}
عروض

عزمي بشارة وقراءة مسار القضية الفلسطينية

أحمد بسيوني

10 يونيو 2022

 


يعتبر كتاب عزمي بشارة "صفقة ترامب- نتنياهو.. الطريقُ إلى النصّ ومنه إلى الإجابة عن سؤال: ما العمل؟"  الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2020)، من أبرز الدراسات الجديدة التي تُحاوِل قراءة مسار القضيّة الفلسطينيّة، وذلك بوصفِها آخر قضيّة استعماريّة، كما يؤكد.

يُغطّي الكتاب المعالم الرئيسية التي مرّت بها القضيّة الفلسطينيّة، في الفترة ما بين 1947 وحتى 2020، بسردٍ للموقف الأميركي عبر تقديمه لمبادرات السّلام، والتحوّلات في المواقف العربيّة، بالرغم من وصف القضيّة بنزاعٍ عربيّ- إسرائيليّ، إلى أنْ أصبح يُسمّى بصراعٍ فلسطينيّ- إسرائيليّ، بتماه عربيّ، وتعالٍ أميركيّ استعماريّ، منذ توقيع اتفاقيّة أوسلو، وحتّى هبوط الواقع العربي، وتبنّي وجهة النظر الإسرائيليّة في فرض الواقع بالقوّة (ص 10-11).

تطرّق بشارة لسرد تاريخي لبداية المبادرات الأميركيّة وتطوّرها عبر ممرّات التحوّلات التاريخيّة التي شهدتها المنطقة العربيّة، من أجلِ أن يصل لحقيقة الانقطاع الذي حدث بين المبادرات التي قُدِّمت بواسطة الإدارة الأميركيّة منذ 1967 وحتّى عام 2020؛ حيث كانت المبادرة الأميركيّة الأولى التي قدّمها ويليام روجرز بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، التي وُجِهت للعرب وتجاهلت الفلسطينيين، وسعت هذه المبادرة لوقف إطلاق النّار والاعتراف بإسرائيل مقابل إعادة الأراضي التي احتُلّت عام 67، حيث رُفِضت مبادرة السلام الأولى من قِبل الإسرائيليين لعدم تطرّقها للاحتياجات الأمنيّة، بالمقابل وافقت كل من الأردن ومصر عليها (ص 19-21). وكانت المبادرة الأميركيّة الثانية بقيادة زبيغنيو بريجنسكي (1977-1981)، مصحوبة بفكرة الحكم الذاتي، وهو مشروع التسويّة الإقليميّة، القائم على إلحاق الضفّة الغربيّة بالأردن بحُكمٍ ذاتي بصيغة "الأوتونوميا"؛ المأخوذة من التاريخ القديم في حالة الإمبراطوريّتين الإغريقيّة والرومانيّة، والتي كانت مُطبّقة في العهد العثماني وحكمه للمنطقة العربيّة؛ عندما مُنِحت لبنان حكمًا ذاتيًا عام 1864 بإشراف سُّلطة مركزيّة، هذا الحكم الذاتي يكون تحت مراقبة أمنيّة إسرائيليّة، على أن تبقى القدس عاصمة مُوحّدة لدولة إسرائيل، لكن إسرائيل رفضت المبادرة، مقابل قبولٍ عربيٍّ بها (ص 22-24). أمّا على صعيد المبادرة الأميركيّة الثالثة برئاسة رونالد ريغان (1981-1989)، فقد تبنّت طرح بريجنسكي في الحكم الذاتي، لكن بتجميد الاستيطان الإسرائيلي لمدّة خمس سنوات، ورفضتها إسرائيل واعتبرت أنها "وُلِدت ميتة". الجدير ذكره هنا أنه بالرّغم من الرفض الفلسطيني للمبادرات، إلّا أنّ الإدارة الأميركيّة لم تأخذهم بعين الاعتبار، ولم تعترف أصلًا حينذاك بمنظمة التحرير الفلسطينيّة (ص25-26).

بالنّسبة لبشارة، فإنّ هذه المبادرات جاءت بعد أربع تحولات جذريّة في المنطقة العربيّة، بدأت عام 1948 بولادة إسرائيل، مرورًا بحرب 1967 وهزيمة العرب، حتّى الثورة الإسلاميّة في إيران عام 1979، وأخيرًا احتلال العراق للكويت عام 1990 (ص 26)، هذه التحولات أثّرت في مفهوم النظام العربي القومي، وساهمت في بروز أقطاب غير عربيّة تساهم في إعادة تشكيل البُنى السياسيّة في منطقة الشّرق الأوسط، مستغلّةً الضّعف العربي وتماهيه مع تنامي قوّة إسرائيل، وهو ما ظهر جليًا في المبادرة الأميركيّة الرابعة إبان رئاسة جورج بوش الابن (2001-2009)، والتي تمحورت حول قيام دولة فلسطينيّة، وتبنّت "اللجنة الرباعيّة" مبادرة "خارطة الطريق"، وفيها دعوة إلى إنهاء الاحتلال لأراضي عام 67، وإقامة دولة فلسطينيّة، والغريب بهذه المبادرة أنّ القيادة الفلسطينيّة بعد أوسلو، قبلت بها دون تحفّظ، أمّا إسرائيل فقد وافقت على المبادرة من حيث المبدأ وطالبت بمئة تعديل، وكتعبير أوضح عن الرّفض الإسرائيلي لخارطة الطريق، قام أريئيل شارون، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، باحتلال رام الله عام 2002 وقتل ياسر عرفات عام 2004، والانسحاب من قطاع غزّة عام 2005. ويُعلِّق عزمي بشارة على هذا الأمر بأنّ "الذي وافق على خارطة الطريق بلا تعديلات قُتِل، بينما الذي رفضها تلقّى رسالة ضمانات" (ص 29-30). وأخيرًا المبادرة الأميركيّة الخامسة برئاسة دونالد ترامب (2017-2021) وهي موضوع هذا الكتاب، حيث اعتبر بشارة أنّ هذه المبادرة تخلّلها كسر لكل المسار الأميركي في التعامل مع القضيّة الفلسطينيّة، كما اعتبر أنّ هذه الصّفقة نُفِّذت قبل الإعلان عنها.
 



نصّ يميني- صهيُوني استعماري

يُحيل بشارة إسقاطات "رؤية ترامب" في تسوية الصراع إلى صعود اليمين الشعبوي، وأيضًا هشاشة الدّولة الوطنيّة، ويُعزى ذلك إلى الفشل البنائي والبُنيوي للدولة العربيّة (ص 79-82)، بالإضافةِ إلى اتفاقيات كامب ديفيد التي وقّعها الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن في 1978، واعتُبِرت بمثابة الانقلاب الأوّل في طابع القضيّة الفلسطينيّة، لأنّ الصراع تحوّل من عربي- إسرائيلي، إلى فلسطيني- إسرائيلي، وأصبح الصراع مع كل دولة عربيّة على حِدة. أمّا الانقلاب الثاني فكان بتوقيع اتفاقيّة أوسلو عام 1993، ودخول منظّمة التحرير بمفاوضات دون مبادئ واضحة، بدأت باعتراف المنظّمة بدولة الاحتلال، بالرغم من عدم وجود اتفاق على المبادئ والأسس التي سوف تُحل بها القضيّة الفلسطينيّة، وكانت السُّلطة الفلسطينيّة هي نِتاج هذه الاتفاقيّة، لتُخفِّف عن الاحتلال مسؤولية الشعب تحت الاحتلال، وما بين هاتين المعاهدتين تطوّرات منطقة الشرق الأوسط، من انهيار الاتّحاد السوفييتي، وخروج منظمة التحرير من لبنان، واحتلال العراق للكويت، وأيضًا حل الوفد الفلسطيني- الأردني المُشترك، مما أدّى إلى توقيع اتفاقيّة سلام بين الأردن- إسرائيل عام 1994، وجعل مسؤولية استرجاع أراضي عام 1967 هي مهمّة منظّمة التحرير، دونًا عن الدول العربية الأخرى (ص 85-89).

إن المغالطات التي ذُكِرت بالمبادرة، تتضمّن الأراضي التي تم الانسحاب منها عام 1967، واعتبرت الوثيقة أنّ إسرائيل احتلّت "سيناء، الجولان، الضفة الغربيّة وقطاع غزّة" أعادت إسرائيل منها ما نسبته 88%، ويرى بشارة أنّ 88% هي سيناء فقط، بينما 12% هي الجولان والضفة وغزة، ويرى فيها جمعا للعربِ بالنّص، وتفرقة فيما بينهم على أرضِ الواقع. وتتناول الوثيقة قدوم اليهود إلى إسرائيل من الدول العربيّة باعتبارهم مهاجرين/ لاجئين، أي تمّ طردهم، وهذه مغالطة تاريخيّة، لأنّ الحركة الصهيونيّة قبل عام 1948، كانت تُروِّج للدولة الإسرائيليّة على الأراضي الفلسطينيّة، وتدعو للقدوم إليها، كوطن قومي لليهود، واستُخدِمت هذه الصيغة، من أجلِ وضع اليهود القادمين إلى إسرائيل واللاجئين الفلسطينيين في خانةٍ واحدة، من أجلِ التفاوض على تعويض الطرفين، كمهاجرين (ص 56-59). وفي قضيّة إخلاء المستوطنات، كانت رؤية ترامب لاقتلاع العرب واليهود من منازلهم مرفوضة ويتعارض ذلك مع فكرة التعايش، وهذا فيه صراحة ضمنيّة بعدم إخلاء المستوطنات في الضفة الغربيّة، لكن بلغةٍ تشمل اليهودي والعربي، للموازنة والمساواة بينهم، المساواة بين المُجرِم والضحيّة (ص 66-68). أمّا بالنسبةِ لمفهوم السيادة، تطرّقت المبادرة في كل النصوص المذكورة فيها، إلى تلبية احتياجات أمن إسرائيل، متجاوزة بها السيادة التي وُعِدت بها السُلطة الفلسطينيّة، حتّى أنّ الوثيقة- من وجهة نظر يمينية صهيونيّة- ناقشت مفهوم السيادة، ورأت بأنّها حجر عثرة أمام السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وإنْ لم يكُن هنالك أمن لإسرائيل، فلا أمن لفلسطين بالمقابل (ص 67-75).

يناقش بشارة أيضًا قيمة الصفقة وتأثيرها على المجتمع الدّولي، مشيرًا إلى أن "القوّة هي الحق"، أي أنّ القوي يفرض إرادته على الغير في ضم أراضيه بالقوّة، وهذه تخلق سابقة دوليّة وتعكس قوّة الحق إلى حق القوّة، بالإضافةِ إلى تبني السردية الصهيونيّة- التوراتيّة بالكامل، واللغة الاستعماريّة، ولكن أساس عمليّة هذه الصفقة، هي قضايا الاستيطان والضم في كوْنِها غير شرعيّة دُوليًّا، إلّا أنّ دولة الاحتلال استطاعت أن تنتزع شرعيّة من الدولة الأقوى في العالم، وهذا هو المهم في هذه المبادرة. ويتطرّق أيضًا للغة الاستعماريّة الوصائيّة المُستخدَمة في صياغة المبادرة، تشمل الوصاية الأمن، والثقافة والتعليم (ص 46-48)، ويذكُر أيضًا سرديّة المُبادَرة وتبنّيها للرواية التوراتيّة، باعتبارها قاعدة سياسيّة، ووثيقة دوليّة في صياغة مبادرة تتحدّث عن الاستعمار، ويعتبر بشارة أنّ التفسير السياسي للنصوص الدينية لا يُمكنه أن يكون ناظمًا للعلاقات بين الدّول، لأنّ مفهوم الدّولة والسيادة والقانون والاستعمار، مصطلحات حديثة، لا يُمكن لأي كتابٍ دينيّ أن يفسِّر ماهيّة هذه المفاهيم، وهذا يُعتبَر استغلالًا حزبيًا للدين، بتمسّكهم بالتوراة لتفسير الدولة اليهوديّة، وذكر أنّ الصهيونيّة العلمانيّة المتمثّلة بدافيد بن غوريون وغيرهِ، الذين أقاموا دولة إسرائيل، لم يعترفوا بالتوراة في إقامة الدولة الإسرائيليّة، وأقاموا عاصمة بدون القدس حتى عام 1967، وفي الوكالة اليهوديّة كان البحث الأول كعاصمة لإسرائيل هي حيفا، لأنّها مدينة علمانيّة (ص 49-52). كما أنه لا يوجد شيء اسمه احتلال، فقد اعتُبرت الأراضي التي تم الاستيلاء عليها عام 1967 "شطاحيم موحزاكيم"، أي رهينة إسرائيل، من أجلِ السّلام مع العرب، وهذا يُعزّز من فكرة تبنّي الرواية الصهيونيّة، بما فيها تبنّي اللغة العبريّة في سرد تاريخ الحروب والاحتلال الإسرائيلي لبعض المناطق العربيّة (ص 54).

 

هل ثمّة مبادرة سلام جديدة برئاسة جو بايدن؟

لم تكن فترتي ولاية باراك أوباما (2009-2017)، ذات تأثيرٍ حقيقيّ على القضيّة الفلسطينيّة، ولم تُقدِّم إدارة أوباما مبادرات سلام للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، حيث كان جلّ اهتمامهِ إبرام صفقات مع إيران، وحلّ الصراع الإيراني- الأميركي، لكن جون كيري تساءل عن عدم الالتفات للمبادرة العربيّة للسّلام، من قِبل الإدارة الأميركيّة، حيث مرّت مبادرة السّلام العربيّة التّي أعدّتها جامعة الدول العربيّة، بتعديلاتٍ كثيرة منذ عام 2002، وحتى عام 2013 (ص 31-34). أمّا في فترة ولاية دونالد ترامب (2017-2021)، فقد شرع الرئيس الأميركي بوقف تمويل وكالة الأمم المتحدّة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "UNRWA"، أي وقف الاعتراف بقضية اللاجئين الفلسطينيين،  وتنفيذ مشروع قرار نقل السفارة الأميركيّة من تل أبيب إلى القدس بتاريخ 6 كانون الأول/ديسمبر 2017، بالإضافةِ إلى طرد بعثة منظّمة التحرير الفلسطينيّة من واشنطن، وصولًا إلى إعلان أنّ المستوطنات الإسرائيليّة في الضفة الغربيّة لا تُمثِّل انتهاكًا للقانون الدوليّ، وكانت الأربع خطوات بمثابة إعلان الانسحاب الأميركي من تسوية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وكان بمثابة الإعلان الرسمي لإلغاء اتفاقيّة أوسلو (ص 36-40، 44)، حتّى مبادرة السّلام الأخيرة برعاية يمينيّة- صهيونيّة- توراتيّة.

مع فوز جو بايدن بالانتخابات الرئاسية الأميركيّة، أعلن عن سلسلة من القرارات التي سيتراجع عنها بهدف إعادة العلاقات مع الفلسطينيين، بدأت بدعم الاقتصاد الفلسطيني بـ75 مليون دولار من أجل استعادة الثقة التي تراجعت في عهد ترامب، وإعادة 318 مليون دولار لخزينة الأونروا لتشغل اللاجئين ضمن اتّفاق سُمِّي "إطار التعاون"، وباشرت الإدارة الأميركيّة بإدانة عنف المستوطنين تجاه الفلسطينيين، بالإضافةِ إلى تأكيد بايدن التزام الولايات المتّحدة بحل الدولتين، واستئناف المساعدات للسلطة الفلسطينيّة، من ضمنها إعادة فتح القنصليّة الأميركيّة في القدس الشرقيّة، ولكن رفضت إسرائيل ذلك، وبالتّالي لم تمض الإدارة الأميركيّة برئاسة بايدن إلى اللحظة باقتراح مبادرة سلام جديدة، فقد ظلّ بايدن مهتمًا بالقضايا ذاتها التي أشغلت باراك أوباما فترة ولايته، حيث أن جلّ الاهتمام منصب حول الاتفاق النووي الإيراني، والمشاكل المتعلِّقة بالطّاقة والبترول، بالإضافةِ إلى الصّراع الروسي- الأوكراني وانشغال الولايات المتّحدة بمنطقة الاتّحاد الأوروبي وبحر قزوين. وفي نفس السياق، كأنّما نعيش فترة ولاية أوباما، علّق جو بايدن آماله على اتفاقيات تطبيع الدول العربيّة مع إسرائيل بحجّة حل القضايا الفلسطينيّة العالقة مع الإسرائيليين، ولم تُقدِم أميركا أو القوى الإقليميّة الأخرى في مسار المفاوضات أيّ شيء، بل اقتصر الأمر على التنسيق مع مصر من أجل وقف الحرب على قطاع غزّة في مايو/ أيار 2021، بدون النظر في عمليّة السّلام بصورةٍ أشمل. لذلك، انشغال الإدارة الأميركيّة في قضايا المنطقة المتعلِّقة بإيران واليمن وسورية والعراق والسعوديّة وتركيا، بالإضافة إلى الانسحاب من أفغانستان، والأزمة الروسية- الأوكرانيّة، جعل من القضيّة الفلسطينيّة هامشًا في سلّم أولويات أميركا، وهذا ما ظهر جليًا في عدم تعيين مبعوث لعمليّة السّلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مقارنةً بالإدارات الديمقراطيّة السابقة لأميركا.





ما العمل؟

اعتبر بشارة أنّ "اتفاقيّة أوسلو" عبارة عن فخ وقعت فيها القيادة الفلسطينيّة بعد الانتفاضة، خاصّةً اعتمادها كاستراتيجيّة أولى للوصول إلى الدولة الفلسطينيّة، ولكن كل ما فعلته هو تحويل منظّمة التحرير إلى أداة، وتحويل الصراع من تحرير فلسطين إلى صراعٍ على السّلطة دون دولة، وساهم هذا التحوّل في خسارة رمزيّة منظّمة التحرير كحركة تحرّر لدول العالم الثالث، وبالتّالي التأثير على حركة التضامن العالميّة والعمل السياسي الفلسطيني، الذي أصبح محوْره النزاع على السلطة، والتضامن مع قطاع غزّة، كمنطقة تحت الحصار.
من ناحية أخرى يرى بشارة أنّ الاعتماد على الأصوات العربيّة في الكنيست الإسرائيلي هو رهانٌ فاشلٌ، لأنّ دولة الاحتلال مبنيّة على صهيونيّة إسرائيل، ويعمل على "أسْرلة" مشوّهة لعرب الداخل المحتل ليتماهوا مع يهوديّة الدّولة، وفي حال قام الرئيس عبّاس بالإعلان عن حلِّ السّلطة، فهذا لن يشكِّل مشكلة حقيقية لإسرائيل، لوجود رجال الأمن، والذين بدوْرِهم سيستلمون السّلطة بدلًا عنه، وعليه يُطالبُ بإعادة تعريف السُّلطة وتحديدِ دورِها، فبدلًا من حلِّ السُّلطة الفلسطينيّة، التوجّه إلى إعادة تعريفها وتحديد دورِها، بأنْ تبقى بمثابة "بلديّة" تُدير شؤون السكان فقط، معتبرًا أنّ الشعب لا يمكنه الصمود والتطوّر في غياب الهيئات والمؤسسات التي تُدير المجتمع الفلسطيني، لكن هذه المؤسسات تبقى في منطقة "سلطة محليّة"، وإعادة إحياء منظّمة التحرير الفلسطينيّة، مناديًا بالالتفاتِ للشباب الفلسطيني الجاهزين للالتحاق بمشوارٍ طويل من العمل النضالي، بالإضافةِ إلى تبنيّه مُسمَّى "قضية استعماريّة"، وإعادة القضيّة إلى مربّعها الأول عام 1948، وهي قضيّة العرب بوصفهِم أُمّة (ص 102-108).

أمّا على صعيد الكفاح المسلّح فإنّ الكاتب لا يرى فيه أمرًا ممكنًا، لأنّه استراتيجيّة قديمة بواقعٍ عربي جديد مناقض تمامًا للقرن الماضي، ويستدِل بذلك على عودة العمل المسلّح "العفوي" في انتفاضة الأقصى عام 2000 والتي لم تُفض صوب إنجازاتٍ سياسيّة، لكنّ الفصائل العسكريّة في غزّة ولبنان صرّحت أنّها لا ترد سوى على الاعتداءات الإسرائيليّة، وبالتّالي اعتبرها بشارة حالة دفاعيّة منظّمة، ويرى بأنّها إنجاز مؤسسي في قطاع غزّة، لكنّها ليست استراتيجيّة تحرّر، وإن كان الكفاح المسلّح حقق أهدافًا على مستوى الكيانيّة الفلسطينيّة، وبلورة الهويّة الكفاحيّة الفلسطينيّة، لكنّه لم يحرر فلسطين. واعتبر بأنّ أوسلو لم يكن الإخفاق الوحيد فقط، بل أيضًا الطريق الذي أوصَل إلى أوسلو.

كما لا يُمكِن أنْ تتحرّر إنْ لم تكُن مناهضًا للاستبداد. هذه هي رؤية بشارة في النضال، وهو يعتبر أنّ المناضل الحقيقي للتحرّر هو الذي يكترث بالعنصريّة والاحتلال لأراضٍ عربيّة، بالإضافةِ للمبالاة بمعاناةِ شعبٍ عربيّ يعيش تحت الاستبداد، ويُشير إلى أنّ تطبيع الأنظمة العربية مع الاحتلال، لا يساهم في حل المشكلات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وإنّما يعزِّز من الدكتاتوريّة والاستبداد، وعليه يعتبر أنّ أي حركة تحرر وطني فلسطيني يجب أن تتماشى مع التيار الديمقراطي في الإقليم، معتبرًا دون مساواة أن نظام الفصل العنصري في فلسطين قريب من قضيّة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، كوْن هذين النضالين ديمقراطيين. ويشدِّد بشارة على أهمية اجتماع الفلسطينيين على اختلاف أماكن تواجدهم، من أجلِ مواجهة إسرائيل دون تجزئة قضاياهم، باعتبارِ أنّهم يعيشون في ظلِّ منظومة احتلاليّة واحدة، ليست متعدِّدة، وهذا الإجماع الفلسطيني يجب أن يكون بعيدًا عن أجندات تتبع الولاء لفصيلٍ معيّن، أو سلطةٍ محدّدة، وعليه يجب أنْ يكون هنالِك تنظيم سياسي، ببرامجٍ عمليّة، تساهم في المواجهة، بعيدًا عن "صنميّة الدّولة" منذ تسعينيّات القرن الماضي (ص 109-110).

يطرحْ بشارة تساؤل "هل يعني ذلك حل الدولة الواحدة؟". وبعد سردهِ للنضال الوطني الفلسطيني الديمقراطي، يرى أنّ الشعب الفلسطيني ليس منخرطًا في مفاوضاتٍ لحل معضلةٍ، وإنّما في نضالٍ طويل الأمد من أجل تحقيق العدالة، والنضال ليس بالطّرح، وإنّما برفض الأبارتهايد. واعتبر أنّ من يُنادي بحلِّ الدّولة الواحدة من المثقّفين لا يتمتعون برؤيةٍ كاملة لصهيونيّة الدولة، لأنّ إسرائيل التي رفضت حل الدولتين، لن ترضى بدولةٍ واحدة تفقد فيها امتيازاتها كدولةٍ يهوديّة.
ويوضِّح بشارة أن مكامن القوّة هي في وجود الشعب الفلسطيني على أرضهِ، وبنائه للمؤسسات في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، باعتبارهِا تنظيمًا للشعب الفلسطيني، من أجل تعزيزِ صمودهِ، ولم يقتصر على هذا فحسب، بل أشار إلى أهميّة انخراط اليهود أنفسهم في عمليّة تفكيك البنية الصهيونيّة، لأنّ ذلك لا يمكن أن يتحقّق بقوّة السّلاح في الوضع العربي الرّاهن، بالإضافةِ إلى بدء صعود أجيالٍ جديدة ليست مؤدلَجة تتسم بالأخلاقيّة تجاه القضايا العالميّة، وتجابه الشعبويّة اليمينيّة، كوْنِها تخلِق أزمات في تكامل المجتمع الدولي (ص 115-121).

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.