رغم ظهور المُناضل الشيوعي المصري آلبير آريه في أكثر من فيلم وثائقي مصري أو أجنبي تمحور، كليًا أو جزئيًا، حول حياة اليهود في مصر أو حول تاريخ الحركة الشيوعية المصرية، إلا أن مُذكرات ألبير آريه الورقية، "مُذكرات يهودي مصري"، الصادرة عن دار الشروق المصرية هذا العام 2023، في 400 صفحة من القطع الكبير، أكثر جاذبية وحميمية وتشويقًا وإثارة وإمتاعًا، رغم ضخامة الكتاب، وذلك لعدة أسباب، أولها أن المُذكرات تشتمل على معلومات تفصيلية كثيرة بالغة الاستفاضة، بعضها لم يُنشر من قبل، تُفنِّد وتنقد وتنقض الكثير من الأكاذيب والمُغالطات والمُبالغات التي انتشرت وراجت، على مدى عقود، عن يهود مصر، ومُعاملة الدولة المصرية لهم. تتسم المعلومات والوقائع الواردة في المذكرات، إجمالًا، بالتدفق والانسياب والتذكر الدقيق للأحداث والأسماء والتواريخ والأماكن. وتتوفر على سرد مشهدي تصويري سينمائي جعلها نابضة بالحياة والإثارة والتشويق. ما يدل على تمتع صاحبها بذاكرة حديدية، وموهبة أرشيفية بارعة، ومهارة سردية مُنظمة للغاية. صحيح أن المُذكرات جرى تفريغها صوتيًا، ثم إعدادها وتحريرها ومُراجعتها، ورغم براعة التحرير والصياغة والمراجعة، إلا أن بصمة ألبير واضحة بجلاء في سرد تفاصيل الأحداث والوقائع، وإبداء الآراء والتعليقات، وأحيانًا، بث روح الفكاهة والسخرية أو المرارة أو الجدية. ورغم أن المُذكرات لم تسلم، هنا أو هناك، من بعض التكرارات البسيطة، فيما يخص بعض الذكريات أو الأحداث، إلا أن ألبير كان يُضيف الجديد في كل مرة، ويعمل على ربط ما يُكرره بما يشرحه أو سيشرحه لاحقًا.
المُدهش فعلًا في كتاب "ألبير آريه: مُذكرات يهودي مصري" أنه ليس مُملًا أبدًا. الكتاب شيق للغاية، رغم سرده لوقائع سياسية بالأساس. ربما لأنه في كل صفحة تقريبًا، دون مُبالغة، ثمة معلومة جديدة مُشوقة تظهر، أو اكتشاف لشخصية محورية ولدورها التاريخي، أو لأحداث ووقائع لافتة لم يتوقف عندها المرء من قبل. لكن أهم ما يدفع القارئ دفعًا لمواصلة القراءة ابتعاد المُذكرات كل البعد عن الادعاء أو التقعر أو الفوقية أو الاستعلائية أو الخطابية أو البيداجوجية، أو الغرق في مُصطلحات السياسة، والاستعراض التاريخي الجاف للأحداث، أو الإتيان على ذكر المؤامرات والدسائس. من هنا، يخلو الكتاب تمامًا من الأنا أو الذاتية أو التفاخر. وأيضًا، ادعاء صاحبه بمعرفة كل شيء، والانحياز لآرائه الذاتية. أمور أظنها نابعة من ثقافة عريضة، واطلاع موسوعي، وخصوبة وتنوع تجربة، جعلت صاحبها على هذا القدر من الجاذبية والوضوح والتسامح، والاتساق مع النفس، والتصالح مع الحياة. وهذه النقاط جد نادرة في مُذكرات كثيرة لسياسيين أو زعماء أو مُناضلين.
أهمية المُذكرات
وُلِد ألبير آريه في عهد الملك فؤاد، وحضر عصر الملك فاروق بأكمله، وعاصر ثورة يوليو بداية من محمد نجيب، مرورًا بعبد الناصر والسادات ومبارك، وما بعد ثورة 25 يناير. من هنا، كانت شهادته واطلاعه ومُشاركته في قضايا جوهرية وملفات مُهمة، منها تحولات الحركة الشيوعيّة المصرية، وأحوال السجون المصرية التي قضى فيها أحد عشر عامًا. صحيح أن حياة ألبير النضالية تتشابه وحياة العديد من رموز الحركة الوطنية المصرية الذين سُجن معهم، مثل، صلاح حافظ، وشريف حتاتة، ورفعت السعيد، وغيرهم. وصحيح أن قصة هذا الجيل ونضالاته وانتصاراته الصغيرة أو الكبيرة، وانكساراته أو حتى نكباته وانشقاقاته وانقساماته، الصغرى أو الكبرى، معروفة للكثيرين، لكن ليس بصورة شاملة. من هنا، تأتي المُذكرات لتضيف إلى الأجزاء الناقصة أو لتُكمل مُكونات جدارية مصرية ينقصها الكثير من الشهادات المُماثلة لتكتمل. أيضًا، كونه يهوديًا أضفى بعدًا آخر على طبيعة المُذكرات، ورؤيته العامة لما عاصره، وحتى طريقة مُعاملته كيهودي من جانب الجميع. وهو ما يتعين التوقف عنده طويلُا بين سطور المُذكرات. ومع ذلك، فإن التركيز والتوقف مليًا عند يهودية ألبير آريه غير أساسي، إجمالُا، لأنه مارس النضال الوطني والحياة السياسية والعامة باعتباره مصريًا. فهو لم يختر أسرته أو ديانته أو محل ميلاده، إلا أنه اختار مصريّته، وأصر على التمسك بها في أحلك الأوقات.
حياة علمانية
يبدأ الكتاب، المُكون من 4 أجزاء، ويضم 17 فصلًا ومئات العناوين الجانبية، بالجزء الأول ويتحدث فيه ألبير آريّه (أو، تي تي، وفقًا لاسم التدليل) عن نشأته والتي، وإن لم يكن واعيًا لها بشكل كامل، إلا أنه تناولها بشكل لافت جدًا. أين وُلِدَ، وطبيعة تكوين عائلته، ومن أين جاءت؟ وكيف بحث، لاحقًا، عن جذور أجداده لأبيه ولم يعثر لهم على أثر في تركيا. بخلاف عائلة أمه، المُنحدرة من جذور روسية، عاشت في تركيا، أيضًا، قبل القدوم إلى مصر. ثم ينتقل إلى طفولته المُبكرة، ويمر سريعًا على سنوات الصِبا، وذكرياته مع الحرب العالمية الثانية، وأخيرًا رحلاته خارج مصر، إلى فلسطين وفرنسا.
نعرف أيضًا كيف بدأ شغفه بالقراءة وهو في العاشرة من عمره، وادخاره لمصروفه لشراء الكتب، وحرصه البالغ على الحفاظ على رونقها. وأن تعليمه كان علمانيًا تمامًا، وكذلك حياته الخاصة. وأن الطقوس الدينية فيها كانت شبه مُنعدمة، إلا في الاحتفالات الدينية، ويكون الاحتفال قاصرًا على تناول الأطعمة، مثلًا. تلك الحياة العلمانية أذابت الفروق الدينية بين المُنتمين للحركة الشيوعية في مصر، لاحقًا. فلم يكن الدين شيئًا أساسيًا في التعامل، بل إن بعضهم لم يعرف دين الآخرين إلا بالصدفة. تظهر تلك العلمانية فيما رواه عن أنه لم يدخل المعبد اليهودي، بسبب أن والدته وهو طفل رفضت أن تتركه بمفرده في مكان الذكور وتذهب هي لمكان النساء، قائلة: "إن المكان الذي لا تستطيع أن تدخله مع ابنها لن تدخله"، لذلك لم تطأ قدماه يومًا ذلك المكان الديني.
كذبة إسرائيل
بجانب هذه النقطة، البالغة الأهمية في التعريف بشخصية ألبير وتكوينه العلماني، نتعرف أيضًا على جانب بالغ الأهمية، أثرَّ بشدة على تكوينه السياسي، الذي تشكل مُبكرًا، بعد رحلتين قام بهما إلى فلسطين. كانت الرحلة الأولى في تمّوز/ يوليو 1944، عندما قرّرت عائلته السفر إلى فلسطين، وكانت وقتها تحت الاستعمار الإنكليزي الذي يشترط الحصول على تأشيرة من القنصلية. كان السفر من مطار ألماظة بطائرة صغيرة إلى مطار اللد، ومنه بسيارة أجرة إلى مدينة القدس. وكيف تعرَّفَ في الأيّام التالية، عبر جولة سياحية، على فلسطين. كانت الأخبار عن عمليات الاستيطان والحركة الصهيونية، والصراعات الموجودة بين اليهود العرب والإنكليز المُحتلّين للبلاد، قد وصلت إلى يهود مصر الذين سمعوا عن العمل الزراعي المُتطوّر عند اليهود في "كيبوتساتهم" (المُستوطنات). ورغم جوّ الإرهاب المُنتشر، يقول ألبير إنّه لم يشعر في القدس بالعداء بين اليهود والعرب. إذ كان أساسًا بين الإنكليز والتنظيمات الصهيونيّة الإرهابيّة، مثل: عصابة "شتيرن" وعصابة "الأرجون". يصف ألبير كيف رأى المُجتمع اليهودي في تلك الفترة. وكيف كان الانقسام بين مُؤيد ومُعارض لنشاط العصابات الصهيونيّة ضدّ الإنكليز. وكيف كانت القوّات الإنكليزيّة تنشر صورًا للمطلوبين منهم في الشوارع، وسماعه عن الإعدامات التي نفّذها الإنكليز في حقهم. ورغم أجواء الخوف والاغتيالات تلك، لم يحل هذا دون زيارته للقدس، والتنقّل بين الأحياء العربية والمدينة القديمة دون مشاكل. وكيف لاحظ الكثير من المثقفين اليهود الألمان الذين فرُّوا من النازية، ورآهم غير مُؤهلين للانسجام في المجتمع. كما زار الجامعة العبرية، ومُستشفى القدس "هداسا"، حيث وجَد مصريين ومُسلمين يُعالجون فيها. زيارة استغرقت نحو شهر، مُرورًا بمستوطنة "نهاريا"، وكان أهلها لا يتحدثون إلا الألمانية كما قال. ثم إلى حيفا والقدس، وأخيرًا تل أبيب، وكانت وقتها صغيرة لا يُسكنها إلا اليهود فقط. وكان العرب في يافا، بعكس حيفا التي يُوجد فيها يهود وعرب وإنكليز.
انضمّ ألبير إلى جماعة يهودية لمُكافحة الصهيونية في القاهرة، تشكّلت عام 1947، وعُرفت باسم "رابطة مُكافحة الصهيونية" |
رحلة فتحت وعي ألبير على مدارك أخرى كثيرة. لذا، رغب في تكرارها ثانية، لكن بمفرده، فسافر ألبير صحبة صديقه اليهودي النمساوي الأصل هانز بينكاسفلد إلى فلسطين بهدف زيارة المُستوطنات، والتعرّف على ما يفعله اليهود في "الكيبوتس". كانت تجربة فريدة من نوعها بالنسبة له. عام 1945، ركب القطار الذي كان ينطلق من محطة مصر إلى القدس في اثنتي عشرة ساعة. ويقف خلالها في القنطرة، لأنها منطقة حدود تحت الحكم الإنكليزي. وتعين إقناع الحرس أن الغرض من السفر هو السياحة، إذ كان الإنكليز وقتها يشدّدون الإجراءات لعدم رغبتهم في استقبال مُهاجرين يهود جدد. توقف القطار في العريش ثم غزة. وعند وصولهما إلى اللد بدَّلا القطار وركبا قطار حيفا.
يُقدّم ألبير شهادة عن الحياة داخل المستوطنات الزراعية "الكيبوتسات"، ولماذا لم تعجبه بالمرة. ولم تعجب حتى المتحمّسين للصهيونية، القادمين من القاهرة والإسكندرية للعيش فيها. أخذ ألبير موقفًا من الصهيونية في هذه الرحلة. تأكد له وتيقن أن "إسرائيل" عبارة عن مُغتصب للأرض بغرض فرض نظام عسكري. وتبين له زيف الادعاء اليهودي في مصر أن الحركة الصهيونية ليست حركة عدوانية ضد العرب. تأكد له هذا بعدما اكتشف التدرب على فنون القتال اليدوي والضربات المُميتة هناك في الكيبوتس. وكيف كان المدرب الذي يُدربه يقول له: "لو هجم عليك عربي تقوم بعمل هذه الحركة".
طيلة حياتية، تبنَّى ألبير موقفًا واضحًا ضد الصهيونية. مثلًا؛ تولّى مرّة مَهمّة الرد على مشروع يُطالب بتأييد الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين، كان قد تقدّم به المندوب الصهيوني، ويدعى جيرشون، لأحد مؤتمرات اتحاد الطلبة في فرنسا. كذلك، انضمّ ألبير إلى جماعة يهودية لمُكافحة الصهيونية في القاهرة، تشكّلت عام 1947، وعُرفت باسم "رابطة مُكافحة الصهيونية"، بمبادرة من مُنظمة "إيسكرا" الشيوعية المصرية، لكن الحكومة المصرية تدّخلت بعد ذلك ومنعت نشاط الرابطة. إضافة إلى مشاركته، لاحقًا، في "المجلس القومي للسلام" بعد هزيمة عام 1967. إذ استعان به رفعت السعيد، أحد أبرز السياسيين اليساريين في مصر، لكسر الحصار الإعلامي والردّ على الرواية الإسرائيلية، إذ التقى ألبير مع الأجانب من صحافيين وسياسيين لإقناعهم بخطر "إسرائيل".
الشيوعي التلميذ
يستكمل ألبير في الجزء الثاني ما تحدث عنه في نهاية الجزء الأول. كيف بدأ كطالب في مرحلة الدراسة الثانوية في التعرف على الشيوعية، والانخراط في اجتماعاتها وأنشطتها وتوزيع الكتيبات والمنشورات، وتأثير هذا على دراسته؟ أيضًا، ردود أفعال والديه على سلوكه هذا، خاصة والدته. يحمل هذا الجزء عنوان "صرت شيوعيًا"، ويُغطي الفترة من 1946 – 1953، ويسترسل فيه عن حياته الجامعية كطالب في كلية الآداب قسم فرنسي، وكذلك كلية الحقوق الفرنسية. وعن مصر، اجتماعيًا وسياسيًا، في تلك الفترة. وتقسيم فلسطين. والانتقال إلى العمل السري، والحصول على مطبعة لطبع المنشورات، وكيفية إخفاء الأمر عن العيون. ثم، الحديث عن حزب الوفد والضباط الأحرار، وقبلها إلغاء معاهدة 1936، وحريق القاهرة. كما يُسهب في الحديث عن والده وتجارته، والعمل معه في التجارة، إلى جانب مُمارسة العمل السياسي، والسفر، وتوسيع شبكة علاقته واتصالاته وصداقاته، إلى أن ينتهي بالفصل السابع الذي يحمل عنوان "استيقظنا على 23 يوليو 1952". ويرصد ردود الأفعال، خاصة بين الأجانب المصريين، والعلاقة بين مجلس قيادة الثورة والشيوعيين. ويعود إلى كيفية إخفاء آلة الطباعة أو المطبعة، وتوقف طبع المنشورات، إلى أن يحدث الصدام. إذ جرى القبض على الشيوعيين، ومنهم ألبير، الذي قُبض عليه في منزله، وكانت في سيارته منشورات لم تُوزع.
يهود وفلسطينيون وإخوان
يبدأ الجزء الثالث، وهو الأكبر، "أحد عشر عامًا في السجون المصرية" (1953 - 1964)، بفصل عن السجن الحربي والتحقيقات، ثم مُحاكمات ألبير وغيره ممن قُبض عليهم، والتي استمرت لشهر أو أكثر، حتى صدور الأحكام النهائية على الجميع، ومنها سجنه لـ8 سنوات أشغال شاقة. ثم يتناول فترة قضاء الحبس في سجون مصر المُختلفة، بين سجن مصر (قره ميدان)، وليمان طرة، والواحات، ثم العودة إلى سجن مصر. ثم، سجن الواحات الجديد. وأخيرًا، الإفراج عنه.
من بين الأمور المُشوقة في هذا الجزء تعرفه في السجن على أعضاء "خلية لافون". تلك الخلية اليهودية المُكلّفة إسرائيليًا بتفجير أهداف مصرية وأميركية وبريطانية في مصر، وذلك في صيف عام 1954. إلا أنّها اكتشفت على يد السلطات المصرية قبل وقوعها، وسُميت باسم "فضيحة لافون"، نسبة إلى وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك بنحاس لافون. يحكي ألبير عن المقبوض عليهم، وتفاصيل الاحتكاك بهم، وتعامله وغيره معهم، سواء من الإخوان المُسلمين أو الشيوعيين. وكيف أن الإخوان لم تكن لديهم عقدة من اليهود. والفلسطينيون يدافعون عن زميلهم المُعتقل الصهيوني بسبب التعذيب الذي يتعرض له. يقول ألبير: "كان الموقف داخل الليمان مُضحكًا وغير مفهوم".
صحيح أن الأحكام الصادرة ضد ألبير كانت 8 سنوات، إلا أن فترة سجنه امتدات إلى 11 سنة. 3 سنوات إضافية دفعها ألبير من عمره نتيجة إصراره وتصميمه على عدم التخلي عن جنسيته المصرية، والسفر أو الترحيل خارج البلاد. ألبير الذي رفض الهجرة إلى إسرائيل، مرارًا، رفض أيضًا الضغط عليه للسفر خارج مصر عام 1961، عندما أخبره رجال الأمن صراحة: "طردنا هنري كورييل، ومن السهل طردك مثله". أخذ ألبير بالصراخ قائلًا: "لن أسافر". وقال لرئيس مكتب الأمن: "أنا مصري، ولا أقبل أن يُشكك أحد في مصريتي". لذا، لم تمنحه الحكومة المصرية جواز سفر مصري إلا عام 1968، بعدما قرر الاستعانة بخالد محيي الدين، عضو مجلس قيادة الثورة، الذي قابل شعراوي جمعة وزير الداخلية وقتها، وقال له صراحة: "إنه يُحب مصر أكثر مني". المُلاحظ على امتداد صفحات الكتاب، أن ألبير لا يذكر كلمة ندم واحدة إزاء ما تعرض له من سجن لأحد عشر عامًا، منها 3 سنوات إضافية لتمسكه بمصريته. بل اعتبرها أجمل أيام حياته. إذ التقى آنذاك، على حد قوله، بكل أطياف المُجتمع، من مُجرمين وسياسيين وأفراد عاديين، مُتهمين في جرائم بسيطة، بالإضافة إلى الضُباط والسجَّانة وغيرهم. هؤلاء، وصفهم ألبير ووصف حياتهم داخل السجن في لوحة شديدة الدقة والعمق والتشويق، أضافت الكثير والجديد عن حياة السجون المصرية. وتُعتبر، أيضًا، مرآة صادقة للمُجتمع المصري خارج السجن، في تلك الفترة.
في الجزء الرابع "بداية جديدة" يتحدث ألبير عن خروجه من السجن، وتنشقه لنسمات الحرية، والتعرف على ما جرى في البلاد، وحتى تبدل الأزياء أو المُوضة والحياة، وبداية مُمارسته لحياته بشكل طبيعي. خاصة بعد العفو العام عنه، والتوقف عن مُراقبته. فترة جد ثرية، مشحونة بمرض ثم هجرة والدته إلى فرنسا، بعد وفاة والده أثناء سجنه. شهدت أيضًا إشهار إسلامه سنة 1966 ليُمكنه الزواج بالسيدة سهير شفيق. واللافت أن كثرًا لم يلقوا بالًا لإسلامه، وظل الجميع يذكرونه باليهودي المصري. ورغم تغيير اسمه في الأوراق الرسمية، (لم يُذكر الاسم الرسمي في الكتاب، ولو لمرة)، إلا أنه ظل يُعرف باسم ألبير.
تحدث ألبير أيضًا عن وقوع نكسة يونيو 1967، وتبدل أحوال يهود مصر وطريقة مُعاملتهم بعد النكسة. ثم وفاة عبد الناصر، ومجيء السادات رئيسًا، وحرب 6 أكتوبر، ثم اغتيال السادات، وبداية عصر مبارك. وطبعًا تناول تبدل الأجواء السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر، وإعادة تأسيس الحزب الشيوعي، والصلح مع إسرائيل، وغيرها. على المُستوى الشخصي، تناول ألبير إخفاق ونجاح مشروعاته كرجل أعمال حُر، يُعتبر من رواد من عملوا في مجال التصدير والاستيراد، ليختتم مُذكراته بالحديث عن أصدقاء العُمر ورحلة الكفاح، وأيضًا شهرته كـ"يهودي مصري". لتنتهي مُذكرات أحد أهم العاملين والمُهتمين بالحركات اليسارية في مصر، وبالتراث المصري واليهودي، وآخر المناضلين الشيوعيين في مصر من حركة "حدتو"، وأكبر سُكان القاهرة من اليهود سنًا، والذاكرة الحية للحركات الشيوعية على مدى عقود.
آراء ووجهات نظر
في أجزاء بالمُذكرات، قد يتوقف القارئ أمام وجهات نظر أو آراء قد تكون مُغايرة، أو حتى صادمة للبعض. لكنها، في النهاية، نتيجة لخبرات سياسية وحياتية وثقافة رفيعة، جعلت ألبير يقرأ الأحداث من منظور مُختلف وصادق. قراءة تجلت في مواقف كثيرة، سياسية وحياتية وعملية، لم يكن ألبير فيها على خطأ كبير. منها، موقفه أو رأيه المُتعلق باتفاقية كامب ديفيد، وبإسرائيل. وعدم حبه للسادات لتغليبه مصلحة إسرائيل على مصلحة مصر فى تلك المُعاهدة التي كسرت الوحدة العربية. رغم أنه، من ناحية ثانية، لم يكن مع "المُقاطعة التامة" لكل ما هو إسرائيلي. يقول: "عاجلًا أو آجلًا كنا سنتصالح، ولكن ليس من المعقول أبدا أن نضحي بالفلسطينيين، فالدولة الفلسطينية موجودة غصبًا عن أى شخص، والعصابة التي تحكم إسرائيل لن تستطيع هضم حقوق الفلسطينيين إلا لو سمحنا لهم". أيضًا، وبرغم سجنه في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، إلا أن ألبير أريّه كان يُؤكد على أن لعبد الناصر إيجابيات كبيرة، حيث نجح في نقل مصر إلى مرحلة الاستقلال الوطني، رغم وجود سلبيات في حكمه. كذلك، رأيه فيما يتعلق بثورة يناير المصرية، ووصفه "برأي قد يُغضب البعض". رأي ينطوي، في النهاية، على وجهة نظر جديرة بالتأمل والاحترام.