}
عروض

"نزلاء الحرّاش": رواية السجن السياسي الجزائري

نبيل سليمان

15 مارس 2023


"تبًا لكم، أنتم وحكوماتكم وساستكم، كلكم بلا استثناء. تهوّر واستهتار وادعاء وفردانية وفساد".
بهذه العبارات تخاطب الأستاذة الجامعية التي لطمها النظام الجزائري منذ عشرين سنة ابنتها الصحافية نبيلة المرملي، في رواية الروائي الجزائري الحبيب السائح "نزلاء الحرّاش".
يأتي هذا الخطاب في أمس الكورونا، فزمن الرواية في الأغلب هو هاته السنوات الثقيلة الماضية التي تنتهي سنة 2021، وبذا تواجه الرواية تحدي الكتابة عن (الراهن) و(الحاضر)، وإن توافرت على ارتجاعات إلى زمن العشرية الجزائرية السوداء، وإلى زمن حرب التحرير الجزائرية.
في سنة 1981، جاءت الرواية الأولى للحبيب السائح "زمن النمرود" صرخةً داوية ضد ما كان يشوّه الإنسان في الجزائر، فتصدى للرواية من رأوها تعري فسادهم وسطوتهم، فصودرت، واضطر الكاتب إلى التواري عن مقامه سنوات. وفيما قرأت للحبيب السائح؛ "مذنبون... لون دمهم في دمي - تماسخت - أنا وحاييم - نزلاء الحرّاش"، وفيما قرأت عنه، تبدو السياسة شاغلًا لرواياته. ولكن لأسرعْ إلى القول، يبرأ الانشغال الروائي بالسياسة هنا مما يشوهه عادةً من فجاجة الشعارية والخطابية، وبالتالي تبهظ السياسة جماليات الرواية، مما لا نفع معه لنبل الهدف، فالرواية فن أولًا وآخرًا.
بعد الزلزلة الجزائرية في العقد الأخير من القرن العشرين، جاءت زلزلة السنوات القليلة الفائتة، والتي طوت عهد بوتفليقة، وكان ما كان فيها وفي ما تلاها من سنتي وباء الكورونا، وهذا ما قامت عليه رواية الحبيب السائح "نزلاء الحرّاش".
تؤشر العتبتان الأوليان لهذه الرواية إلى (اللعب) الذي تعتزمه، فالعتبة الأولى هي "كما في رواية"، والعتبة الثانية هي قولة هنري ميلر: "أن تكتب هو أن تستعيد الزمن". أما الأولى فلعلها تروم أن تحرر الكتابة من أسر التجنيس الروائي، بينما تحصر الثانية الكتابة بعامة، وليس الرواية وحدها باستعادة الزمن، وهو ما لا يستقيم مع رواية "نزلاء الحرّاش" نفسها، حيث أن الاستعادة فيها لزمن حرب التحرير، وبداية الاستقلال، ليست كل الرواية، ولا الراجح منها، فالراجح هو زمن الراهن، أو الحاضر الذي يعني سنوات الزلزلة الجزائرية الجديدة، حين تفجرت المظاهرات وتواصلت حتى دالت دولة من تسميه الرواية (رب الدولة)، ومن بعد إلى أمس الكورونا.
تتألق جماليات "نزلاء الحرّاش" في بناء الشخصيات. وعلى الرغم مما يبدو من تمحور الرواية حول شخصيتي الصحافيين العاشقين، فيصل شملول، ونبيلة المرملي، فليس دور آخرين وأخريات بأقل: محمود والحسين شملول، منصور شملول الشهير بسي لخضر والد فيصل والحسين ومحمود، الدكتور مهدي المرملي والد نبيلة، صْمدْ بو يعلى وعبد الرزاق كلّال، مومن شتوري.
من العشرية السوداء تستعيد الرواية اغتيال الإرهابي عبد المعطي كراف (أبو قتادة) لمحمود شملول المشرف على مخبر للدراسات الاجتماعية والثقافية. ولما كان قرار المصالحة نزل كرّاف من الجبل إلى البليدة، فتفجرت جراح الاغتيال في الحسين الذي تمكن من قتل كراف، وسلّم نفسه فحكم عليه بالمؤبد في سجن الحراش، لكنه تمكن من الفرار بعد أربع عشرة سنة لم يعان فيها بفضل الرشى التي كان يدفعها، هو المقاول الكبير الذي انغمس في "عالم الأعمال الاعتباطي الجزافي المتوحش".




مسكونًا بشقيقيه محمود والحسين، نشأ فيصل، والتقى في كلية الصحافة بنبيلة التي اغتال عبد المعطي كراف نفسه والدها. وسوف تتولى الاستعادة المنجمّة تغطية ماضي فيصل ونبيلة في ما قبل الجامعة، وفيها، ومن بعد في عملهما معًا في صحيفة البرقية. وتتمحور الاستعادة على الحب والسياسة، حيث تتدافر عنواناتها: المظاهرات ضد العهدة الثالثة للرئيس الذي لا تسميه الرواية، وهو بوتفليقة، التحقيق الصحافي عن تجارة العملة في قلب العاصمة، المظاهرات لإسقاط العهدة الخامسة للرئيس 2022... وصولًا إلى اعتقال الجنرالات والنواب والوزراء ومحاكماتهم. أما ما يشكل مفاصل الرواية من ذلك فهو، عدا عن اغتيال محمود، اغتيال الدكتورة عالية ترغاس، واعتقال الوالد فيصل شملول الذي سيحمل اسمه عندما كان ضابطًا أثناء حرب التحرير: سي لخضرْ.
يفكر فيصل شملول في كتابة رواية، يستقيها من (بذرة) التقرير الصحافي الذي كلّفته الجريدة بكتابته عن اغتيال الأستاذة الجامعية الدكتورة عالية ترغاس سنة 2011. ويتعلل الصحافي فيصل في أن كثيرًا من كتّاب الرواية هم صحافيون، أو كانوا صحافيين، أنشأوا نصوصهم من أحداث عادية. وأضيف بدوري أن لهذا التعلل ما يعضده بقوة، من ماركيز، وهمنغواي، إلى جمال الغيطاني، وإحسان عبد القدوس، وعزت القمحاوي، وسواهم كثيرون وكثيرات. ولا تفتأ نبيلة تحرض فيصل على أن يكتب "ففي طريق الكتابة قد نجد معنى آخر للبحث عن الحرية". وبالنسبة لنبيلة، فإن الخيار الأكثر جرأة في زمن الأزمة السياسية، والزعامة المرضية، وعبادة الفرد، هو أن تكون كاتبًا حرًا، مع ما يترتب على ذلك من متاعب ومخاطرات. أما الصحافي ـ تضيف ـ في الجزائر "فليس له سوى الاختيار بين أنواع الأغلال التي عليه أن يجرها. أما محاولة كسره إياها فتجر عليه صنوف القهر كلها". ولنبيلة مشروع كتابة مسرحية، كما لفيصل مشروع كتابة رواية.
تلفح البوليسية سعي فيصل في التحقيق الصحافي في اغتيال الدكتورة ترغاس. تعاونه نبيلة، التي تخبره بمن قام بالاغتيال: مومن شتوري جار الضحية الذي تقرب منها، وكان سجين سجن الأحداث، و(شاذ) جنسيًا. وتدبر نبيلة لفيصل اللقاء مع لونيس، النقابي وعضو (التنسيقية الوطنية للتغيير والديمقراطية)، الذي يجزم أن اغتيال الدكتورة ترغاس سياسي، ومن دبر اغتيالها هو من اغتال الأستاذ في جامعة وهران، لأنهما عضوان ناشطان في تلك التنسيقية. ويلتقي فيصل مع شقيقة الدكتورة، وهي أستاذ وعضو في التنسيقية، ومع من يروي له كيف جرى الاغتيال: حميش الحمارني جار مومن.
في المفصل الروائي الآخر، والأكبر، يأتي اعتقال سي لخضر، وهو ما سيفتح الرواية على الحرّاش سجنًا وسجناءً، وهو السجن الذي يقول فيه فيصل: "سجن الحرّاش لا يضخ في دمك القسوة فحسب. إنه يعلمك أيضًا أن تنظر باحتقار إلى أكبر الفاسقين والمرتشين، وكيف يكتشفون الدين بمجرد قضاء ليلتهم الأولى فيه".




وُجّهتْ إلى والد فيصل التهمة الرائجة على ألسنة الديكتاتوريات: "إهانة هيئة نظامية وإضعاف الروح المعنوية لها وقت السلم". وبُنيتْ التهمة على مداخلة المتهم في ندوة في مدينة خرّاطة، وهو الثمانيني الذي سيكتب يومياته في السجن لتكون شهادة على العسف في هذه المؤسسة العقابية المسمّاة: الحرّاش. ويكتب سي لخضر لابنته حبيبة عمّن ذاقوا مرارة هذا السجن من مناضلين وطنيين في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين في أثناء حرب التحرير، وبعد الاستقلال، وفي التسعينيات، ثم قبل الزلزلة الجزائرية/ الحراك وخلالها.
وقد كتب سي لخضر في 5/ 7/ 2019 أن قرنًا قد مرّ على بناء سجن الحرّاش في سنة 1915، وهو الشاهد على ما ارتكب الاستعمار الفرنسي بحق الجزائر، والأَوْلى كان أن يحوّل إلى متحف ومركز تاريخي للحركة الوطنية ولحرب التحرير. وتعدد الرواية في هامش من الشخصيات المعروفة من سجناء الحرّاش. وسوف يظهر مثل هذا الهامش الشارح مرارًا في الرواية.
يكتب والد فيصل ومحمود والحسين أن إبقاء الحرّاش على حاله ليس صدفة، ولا حتمية تاريخية، بل لعبة السياسة. فإلى هذا السجن اقتيد أحمد بن بيلا، وحسين آيت أحمد كما يسمّي هامش، وفي زنزانة لخضر نزل زعيما حزب ديني دعيا إلى إقامة دولة إسلامية بالجهاد.
تغمر السجناء في سجن الحرّاش الفرحة والشماتة حين يبدأ يستقبل جنرالات ووزراء ونوابًا ومسؤولين سابقين. وثمة من يصف ذلك باللحظة السريالية، وثمة من يشكك فيها. وقد أخذ السجناء يزغردون في الساحة مقلدين النساء كلما ذاع خبر وصول ضيف جديد من الـ(VIP)، بينما يتعالى الهتاف (كلتو البلاد يا سراقين). وهذا سجين يستبشر "يا سعدنا! الحرّاش سيتحول إلى نادٍ للأثرياء"، و"الحرّاش سيتحول جزء منه إلى إقامة دولة جديدة".
ولا تنسى الرواية وهي تتولى الحرّاش ونزلاءه ـ وهو يتولاها ـ خطوطًا أخرى تتعلق بمدير السجن والحارس الرئيسي فيه، وعاطف الورثي، الذي يشبه سجن الحرّاش بطاحونة عمياء صماء خرساء تسحق سحقًا. والأهم هنا هو أن فيصل يقرأ في مخطوطة "نزلاء الحرّاش" فيما يفكر في مشروع روايته عن اغتيال الدكتورة ترغاس. فالكتابة والعلاقة الثرية الفريدة مع نبيلة، والكورونا، هي شواغل فيصل، وليس زلزال سجن ومحاكمة المسؤولين السابقين، حيث يقول "ولا حتى الزلزال (الذي) يضرب حصن الأوليغارشيا". كما لم يشغل فيصل ما أسفرت عنه الانتخابات الرئاسية عن (رب) جديد للدولة، حيث لا مطرح في قاموس فيصل لكلمة الرئيس، أو كلمة الديكتاتور.
تخص الرواية في منتهاها السجينين الاستثنائيين صْمدْ بو يعلى، وعبد الرازق كلّال، في زنزانتهما بفصل خاص يليه الفصل الأخير (إلى أن طردته رئتي). وفي ليلة رأس السنة يحدّث فيصل نبيلة عن تلك الزنزانة التي جعلته أخيولات الكتابة ثالث النزيلين فيها، فلم يكن سهلًا عليه أن يغادرها. وهنا ترسل والدة نبيلة العبارات التي افتتحتُ بها هذه القراءة للرواية، ثم تشبه النظام بطائر الوزغ الذي يقطع ذيله إذا شعر بالخطر، ليوهم من يطارده بأنه مات، وهو يستطيع تجديد ذيله كلما قطعه، وهذا ما يقوم به النظام، إذ يحاكم قادته السابقين. إنه حقًا طائر الوزغ العربي، وليس الجزائري وحده.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.