في أقرب فرصة. صوته واهن. صوت رجل لم تكن له كائنة بعد الهزيمة التي عصفت به وبناديه السيئ السمعة" (ص 304).
انتابتْ هواجسٌ عديدةٌ ذهن حبيبة، وقضت مضجعها متوقعة أن يطرق بابها القاضي المرعب سقر، أو هاني. منذ أن انقطعت علاقتها ببوريس زهاء خمس سنوات، وهي تعتبر الحياة صفقة خاسرة، لأن الحظ لم يسعفها في لقاء الرجل المناسب الذي يبادلها الحب، ويشعرها بصدق نواياه. "لم أعثر من بينهم ولو على واحد أستطيع أن آنس إليه، وأنتبه إلى نبض قلبه، وأومن بصدق نواياه؟" (ص 310).
سمعت طرقًا مفاجئًا، فبادرت إلى فتح الباب. وجدت نفسها أمام الفتاة الصغيرة التي كلفها أصحاب العرس بتسليمها طبق العشاء. كان وقع دقات الطبول يتزايد وقتئذ، والأهازيج تتواصل احتفاء بزواج فاطمة مع الرجل الأعور.



يوم السفر
تُفاجأ حبيبة بحمل تابوت إلى بيتها على متن سيارة الموتى، وبضرورة مرافقة السائق لتشييع أخيها إلى مثواه الأخير. حارت من هوية الميت.. أهو أخوها أم إنسان آخر؟ وما سبب موته؟ هل مات من جراء أكل النقانق المسمومة في سوق الجمعة، أم بسبب تورطه في الانقلاب؟ استغل حجاج الفرصة للقاء حبيبة في المقبرة ومواساتها، بعد أن أضحت من دون سند. لم تكن الفرصة مواتية بسبب حسرة حبيبة وانهيارها العصبي، فغادر المقبرة وهو يجر ذيول الخيبة من جديد، ناعتًا إياها بالجحود "لم أخطئ عندما أعلنت في السابق أنها امرأة جاحدة، عديمة الأخلاق. وها أنا أرى الآن بعيني أنها امرأة مخبولة. ولهذا فمن غير المستعبد أن يكون التابوت فارغًا. من يدري؟!" (ص 364). عندما عادت إلى بيتها انتابتها الهواجس نفسها التي تربك وضعها، وتثير شكوكها. تتخيل دومًا أن شخصًا يُدوِّرُ مفتاحًا في قفل الباب. لأول مرة تشعر أن قدميها وطئتا قارة مجهولة اسمها الخوف. تتخيل أن صاحبة اللباس الأسود تتعقب خطواتها وأنفاسها منذ أن كانت في سينما الكواكب، وظلت تترصَّدُها لنعتها بأقذع الصفات، وفضح علاقتها بالقاضي سقر، ومفاجأتها في بيتها. ما كان ضربًا من الخيال أضحى واقعًا عندما تناهى إلى سمع حبيبة وقع خطى شخصين على الأقل يتهامسان في البهو، ثم سرعان ما اهتز الباب كما لو حصل انفجار مهول.




عانى هاني في اليوم الموالي من كدمات بسبب الشجار الذي خاضه في النادي مع المناصرين المتذمرين لثنيهم عن تدمير المنصة والكراسي، وقرر أن يضع حدًا لتعقب حبيبة وملاحقتها من دون جدوى، لكبرها في السن، واحدوداب ظهرها، بين عشية وضحاها، في حين ما زال هو في ميعة الشباب (عشرون سنة). وجد ضالته في بنت خالته وداد، ليبدأ معها حياة جديدة إرضاء لطلب أمه؛ فاضطر إلى جمع الحقائب والعودة إلى بلدته بنسليمان. يتوقع أن يأتي يومًا برفقة أبنائه إلى النادي ليطلعهم على مجده عندما كان مصارعًا كبيرًا، يتدرب مع كبار المصارعين، ويخبرهم باليوم المشهود الذي قاوم فيه شرذمة من الشباب المدجج بالهراوات والعصي.

أجْملُ ما تتميز به الرواية من سمات فنية، وما تثيره من قضايا في النقاط الآتية:
1 ــ استثمر السارد تقنية التوليف السينمائي، بإعادة ترتيب المتواليات السردية على هيئة تسعف على إبراز ما تقوم به وما تنجزه الشخصيات يوميًا، وعبر فترات. وتعمد أيضًا وسم متوالية كل يوم باسم الشخصية التي يقع عليها التبئير. لا يمكن أن نأخذ فكرة إجمالية عنها إلا بتتبع ما تضطلع به يوميًا في تفاعلها وتواصلها مع شخصيات أخرى. وهكذا تؤدي اليومية الوظيفة السردية والمرآتية للتعريف بالشخصيات، وإضاءة سوابقها وماضيها، ورتق فتوق محكياتها سعيًا إلى فهم سرائرها وأدوارها وتطلعاتها.
2 ـ يتكفل السارد بتنظيم المادة السردية، والتوليف بين محكياتها المتشابكة والمتوازية، وإعطاء الكلمة إلى الشخصيات للمُسارَّة والمكاشفة والمناجاة وتبادل وجهات النظر في ما بينها. لا تتوقف مهمة السارد عند معاينة أعمال الشخصيات وأوصافها الخارجية، بل يلج خلسة بيوتها، ويستطلع سرائرها. تبدو الفراشة التي ولدت وكبرت في شرفة ببيت حبيبة أكثر اطلاعًا على أسرارها. قضت حياتها تراقب حركاتها وتتعقب أنفاسها. يمكن لها أن تشهد بأنها لم تر رجلًا نام جوارها على السرير. ربما حصل هذا من قبل أن تخلق الفراشة. احتارت من أمر هذه المرأة لعدم ارتباطها برجل، وامتناعها عن فتح الباب للشاب الذي جاء يطلب ودها في منتصف الليل. وفي المنحى نفسه، تعرف صاحبة اللون الأسود ما جرى لحبيبة في قاعة السينما، وتهددها بفضحها أمام الناس. ولا ساردَ إلا فوقه سارد أكثر معرفة واطلاعًا منه بسرائر الشخصيات وهواجسها. ومن ثم يتباهى السارد بقدرته على مُحاجَّة أي سارد محتمل، وعلى إبعاده من حلبة المنافسة لقصر نظره، ومحدودية معلوماته. إنه موجود وحاضر في أي مكان. لا أحد يمكن أن ينافسه في معرفة ما يجري في الغرف المغلقة والحميمة، وما يخطر ببال الشخصيات في السر والعلن. لكن يبدو، رغم قدراته الفائقة، حائرًا أمام بعض الوقائع، إن لم نقل عاجزًا عن حل شفراتها (هلاك أعضاء أسرة في ظرف وجيز وبطريقة غامضة). أهو متواطئ مع جهات معينة للتستر على الفضيحة، أم أنه غير قادر على فك خيوطها المعقدة والمتشابكة؟ وأيًا كان الجواب، تقصد السارد أن يترك بياضات لحفز القارئ على تشغيل خلفياته المعرفية، ويستخدم أيضًا عبارات ملغزة لتفادي اتخاذ موقف حاسم من الحدث المفجع.
3 ــ كانت الأيام الخمسة حاسمة في تحديد المصير المشؤوم لكل شخصية على حدة. أخفق هاني في تحقيق أمنية أمه التي كانت تأمل أن تراه يومًا مصارعًا متألقًا، وعاد من حيث أتى ليعيش في كنفها. لم يفلح حجاج في إغواء حبيبة، وكسب مودتها. وبعد أن طرد عاشور من النقابة، كأي مجرم، أو لص، بسبب استطراداته المثيرة والمستفزة، مات في ظروف غامضة. ولقي المصير نفسه ابنه سالم، وابنته حبيبة. هل لقيت الأسرة حتفها قضاء وقدرًا، أم أنها كانت ضحية مؤامرة مدبرة؟ لا يحسم السارد في النازلة، مؤثرًا أن يتركها مشرعة على احتمالات عديدة، وشورى بين الناس للتداول فيها بغية الخروج بالموقف السديد، والإجماع عليه. قد يلجأ القارئ إلى مؤشرات تلفظية للنبش في خلفياتها، واستنطاق مقاصدها، ليعرف السبب الذي أودى بأفراد عائلة إلى الموت تباعًا في غضون أيام معدودات. أَلَهُ علاقة بتورط سالم في الانقلاب العسكري من حيث لا يدري؟ أَلَهُ علاقة أيضًا بخروج عاشور في خطبه عن الموضوع أمام عشرات من العمال في نقابة الاتحاد المغربي للشغل، واستشهاده بأمثلة مستفزة وغير مناسبة للمقام (طرد الملكية من الفييتنام)؟ يؤثر السارد ألا يتورط في تفسير حاسم للنازلة، ويكتفي في نهاية الرواية بوضع حد للشكوك مستحضرًا على لسان سالم، وهو في العالم الآخر، قصة قتل أبناء القاضي الثلاثة، ثم تصفيته في ما بعد، ثم طي الملف من دون معرفة الجاني.
وأيًا كان التفسير المقدم للموت بهذه الطريقة، أو تلك، فهو يعزز هشاشة الفراشة (ما يوحي به عنوان الرواية)، وضعفها وتعرضها لأي مكروه في أي وقت، ويجاري القول الشهير لبليز باسكال (الإنسان هو القصب العاقل) الذي يوحي فيه بأن الإنسان هو الكائن البشري الأضعف في الطبيعة، بسبب هشاشته وضعفه مثل القصب.




4 ـ حافظت اللغات الاجتماعية (Sociolectes) الأربعة (لغة المصارعين، ولغة العمال، ولغة الموسيقيين، ولغة المتقاعدين) على استقلالية عوالمها المعجمية والدلالية في تناسق مع بورتريهات المتلفظين بها وفق التوليف الذي تبناه السارد للتعريف بهم، وإبراز انكساراتهم وتطلعاتهم. يبدو هاني، مثلًا، منغمسًا في عالم المصارعة الذي يتقاسمه مع خاله والمنخرطين في النادي والمنافسين. يتحدثون اللغة الاجتماعية نفسها، مرددين العبارة المسكوكة الأثيرة لديهم (الكاتش حنا مواليه) حرصًا على شحذ الهمم، وحصد النتائج الإيجابية، وردع الخصوم.
حرص، بتواصله مع الشخصيات الأخرى، على التجاوب معها بالتحرك على الأرضية التلفظية ذاتها، وتقاسم الاعتقادات والأهواء نفسها. سعى، في المنحى نفسه، إلى توطيد علاقته بحبيبة، لكنه أخفق في إصابة هدفه، لأنها تعاني من آثار التجارب السابقة وندوبها، ولم تجد بعد فارس أحلامها، الذي يمكن أن يشعرها بوجودها وإنسانيتها، ويثير أشجانها وعواطفها، ويضمد جراحها.
كان الرهان على العاطفة للتقريب بين العوالم المختلفة والمتنافرة، لكنها لم تؤد ما كان منتظرًا منها بسبب الوشائج المعقدة بين البشر. لم تجد حبيبة من تعطيه قلبها، ويخفف وطأة الاستغلاليْن الطبقي والجنسي عن كاهلها، ويوفر لها سبل العيش بكل أمان وطمأنينة. تتوهم دائمًا أن هناك من يتربص بها، ويهدد حياتها في عقر دارها، إلى أن لقيت حتفها في ظروف غامضة. تعذر على سالم أن يجد توأم الروح الذي يتقاسم معه عالمه، ويشاركه همومه، خارج إطاره الضيق (مقهى دون كيشوط). ظل يغرد خارج السرب، ويلاحق سدى النغمة المفتقدة التي تنقص مسيرته في الحياة، لعلها تعيد إليه التوازن المنشود، وتضفي على مساره البهاء والانسجام المنشودين، وتسري في دمه من دون أن يسمع طنينها. ظل عاشور يجتر ذكريات الماضي حرصًا على تعويض خسائر الحاضر الرتيب والممل، وتصحيح الصورة التي لطخت أمجاده وبطولاته من جراء طرده المذل من نقابة "الاتحاد المغربي للشغل".
5 ـ وردت الأحداث في شكل "الشظايا السردية"، أو "المتواليات السينمائية" التي يولِّفُها المخرج وفق المنطق الذي يرتضيه. "لا تعطينا الرواية نفسها ككل منسجم، بل كنظام معقد من الزخارف"(1) التي تتطلب من القارئ جهدًا لإعادة ترتيبها ووضعها في مواقعها المناسبة حتى يسترجع الشكل الهندسي، في آخر المطاف، رونقه وانسجامه. ومن ثم نفهم لماذا ركز السارد على التقسيمات، أو النوتات الموسيقية، وصاغ منها إيقاعًا سرديًا ونفسيًا متقطعًا. بموازاة تداخل الحكايات والنصوص والبورتريهات، تحوي الموسيقى صنوها الحقيقي، أو نظيرها الرمزي، على هيئة الدمى الروسية. وهو ما يوحي بأن الرواية مختبر لتجريب أشكال جديدة، واقتراح تنويعات سردية مغايرة (الكتابة الشذرية) للتمرد على الشكل النمطي للرواية، ومساءلة هشاشة الكائن البشري في عالم ينزع أكثر إلى التسيب والتشظي.
تقصد السارد سرد ما وقع في الأيام الخمسة من أحداث جسام وأهواء صادمة (واقعة الانقلاب العسكري وتداعياته، موت أعضاء الأسرة في ظروف غامضة، إخفاق حجاج في التودد إلى حبيبة، وكسب قلبها، عودة هاني إلى بلدته بعد أن خيب ظن خاله، وأدى إلى تراجع نتائج النادي)، مبرزًا انعكاساتها السلبية على نفسية الشخصيات وتطلعاتها، ومستعينًا بتقنيات "تيار الوعي" للتغلغل في السرائر البشرية واستقصاء أحوالها، ومعرفة ما يتردد في قاع الدار البيضاء من دسائس ووشائج خطيرة، وما يدور في مجالس السمار والندماء المحبطين.
أهي حتمية المكان التي اقتضت أن يكون موت الشخصيات، أو إخفاقها، كامنًا في ثناياه، كاللوح المحفوظ، وأثبتت، في الآن نفسه، أن صفقة الحياة رهان خاسر؟ لو عاش سالم مثلًا في مكان آخر، هل كان سيتبنى الاختيار نفسه، ويتعرض إلى المصير عينه؟ وأيًا كان الاختيار، فهو يؤدي إلى الخطأ نفسه مقتفيًا أثر الإنسان الأعلى Surhumain وسنته في الحياة (أسطورة العود الأبدي أو التكرار الأبدي). "يحيي المأساة الكونية في أعلى مظاهرها.. يرحب بالقدر ولا يخشاه.. يعلم أنه لو كانت للكون غاية لحققها منذ أمد طويل، يعرف أن اللحظة الحالية تمر لتعود، وتعود بلا نهاية"(2).  وهو ما سيضفي على حياته المتكررة إلى ما لا نهاية الرتابة والقتامة لتبنيه الاختيارات نفسها، ومعاناته من المآسي عينها من دون أن يهتدي إلى المنفذ المناسب.



هوامش:

(1) -Sélom Komlan Gbanou, « Le fragment dans le roman francophone africain » in Tangence, n°75, été 2004,p.92.

(1) - عبدالله العروي، أوراق سيرة إدريس الذهنية، المركز الثقافي العربي، ط2، 1996، ص.31.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.