}
عروض

"ملجأ الكلب السعيد": في مقصد الكاتب وفي معنى النص

إبراهيم طه

5 ديسمبر 2023

 

برولوج

سألتُ أحد الأدباء مرّة عن مقصده في عمل له، فقال لي غيرَ مازح: "اكتبْ حتى تُفهّمني أنت ما كتبتُه أنا". ما أعلمه علم يقين، لا علم ظنّ، أنّ رواية الكاتب الفلسطيني سهيل كيوان "ملجأ الكلب السعيد" (مكتبة كل شيء- حيفا، 2023) قد ضغطت بشدّة وبحدّة على نفسي فاستنزفت طاقتي وأربكتني لأيام ورفعت ضغطي... نحن نفرّق عادة بين المقاصد والمعاني والدلالات. المقصد عند الكاتب والمعنى في النصّ والدلالة عند القارئ. وجمعها في حالة واحدة لا يتأدّى إلا بقوّة الظنّ والتخمين. لا علم لي بمقاصد سهيل كيوان. لكنّي اجتهدت في التنقيب عن معاني النصّ في مادّة النصّ ومبناه. ولا علم لي إن كنت أصبت أو انحرفت أو بالغت في معانٍ أو دلالات.

المادّة والمبنى

سيرورة القراءة من الحكاية إلى الحبكة، ومنها إلى المبنى، ومنه إلى المعنى، ومن المعنى إلى الدلالة. وحتى نجعل من المبنى نقطة انطلاق نحو المعنى لا بدّ من آليّة إجرائيّة. وهي النظر إلى المبنى بوصفه منظومة علاماتيّة. إذا تعذّر الأمر انفرط مفهوم التأويل وصار فهم الرواية فعلًا فوضويًّا تحكمه العفويّة. أنا أقرأ الأدب لغايتين اثنتين قد تلتقيان وقد تنفصلان: المتعة والفهم. أصرّ عليهما كليهما حتى يصير النصّ عملًا أدبيًّا، وإلّا فهو عمل فِجّ. والمتعة قد تكون في القراءة مثلما تكون في التأويل.

الرواية في مستواها القرائيّ ظريفة ممتعة حيّة حيويّة في غرابتها مشوّقة. مادّتها الحكائيّة الأولى تبدو "مبتذلة"، بسيطة، يوميّة، عاديّة، مألوفة. مادّة الحكاية في الرواية من ناس وكلاب، أو من كلاب وناس. ناس مثلنا من أهل الكرمة (مجد الكروم) ومن خلّة الخرّوب ومن مدينة الله (كرميئيل)، التي ابتلعت ما حولها، ومن روسيا على وجه العموم. مادّة الحكاية في ثلاث أُسر عربيّة كبرى ورابعها كلبة وأسرتها. ثلاث أُسر آدميّة من قرية الكرمة وخلّة الخرّوب: أُسرة الراوي نجم وزوجته رندا، أُسرة الأستاذ جاد الله عيسى وذريّة حسن الساعدي من ولديه محمود ويوسف. وأُسرة واحدة من الكلاب عمادها الكلبة الأمّ "كليلة" (فورتونا سابقًا ولاحقًا). ثلاث أُسر تشعّبت وامتدّت، يتّصل بعضها ببعض بجملة من العلاقات المركّبة. وبعضها يتّصل بعلاقات عمل ونسب وعلاقات اجتماعيّة وشخصيّة مع عائلات روسيّة في روسيا ومن الروس الوافدين الجدد. وكلّ الأُسر على الإطلاق تربطها، بصفة أو بأخرى، علاقاتٌ مع كلاب من نسل كليلة ونسل غيرها. وهكذا تقطّعت أُسرة كليلة هي الأخرى وتوزّعت. تمتدّ أحداث الرواية على خمسة أشهر أو يزيد قليلًا، تحيطها في خلفيّتها حرب من حروب إسرائيل على لبنان... هذه هي مادّة الحكاية ماتعة وهي في قراءتها مشوّقة وممتعة.  

أمّا المبنى فتحصّله حبكة ذكيّة بثلاث آليّات مركزيّة. كلّها تُبرز قيمة الكلاب على مستوى المبنى والمعنى وتعظم شأنها: (1) التدوير (2) الفصل والوصل (3) تنازع الواقعيّ والرمزيّ... من أدوات تأسيس الحبكة الإقفال الدائريّ. أعني أنّ الرواية تبدأ بالحديث عن كلب في عنوان صريح صارخ وعن كلبة بعينها في الفصول الاستهلاليّة ثمّ تُقفل الدائرة في النهاية بالحديث عن الكلبة نفسها. البدء بمعطى نصّيّ والعودة إليه في النهاية يجعل المبنى دائريًّا ويمنح القارئ إحساسًا بإقفال واختتام. التدوير آليّة حبك ونسج. ردّ النهاية إلى البداية هو من أبرز آليّات التقديم والتأكيد. إذا كانت الكلاب تحظى بالتصدير والتذييل، علاوة على حضورها اللافت على امتداد النصّ كلّه، فلأنّ سهيل كيوان يصرّ على أن يبقيها حيّة في أذهاننا وذاكرتنا عند الدخول إلى النصّ وعند الخروج منه. وهو لا يفعل ذلك إلا لقيمتها وأهميّتها القصوى للتأويل. والآليّة الثانية الفصل والوصل. في الرواية فصل ووصل بين فورتونا وإيلي. وفيها وصل وفصل بين كليلة ونجم. ينفصل إيلي عن كلبته الحامل فورتونا، يتركها لمصيرها بالقرب من قرية الكرمة ويهرب جنوبًا من الحرب في الشمال. يلتقطها نجم يتّحد بها، يرعاها ويرعى جراءها الستّة. يوفّر لها كلّ أسباب الحماية والرعاية من مسكن ومأكل ومشرب. ويمنحها اسم "كليلة" اسمًا حاضرًا بقوّة في الذاكرة الأدبيّة العربيّة.  وفي نهاية الرواية تنفصل الكلبة عن نجم لتقرّر بنفسها العودة إلى إيلي صاحبها الذي تركها قبل ما يزيد عن خمسة أشهر. هكذا قامت الحبكة على آليّتي الفصل والوصل بين الشخصيّات الآدميّة والكلبيّة لتؤكّد قيمة الكلاب بالتوازي مع قيمة الناس. ولمّا كانت هذه أقوى آليّات الحبكة فلا بدّ إذًا أن تكون منطلقًا لتحديد المعنى. أمّا الآليّة الثالثة فهي توتّرات الواقعيّ والرمزيّ. في الرواية حكايتان متداخلتان، حكاية الناس وحكاية الكلاب، تشكّلان في تداخلهما سلسلة حلقات لا تنفرط إلّا في آخر فصل. والحكايتان تتجاوران وتتقاطعان. أعنى أنّ حكاية الكلاب يمكن تمييزها بوضوح لكنّها في الوقت نفسه لا تتحصّل بمعزل عن حكاية الناس، كلّ الشخصيّات في الرواية. هذا التقاطع والتداخل من أبرز أشراط الإبداع في هذه الرواية الذكيّة التي تتظاهر بسذاجة خادعة، أو هي تتحايل على الذكاء ببساطة مخاتلة. حكاية الناس واقعيّة إلى أبعد حدود اليوميّ المألوف "المبتذل". وحكاية الكلاب تتدثّر بالواقع لتنهمك بالرمز. في ظاهرها شيء وباطنها شيء آخر. في ظاهرها حكاية واقعيّة وفي باطنها حكاية رمزيّة. هذه رؤية مزدوجة مضاعفة: (1) المزج بين الحكايتين الإنسانية والكلبيّة في علاقات تجاور وتقاطع، (2) إلغاء الحدود بين الواقعيّ والرمزيّ في حكاية الكلاب. حين أقول إنّ حكاية الكلاب في الرواية، على النحو الذي سبق بيانه، هي حكاية واقعيّة في ظاهرها أقصد أنها تُقدّم بأدوات الواقع ومنطقه. قد يقول قائل بحقّ ما المشكلة في أن تكون كلّ هذه الكلاب جزءًا من واقعنا؟! ما المشكلة في أن تكون واقعيّة إذا ظلّت تتصرّف في حدود هويّتها الكلبيّة وحدود الممكن في علاقتها بالناس؟! كان سهيل كيوان حذرًا جدًّا في ترسيمه لحكاية الكلاب وحرص على أن تظلّ في حدودها الواقعيّة. لم نسمع مثلًا فورتونا/ كليلة تتحدّث بلغتنا وإن كانت هي تفهم لغتنا! في اللحظة التي تبدأ فيها الحيوانات بالحديث بلغة الناس تصير رمزيّة فاضحة، على نحو ما نجده مثلًا في قصّة "النمور في اليوم العاشر" لزكريا تامر. وهكذا بقيت الكلاب على الحدود الدقيقة بين الواقعيّ والرمزيّ. ولمّا كانت الكلاب تلعب دورًا مركزيًّا فاعلًا ممتدًّا حاسمًا في الرواية كان لا بدّ أن ترتقي إذًا إلى مستوى الرمز بالضرورة. الأدب هو نشاط إنسانيّ يعمله إنسان عن إنسان لمصلحة الإنسان وغايته، حتى وإن كانت بعض الشخصيّات أو كلّها من الحيوانات. وكيف تصير الحيوانات مادّة للتعبير عن الإنسان وهمومه وآلامه وآماله إن لم يكن بالترميز، أي بجعلها رموزًا؟!

في الرواية عشرة كلاب موثّقة ومسمّاة، وبعضها مع ماركة مسجّلة ولها شجرة نسب. وهذا العدد يتجاوز نصف العدد الإجماليّ للشخصيّات الفاعلة في الرواية. ما يعني أنّ الكلاب شخصيّة جمعيّة مركزيّة في الرواية، يحرّكها سهيل كيوان بطبيعيّة مقنعة لا يتكلّف ولا يتصنّع، يضبط الكلاب فيها على قدر المأمول منها والمتوقّع. بهذا يوهمنا الكاتب بأنها جزء عضويّ من واقعيّة الرواية. لكنّ هذا التمويه أو الإيهام بواقعيّة الكلاب مخاتل. عندما يتقاسم الناس وجودهم مع كلّ هذا العدد من الكلاب لا يمكن للكلاب أن تظل واقعيّة. تأثيث النص الروائيّ بالكلاب، على مستوى العدد والتسمية والقيمة والفعل والأثر، يجعل الواقع النصّيّ محكومًا بالكلاب، هي التي تسيّر حياة الناس وتضبط إيقاعاتها. والكلاب في الأدب كثيرة وتاريخها طويل في الشرق والغرب. لكنّ سهيل كيوان خطا خطوات عريضة وبعيدة مع الكلاب في هذه الرواية. الجديد فيها هو حرصه الشديد على ألا تغرق الكلاب في الرمز. وكأنه يشير بذكاء حادّ إلى أنّ حياتنا الكلبيّة صارت واقعًا طبيعيًا عاديًّا وليست رمزيّة استعاريّة. لم نعد نشعر بغرابتها ولم نعد نرى فيها ما يثير السؤال. وحين تتبلّد المشاعر ونفقد القدرة على تمييز الألوان والمذاقات ونفقد حاسّة الشمّ وتمتلئ المآقي بمياه عادمة ينكتم اللسان وتغيب اللغة ونرتدّ من حالة الإنسانيّة إلى البشريّة!  الكلاب في الأعمال التي نعرفها رموز تُحيل إلى واقع. وفي رواية سهيل كيوان واقع يرتقي إلى مستوى الرمز في قيمته. والفرق كبير.

وكيف صارت الكلاب رمزًا جمعيًّا ما دامت متخفّية، تحتمي بمستلزمات الواقع والحقيقة، لا تكشف عن حدودها الرمزيّة؟ ما هي الاعتبارات التي ترقّيها إلى مستوى الرمز ولا يمكنها أن تظلّ في دائرة اليوميّ الواقعيّ رغم قدرة سهيل كيوان في الرواية على المراوغة الفنّيّة؟ هي خمسة اعتبارات نصّيّة تجعلها حالة رمزيّة: (1) الاعتبار الكمّيّ: ما يعني أنّ حضورها بقوّة، على امتداد النصّ كلّه، يفوق قيمتها بصفة مبدئيّة. أقصد أنّ حضورها الامتداديّ التراكميّ، بأشكال وأنواع وأحجام وألوان ووظائف عديدة، يفوق حاجة الرواية الواقعيّة إليها. لو قسنا واقع الرواية على واقع الحقيقة لوجدنا أنّ عدد الكلاب في الرواية قد يكفي لأكثر من عشر قرى وعشر روايات واقعيّة. الافتراض هو أنّ العدد الإجمالي للكلاب الذي قد تحتاجه أيّ رواية واقعيّة لا يتجاوز واحدًا أو اثنين في أحسن الأحوال. (2) الاعتبار النوعيّ: وفيه تلعب الكلاب دورًا فاعلًا في حركة الشخصيّات الحياتيّة وقراراتها المستقبليّة، ما ينقلها من دائرة الشخصيّات الهامشيّة أو الثانويّة إلى دائرة الفعل والقرار والتأثير في كلّ الأُسر الآدميّة في الرواية. الكلاب نفسها لا تتفاعل فيما بينها في علاقات عائليّة اجتماعيّة أُسريّة. لا تقيم علاقات كلبيّة مع أبناء جنسها، اللهمّ إلا في آخر الرواية، عندما تسلّل شمشون الأسود إلى كليلة الروسيّة الجميلة. وحتى هذا التسلّل لم يُنتج مزيدًا من الكلاب. لكلّ الكلاب مهمّات ووظائف، ما يعني أنها ليست سائبة متروكة. وكلّ المهمّات والوظائف موصولة بالضرورة بالشخصيّات الآدميّة: كالعلاج النفسيّ والحراسة والتسلية والمرافقة والصداقة. وكأنّ الكلاب في الرواية خلقت لإقامة علاقات مع البشر وحدهم. (3) الاعتبار القرائيّ. به نعني أنّ انفتاح الحكاية وانكشافها أمام القارئ، عند القراءة الأولى، يتأدّى بفضل الكلاب. لا يتعرّف القارئ على بعض الشخصيّات الآدميّة إلا عبر حدث يربطها بكلب أو حاجتها إلى كلب. (4) الاعتبار القيميّ. وفيه لا تظهر الكلاب كما لو كانت كلابًا بل تتجاوز هويّتها الكلبيّة، حتى تبدو في بعض المواضع كما لو كان الحديث عن بشر. ارتقاء الكلاب في قيمتها إلى منزلة الإنسان بآليّات الأنسنة يحمل معنى حادًّا. ولعلّ التسمية هي أبرز أشراط الأنسنة. حين يتسمّى الحيوان أو الجماد، مثلما يتسمّى البشر، فهو ينتقل من حالة تنكير إلى حالة تعريف، من اسم الجنس إلى اسم العلم. كلّ الكلاب في الرواية مسمّاة بوعي وإدراك وقصد. ومن أبرز تداعيات التسمية هو هذا التوتّر النفسيّ الذي تَخبُرُه الكلبة في الفصل الأخير كما لو كان الحديث عن إنسان عاقل وُضع أمام قرار مصيريّ. (5) الاعتبار التراثيّ. وهذا يتبدّى في آليّة التناصّ. بعض الأسماء تُحيل إلى الموروث العربيّ والعالميّ من ميثولوجيا وأدب. هكذا تبرز مثلًا الأسماء "فورتونا" و"كليلة" و"شمشون". وكلّها أسماء كلاب. ربطُ الكلاب بهذا الموروث هو آليّة تبئير. وجعل الكلاب في بؤرة الرواية ومركز الأثر فيها يعزّز دورها عند التأويل.

المعنى والدلالة

البنية السرديّة في الرواية ماتريوشكيّة أنثويّة تناسليّة، ينسل بعضها من بعض باستمرار وإصرار، فتتعالق فيما بينها وتتداخل بوشائج أمومة حميميّة. هكذا تخترق الكلاب واقع الإنسان وتشقّه شقًّا حتى تبدو الرواية في بنية مزدوجة تصل إلى حدّ العجب. هكذا يتعانق الواقعيّ والرمزيّ والسياسيّ والاجتماعيّ في توليفة يصعب الفصل بينها على المستوى الحكائيّ. وهكذا يتوحّد الماضي والحاضر والمستقبل وشقّا الخطّ الأخضر عن اليمين وعن الشمال. والتأويل ماتريوشكيّ أيضًا مثل البنية السرديّة بالضبط. وهو في حساباتي ثلاثيّ يُدخل المعنى في المعنى ومنه ينسل.

(1) المعنى الأول يعتمد الفعل. أعني فعل العودة نفسه. عادت فورتونا إلى إيلي مالكها وتركت نجم الذي التقطها ورعاها فأحسن رعايتها. لو رفضت فورتونا أن تعود مع إيلي واختارت أن تبقى مع نجم لكانت رواية سهيل كيوان "ملجأ الكلب السعيد" هي النسخة الفلسطينيّة لدائرة الطباشير القوقازيّة في توصيفها للواقع الفلسطينيّ الراهن. لو فعلت ذلك لكانت الأرض من حقّ أولئك الذين يعمرونها وليس لأصحابها الذين يملكونها بالتوارث. لكنّ سهيل كيوان قد أخرجها بقرارها ومشيئتها هي. أقول أخرجها بمشيئتها وليس في قولي أثرٌ للمفارقة. من الحكمة والعقل أن يخرجها سهيل كيوان من أرضنا كي تعود إلى صاحبها إيلي. من الحكمة والعقل أن يظلّ شمشون الأسود مزروعًا زرعًا في طين بلاده، شمشون الأصيل الذي ائتمنه الأستاذ جاد الله على نفسه وأرضه. ذهبت فورتونا وجاء محلّها شمشون الأسود. عادت فورتونا إلى أهلها، بعد أن نشرت خلفتها بين الناس، وظلّ شمشون مع أهله. كلٌّ يعود إلى أهله في آخر المطاف. عادت الكلبة لإيلي صاحبها الذي تركها لمصيرها المجهول وهرب من الحرب. تمسكنت فورتونا حتى تمكّنت وصارت جزءًا من أُسرة نجم ورندا. لكنها في لحظة واحدة نسيت الكرم العربيّ الحاتميّ وعادت إلى إيلي الذي استكثر عليها الحياة وتركها إلى مصيرها حاملًا بستّة جراء. كيوان يفصل بوضوح بين الفئتين. ما أشبه هذي الرواية برواية "العاشق" للأديب العبريّ أبراهام ب. يهوشواع. كلٌّ يعود إلى أصله في الروايتين. وكأنّ الرواية تقول ببساطة وعفويّة مضلّلة "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"... هل هذا ما قصده سهيل كيوان؟ لا علم لي.

(2) المعنى الثاني يعتمد الفاعل. أعني فاعل فعل العودة. فيكون التركيز على صفاته هو.  وأول صفات الفاعل اسمه. والأسماء في الأدب "مقصودة". هكذا أظنّ. إذا كانت فورتونا تعني الحظّ والنصيب فإنّ الذي فارقنا إذًا هو الحظّ والنصيب. وعنه عوّضنا سهيل كيوان بشمشون البطل القويّ والشجاع. وحين تنظر في إيحاءات الاسم فورتونا تقول من العقل والحكمة ألا يأتينا الحظّ والنصيب من فورتونا. حين فارقتنا فورتونا، إلهة الحظّ والفرصة والنصيب عند الرومان، جاءنا شمشون بقوّته وقدرته. وهل هذا ما قصده سهيل كيوان؟! هل يؤكّد على حاجتنا إلى قوّة وعزيمة لا إلى حظّ أو نصيب يأتينا من الغرب؟! فورتونا أتت حاملًا من عند أصحابها. ما يعني أنّ حملها الذي انتهى بستّة جراء كان بفضل كلب غربيّ وليس بفضل كلب عربيّ. عادت فورتونا قبل أن يعلق بها شمشون. فُصلت عنه في آخر لحظة قبل أن يختلط الدم بالدم. لنا حاجة لا يقضيها إلا شمشون، وليس لنا حاجة في نصري. عندي إحساس ضاغط أنّ نصري المهزوم هو إشارة إلى ما هو أكبر منه، حتى أنّ اسمه المسحوب من حقل دلاليّ سياسيّ قوميّ وطنيّ مفارقة كاذبة. يُخيّل إليّ، وفي بعض التخييل إثمٌ كبير، أنّ نصري يُراد به السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة. والمؤشّرات النصّيّة التي يحشدها سهيل كيوان، لترسيم هذه الشخصيّة، تسير في طريق ذي اتجاه واحد لا تؤدّي إلا إلى رام الله. نصري لا يحيل إلى شخصية واحدة في السلطة بل هو نموذج مضغوط مكثّف لشخصيّات عديدة تآلفت فيما بينها لتشكّل فضاءً أخلاقيًّا وسلوكيًّا لا صورة بورتريه لشخصيّة محدّدة... هل هذا ما قصده سهيل كيوان؟ لا علم لي.

(3) المعنى الثالث يعتمد الميثولوجيا. والميثولوجيا في سطوتها تحيّد المعنيين السابقين وتعطّل منطق الفصل. هل هذه الرواية مغرمة بقلب الأدوار وبعثرة الأوراق؟! هل يقلب سهيل كيوان منطق بريخت ويجعل الكلبة لصاحبها مالكها وليس لمن رعاها وأنقذها وربّاها. وهل يبدّل الأدوار أيضًا بين شمشون ودليلة (كليلة) فيجعل دليلة الفلسطينيّة لإيلي وشمشون الإسرائيليّ العبرانيّ لنجم؟! وما القصد من هذا التبديل "المتعمّد"؟! هل العالم الكلبيّ المقلوب ينعكس في هذه الرواية وإصرارها على القلب؟! والقلب في الأسماء أيضًا فدليلة تصير كليلة زيادة في التعريب. ولعلّ هذا القلب يُفضي إلى خلط عبثيّ لا يصحّ معه أيّ فصل حقيقيّ ونهائيّ. وكأنّ الفصل الذي يعني "نحن هنا وهم هناك"، أو "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، في كيانين منفصلين هو أمر متعذّر. نحن وهم توليفة واحدة تقضي بحياة مشتركة في كيان واحد. كما لو كان يقول ذهبت الكلبة فورتونا/ كليلة/ دليلة وظهر شمشون ليواصل مسيرتنا الكلبيّة من الموضع الذي توقّفت عنده تلك الكلبة. جاء شمشون وقد سرق دجاجة من دجاجات ذيب، وذيب يطارده شاهرًا عصاه. هكذا تنتهي الرواية تحمل وعدًا أو وعيدًا بحرب مع ذيب. وإذا كان لا بدّ من خلط فلا بدّ أن يكون خلطًا منظّمًا منضبطًا بضوابط مدنيّة. ولعلّ هذا الذي أقوله هو فائض تأويل ناتج عن تراصف مكثّف للعلامات وتزاحمها وتنازعها. وهو فائض تأويل لأنّ الرواية نفسها تتّكئ بقوّة على الميثولوجيا الرومانيّة والعبرانيّة والعربيّة وتشرع أبوابها على كلّ التخمينات التي سبقت. وهكذا انتثرت الرواية بين الواقعيّ والحقيقيّ والميثولوجيّ واختلطت الأوراق إلى حدّ يصعب فصلها. وكأنّ الرواية، في مبناها المبعثر، توازي الواقع المتشظّي والمبعثر نفسه. وهل نبضات الواقع منتظمة أصلًا في حالة انسجام وتوافق وتناغم؟ يبدو لي أنّ الإصرار على هذا التقطيع يتناغم مع العلاقات الداخليّة على مستوى الأُسر وعلى مستوى الشخصيّات التي تضبطها توتّرات وخلافات وتناقضات وصدامات كثيرة. تكثيف الفصول وضغطها أحيانًا في صفحة أو أقلّ من ذلك يعمّق الإحساس وكأنّ الرواية حزمة من قصص قصيرة مختلفة جُمعت معًا لتشكّل حالة سرديّة فسيفسائيّة تعدّديّة. كلّ الروايات التي تبنّت طريقة التقسيم إلى فصول معنونة كانت تلمح، في تبنّيها لهذه الآليّة، إلى مبدأ الفصل والوصل. هذا ما نراه مثلا في رواية "ميرامار" لنجيب محفوظ وهذا بالضبط ما نجده في رواية "السفينة" لجبرا إبراهيم جبرا. هذا التشظّي الداخليّ هو ضابط الصورة النهائيّة، هو المنطق الذي يحكم واقعنا ويُبديه في صورة واحدة موحّدة. أعني أنّ الرواية تُمنطق الفوضى والفصل والوصل والخلط والبعثرة حتى على مستوى العلاقة بين العرب واليهود. مفارقة كبرى لكنّنا نحياها بكلّ تفاصيلها وملحقاتها وتبعاتها.. هل هذا ما قصده سهيل كيوان؟! لا علم لي.

محلّ الدلالة

خرجتُ من الرواية أبحث عن صداها في واقع حالنا لأجد نفسي في رواية أكبر وأشدّ إيلامًا ووجعًا. هاجرت من اللغة إلى الحقيقة لأجدها مثل اللغة، فيها الخيانة والطلاق والقطيعة والقمار والوجع والمرض والقتل والحرب في كلّ مكان. غادرت الرواية لأجد الكلاب تعالج نفوسنا المتهالكة المهلهلة وتحرسنا وتسلّينا وترافقنا وتصاحبنا في الحلّ والمرتحل، مثلما كانت تعمل في رواية سهيل كيوان بالضبط. كيف لا يكون وضعنا، في كلّ مناحي الحياة، كلبًا ابن كلب حين يصير موصولا بالكلاب، وحين يتجاوز عدد الكلاب نصف عدد الشخصيات الآدميّة في الرواية، وحين تتسمّى الكلاب مثلنا بالضبط، وحين نجعل للكلاب عيادة بطبيبين مناوبين، وحين نجعل لها فندقًا ومقبرة خاصّة من أرض الأستاذ جاد الله، وحين يتجنّد صالح في حرس الحدود رغبة في أنّ يردّوا له بعضًا من أرضه التي صادروها، وحين يسمح إدريس لزوجته كاترينا أن تتهوّد رغبة في الحصول على موافقة بشراء بيت أقيم على أرضه المصادرة، وحين يبيع نصري "قبر أبيه" ليكون مقبرة لكلاب اليهود، وحين لا تجد هناء إلا كلبًا يداويها من ضائقتها النفسيّة الخانقة تشدّه إلى صدرها وتنام معه فوق السرير، وحين تختار فورتونا العودة إلى صاحبها إيلي الذي ألقاها للتهلكة وهرب إلى الجنوب... كيف لا يصير واقعنا بعد كلّ هذا كلبيًّا؟! وكيف لا تسير الحياة الكلبيّة بعد كلّ هذا إلى خراب وتهلكة؟! عندما يستبدل الأستاذ جاد الله ابنه نصري المهزوم بشمشون الكلب البطل فاعلم أنّ الكلب أفضل من نصري ذاك. عندما يصير "صاحبك" الكلب بديلا عن صاحبك الآدميّ فالدنيا خراب... وبعد كلّ هذا، كيف لا تسعد الكلاب في هذا الخراب؟! حين تقتحم الكلاب الروسيّة بيوتنا ومخادعنا ووعينا وتدعس بأقدامها في خواصرنا وبطوننا كيف لا تجد فينا ملجأ سعيدًا من ظهر سعيد؟!


*ناقد وأستاذ جامعي- الجليل/ فلسطين 1948.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.