}
قراءات

"حوادث دمشق اليوميّة": أحوال عامة الناس في الكتابات التاريخية

أوس يعقوب

14 أبريل 2023

صدرت أخيرًا عن "دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع" في دمشق طبعة جديدة من كتاب "حوادث دمشق اليوميّة من (1154هـ إلى 1176هـ)"، لشهاب الدين أحمد بن بدير الحلّاق؛ بتحقيق المؤرّخ والباحث في التراث العربي ـ الإسلامي الدكتور فارس أحمد العلاوي، في 528 صفحة. وكانت الطبعة الأولى منه صدرت في عام 1959م في القاهرة، بتحقيق أنجزه المؤرّخ المصري د. أحمد عزّت عبد الكريم، في 387 صفحة، لتتالى من بعدها صدور طبعات عدّة، بخاصة في دمشق، على أيدي محقّقين مختلفين، ومن تلك الطبعة الصادرة عن منشورات "الهيئة العامّة السورية للكتاب" في دمشق عام 2008م، التي قدّم لها وأعدّها وضبطها الأديب السوري الراحل خيري الذهبي، في 271 صفحة.
في هذه المقالة، نستعرض هذا الكتاب، الذي يُعدُّ، بحسب د. فارس أحمد العلاوي، من الكتب الهامّة التي أرّخت لمدينة دمشق في العهد العثماني. يشير العلاوي في مقدّمة كتابه إلى أنّ "مؤلّفه رجل من عامّة الناس، اتّخذ من الحلاقة مهنة يتكسب منها، وينفق على أسرته، لكن كونه كان يعمل حلّاقًا لا يعني أنّه كان رجلًا عاديًا، لقد كان فقيهًا ومتصوفًا، تلقى العلم من مجموعة كبيرة من علماء دمشق وشيوخ الطرق الصوفية فيها، ويأتي في مقدّمتهم الشيخ عبد الغني النابلسي، وابنه الشيخ إسماعيل النابلسي، وقد طلب منه عدد من معارفه أن يكتب ويسجّل الحوادث اليوميّة التي تقع في مدينة دمشق، فاستجاب لطلبهم، وسجّل حوادث 23 سنة، وهي تقع في المدة (1154هـ - 1176هـ)، سجّلها باللغة التي يستخدمها، وهي لغة تجمع بين العامّيّة والفصحى. نقح الشيخ محمد سعيد القاسمي هذه اليوميّات، وهذبها، لكن التنقيح والتهذيب والتشذيب جعلنا أمام نصّ جديد بصياغة جديدة، غابت فيها شخصيّة ابن بدير الحلّاق، وحلّت محلّها شخصيّة القاسمي، وذلك لأنّ القاسمي حاول جاهدًا جعل المحتوى يتماشى مع أفكاره وتوجّهاته، وجعله قريبًا من اللغة العربية الفصحى، وقريبًا من اللغة التي كان يفهمها القارئ في عصره، ولذلك لم نرَ بين أيدينا ما كتبه ابن بدير الحلّاق، وإنّما وجدنا ما أعاد القاسمي صياغته". ويوضح العلاوي أنّه حصل مؤخرًا على نسخة مصورة عن مخطوط حوادث ابن بدير الموجود في "مكتبة تشستر بيتي" في أيرلندا، وهو ضمن مجموع رقمه 3551، و"قد قابلناها على نسخة مخطوط "المكتبة الظاهرية" من تنقيح القاسمي، وقابلناها أيضًا على مطبوع هذا التنقيح الذي تولى تحقيقه أحمد عزّت عبد الكريم. كشفت المقابلة بينها أنّ القاسمي أحدث تغييرًا كبيرًا على كتاب ابن بدير، فأعاد بشكل عامّ صياغة الكتاب، وحذف وأضاف، وقدّم وأخّر، ومع أنّ غلاف المخطوط يذكر أنّ حوادث الكتاب تنتهي سنة 1176هـ، إلّا أنّ القاسمي يؤكّد أنّ حوادثه تنتهي سنة 1175هـ، وتابعه في ذلك كلُّ من كتب وتناول هذا الكتاب بالنقد والتحليل، ونحن نؤكّد أنّ حوادث ابن بدير اليوميّة تنتهي في سنة 1176هـ، وأنّ حذف القاسمي لسنة من سنوات الكتاب كان سببه عدم انتباهه إلى أنّه في المخطوط الأصلي قد تمّ دمج أحداث سنة 1172هـ مع أحداث سنة 1173هـ، ومما يؤكّد ذلك أن ابن بدير كان يذكر هلّة شهر محرم في كلّ سنة هجرية، لكنه لم يذكرها في بداية حوادث سنة 1173هـ، وبدأها بيوم السابع والعشرين من شهر محرم، وكانت حوادث السنة التي سبقتها".

شاهدٌ على فترة حكم "آل العظم"
يُصنف الكتاب ضمن خانة ‏"التدوين الشفاهي"‏، وهو بحسب ما أشار محقّقُه الأوّل، المؤرّخ المصري د. أحمد عزّت عبد الكريم، أقربُ ما يكون إلى "تاريخ الغزّي" عن حلب، و"تاريخ الجبرتي" عن القاهرة، أو إلى كتاب "مطالع السعود" عن بغداد. ومثله كتابا "حوادث حمص اليوميّة: (1100هـ ـ 1136هـ/ 1688م ـ 1723م)" لمحمد مكي بن عبد الباقي الخانقاه؛ تحقيق د. منذر الحايك، وكتاب "حوادث حلب اليوميّة: (1771م ـ 1805م) المرتاد في تاريخ حلب وبغداد"، ليوسف بن ديمتري الحلبي؛ تحقيق فواز محمود الفوّاز. حيث دوّن فيه شهاب الدين أحمد بن بدير الحلّاق المعروف بـ"البديري الحلّاق" يوميّاته، وما شهده من حكم "آل العظم" في المدينة، وولادة نخب وسطى في دمشق، في القرن الثامن عشر، أين عاش حلّاقًا ومطهّرًا في حيّ باب البريد الراقي ـ أحد أبواب الجامع الأمويّ عند المِسكيّة ـ الواقع في مركز مدينة دمشق، وتذكر المصادر التاريخية أنّه توفي بعد سنة 1761م.
طُبع الكتاب للمرّة الأولى في القاهرة، أيّام الوحدة مع مصر عام 1959م، بنسخة نقّحها وقدّم لها ـ وحذف منها للأسف ـ الشيخ محمد سعيد القاسمي قبيل نهاية القرن التاسع عشر، ووقف على تحقيقها المؤرّخ المصري د. أحمد عزّت عبد الكريم، الذي كان مدرسًا في جامعة دمشق، ولخص في المقدّمة الكتاب، وصوّب بعض النقاط فيه، وهو يلوم محمد سعيد القاسمي أوّل من اكتشف هذا الكتاب وقدّمه للقارئ العربي في نهاية القرن التاسع عشر، لأنّه حذف الأدعية التي كان البديري يذكرها في كتابه، لأنّه قد يكون في تلك الأدعية ما يكشف لنا مزيدًا عن البديري وعن الشام في تلك المرحلة التي لا نعرف عنها كثيرًا.




ونلحظ في المقدّمة الطويلة أنّ المؤرّخ المصري قام بإجمال الكتاب، كما أنّه أورد في الهوامش كثيرًا من التفاصيل والتوضيحات المهمّة للمهتمّين بتلك المرحلة من تاريخ الشام.
ومعروفٌ أنّ الحلّاق يؤدّي دورًا مركزيًّا في أيّ حارة (حيّ) من حارات دمشق. كذلك تشكّل دكّانه (محلّ الحلّاقة) مكانًا أساسيًّا من الأماكن التي ترسم وجه الحارة الدمشقيّة، أو وجهَ مدينة دمشق في المجمل.
عُرِفَ الحلّاق بكونه حرفيًّا متعدّد الصَنعات، كالحلاقة، والطهور، والطبابة، والعطور. وهو رجل حكّاء، يحبّ تبادل الأحاديث، وتمرير القصص من زبون إلى آخر. إنّه يمارس دوره في دكّانه، كما يمارس الحكواتي دوره في المقهى، وهو بالتالي رجل يقصّ الحكايات، ويقصّ الشّعر كذلك. وللمفارقة الغريبة والمجدية، يجمع الفعل "قَصَصَ" بين المعنيين.
ولم يكن البديري يَعرِف أنّه بتأريخه لحوادث دمشق اليوميّة على مدى أكثر من عقدين من الزمن كتب تاريخًا مغايرًا لها. وقد أتاح له انحداره من عائلة حمَّالين أن ينظر إلى التدوين من زاوية الأعباء المُلقاة على عاتق العباد تحت حكم "آل العظم" المنسّبين من قبل الاحتلال العثماني، وأن يصطف مع أبناء جلدته من البُسطاء، مُنافحًا عنهم ومُدافعًا عن قضاياهم، من دون أن يُحابي السلطات، أو يُهادن المسؤولين ويُلمِّع صورهم، بل على العكس يُقرِّعهم باستمرار، ويدعوهم إلى رفع ظلمهم عن الشعب.
وبالرغم من انتقادات الحلّاق الدمشقي اللاسعة لكثير من الأخطاء والممارسات، يبقى البديري وفيًّا لدمشق حتى الصفحة الأخيرة من كتابه، مدافعًا عنها وعن أهلها، وتحديدًا البسطاء منهم. وتحكي يوميّاته قصّة مدينة دمشق زمن "آل العظم" ما بين سنتي (1154هـ و1175هـ/ 1741م و1761م)، وفيها تفاصيل دقيقة عن مظالم الحكام، وعن الوفيات والجرائم، وعن جنون أسعار المواد التموينية.
تنتهي مذكرات البديري الحلّاق، الشاهد على عصره، والمنتج في سرده لفضائها الاجتماعيّ، سنة 1761م، ولا نعرف إن كان ذلك بسبب وفاة المؤلف، أو توقفه عن الكتابة.

تعدّدت الروايات عن أصل المخطوط ومصيره


الكاتب والصحافي اللبناني محمد حجيري يذكر أنّ ثمّة روايتين تتحدّثان عن كيفية الحصول على المخطوط. الأولى تقول إنّ القاسمي الكبير، جَد المُنَقِّح، الشيخ محمد سعيد القاسمي، كان قد اشترى شيئًا من أحد دكاكين الحارة، مصرورًا بورقة، وحينما وصل البيت فتح الورقة فوجد فيها كلامًا نفيسًا، فعاد إلى الدكان وأقنع صاحبه بأن يبيعه هذا الورق الذي يستخدمه للصر، ففعل، وهكذا استطاع أن يحمي المخطوط من الضياع. والرواية الثانية هي أنّ الشيخ الدمشقي ـ من أصل جزائري ومولده ووفاته في دمشق (1268هـ ـ 1338هـ/ 1852م ـ 1920م)، طاهر الجزائري، وهو من أكابر العلماء باللغة والأدب في عصره، اشترى المخطوط من مزاد أقيم لبيع مخطوطات قيمة، بثلاثمئة قرش (يوم كان سعر المخطوط لا يزيد عن خمسة وعشرين قرشًا)، واحتفظ به. وبعد زمن بعيد، اطلع عليه الكاتب والمؤرّخ محمد كرد علي، فأورد ذكره بوصفه أحد مراجع ‏كتابه "خطط الشام"، مع إشارة منه إلى أنّ المخطوط موجود في مكتبة الشيخ طاهر الجزائري، وهذا ما دفع النساخ إلى نسخه، وصار منه أكثر من نسخة.
أمّا الباحث والمؤرّخ السوري سامي مروان مبيض فيرى أنّ كلا الروايتين تفتقدان إلى إثبات، فالمؤكّد أنّ القاسمي قام بتحقيق النصّ قبل وفاته سنة 1900م، وظلّت مسودة البديري طيّ النسيان حتى قيام جمهورية الوحدة، عندما قام المؤرّخ المصري أحمد عزّت عبد الكريم بتحقيقها مرّةً ثانية ونشرها سنة 1959م.
في عام 2018م، صدر في أبو ظبي كتاب عن مشروع "كلمة" للترجمة، للكاتبة الأكاديمية الفلسطينية د. دانة السّجدي، الأستاذة المشاركة في التاريخ الإسلامي في جامعة بوسطن الأميركية، بعنوان "حلّاق دمشق... محدثو الكتابة قي بلاد الشام إبان العهد العثماني (القرن الثامن عشر)" (310 صفحات)، والذي ترجمته د. سرى خريس، الأستاذة المشاركة في النقد والأدب الإنكليزي في "جامعة البلقاء التطبيقية" في عمّان، فيه تحليل عميق لمذكرات البديري، وإشارة إلى أنّ النسخة المطبوعة (نسخة القاسمي) تختلف عن المخطوط الأصلي الذي وضعه البديري.
تقول السّجدي في كتابها: إنّ "القاسمي أنزل نفسه مكان المؤلّف، وأدخل مفردات وعبارات لم تكن موجودة في النصّ الأصلي، كما أنّه غيّر اسم المؤلّف، من (ابن بدير) إلى (البديري)، وهو الاسم الشائع اليوم". وتشير إلى أنّ نسخة من مذكرات البديري، أو ابن بدير، موجودة اليوم في مدينة دبلن الأيرلندية.
وتذكر السّجدي أنّ "هنالك قصّة ممتعة وراء هذا الكتاب، هي أنّ هذا الحلّاق المذكور، اكتشفه عالم من القرن الـ 19، وحقّق واختصر وهذب كتاب الحلّاق، ونشره د. أحمد عزّت عبد الكريم في الخمسينيات تقريبًا، والنسخة المحقّقة والمنقحة موجودة لديّ، وأيّ مؤرّخ يدرس القرنين الـ 18 و19 يعرف بوجود الحلّاق، ولكن حظي الحسن تجلّى في أنّي وجدت النسخة الأصليّة غير المحقّقة في أيرلندا، تحديدًا في "مكتبة تشستر بيتي"، والفصل الأخير من الكتاب مقارنة بين المخطوطة من القرن الـ 18، ومع مخطوطة القرن الـ 19، وهناك اختلاف كبير، حيث أنّنا نكتشف أجندة عصر النهضة في القرن الـ 19، وما كان هؤلاء يحاولون فعله في التاريخ، ونلاحظ الاختلاف في الطرح بين القرنين بوضوح".



ولاحظت السّجدي في كتابها أنّ ظهور حلّاق دمشق قد يكون بداية الإرهاصات الأولى لظهور الصحافة الدمشقيّة في نهاية القرن التاسع عشر، إذ ترى أنّ "تاريخ اليوميّات الذي ظهر في القرن الثامن عشر في دمشق ترافق مع دخول مواضيع جديدة في نصوصه، مثل المغامرات الجنسيّة، وقائمة الطعام، ورصد الفوضى، وبالتالي كانت فحوى هذا التاريخ أشبه بالصحيفة المحلّية، وعلى ذلك ترى أنّ كتابات القرن الثامن عشر ربما كانت رافدًا لعصر الصحافة في القرن التاسع عشر".
وبالعودة إلى الباحث والمؤرّخ السوري سامي مروان مبيض، فإنّه يؤكّد أنّه تواصل مع المكتبة الأيرلندية، ووجد فيها مخطوط البديري تحت الرقم 3551Ar- ، لافتًا إلى أنّ ملكية المخطوط تعود إلى صاحب المكتبة، وهو رجل أعمال أميركي يدعى "ألفرد شستر بيتي"، أحد أهمّ جامعي النفائس العالميّة، الذي عاش سنواته الأخيرة في دبلن، وكانت مقتنياته تضمّ، إضافة لأوراق البديري، مفروشات الملكة ماري أنطوانيت، ونسخًا نادرة جدًا من القرآن الكريم، وتبيّن في سجلّات المكتبة أنّه اقتنى مخطوط البديري من القاهرة سنة 1928م.
ويبدو من هوامش النصّ الموجود في أيرلندا، والكلام هنا لمبيض، أنّ نسخة دبلن هي نسخة القاسمي المنسوخة عن الأصل، وليست نسخة البديري الموجودة حتى اليوم في "المكتبة الوطنية" في دمشق (تعرف حاليًا بـ"مكتبة الأسد")، وقد يكون القاسمي نسخ المخطوط بيده عندما قام بتحقيقه، وأعاد الأصل إلى الشيخ طاهر الجزائري، الذي قام بوضعه في "المكتبة الظاهرية"، قبل سنوات طويلة من نقل معظم محتوياتها إلى "مكتبة الأسد".

الجمع بين النثر والسجع والشعر
دمشق القديمة 

اهتمّت يوميّات البديري بالعوامّ والمهمّشين، بقدر اهتمامها بالأعلام والفقهاء والولاة والحكّام. فهي تأريخ لعلماء، وأولياء، وشعراء، وحلّاقين، وصبّاغين. تأريخ يتناول خيّاطين، وأشرافًا، وورّاقين، ومجلّدي كتب، وعطّارًا، وابن طبّاخ، ومؤرّخًا كان يصف أدعية شافية، ومراهقين، وحدّادين، ونساءً يدخّنّ علانية، وبعض رواة القصص والحكواتيّة، وغيرها من الشخصيّات.
ويحتوي كتاب البديري على قصص وفضائح لرجال ونساء دمشق، وعلى قصص انتحار وجرائم، وكذلك على تراجم أعلام وعلماء رحلوا في تلك الفترة، و"الترجمة في سياق ما قبل الحداثة، كالنعي، تُشهر موت فرد، وتدرج إنجازات المتوفّى".
ولم يعتمد البديري على نمط واحد من أنماط الكتابة فيه، بل جمع بين النثر والسجع والشعر والمواليا والتأريخ البسيط، فأنتج لنا خريطة ملوّنة نابضة قادرة على تجسيد المدينة من خلال هذا السرد. من ذلك إشارات البديري في أكثر من موقع ضمن مؤلّفه إلى الأوضاع المعيشية الصعبة في دمشق، بقوله مثلًا: "غير أنّ أهل الشام في أكدار من غلاء الأسعار، وبخل التجار، وانفساد الأحرار، وضعف الصغار، وعدم زحمة الكبار، والحكم لله الواحد القهار"، وأيضًا في بداية تدوينته لعام 1156هـ: "وقد هلَّ هذا العام الجديد، ورطل الخبز الشامي بأربع مصاري، وبخمسة، ورطل الأرز بثمانية مصاري، وأوقية السمن بستة مصاري ولا توجد، مع أنّه كان من نحو شهر كل رطل وثمانية أواق بقرش،... ولكن الخزان ما أبقى للفقراء قمصان، وهذا الغلاء ما سمعنا بمثله أبدًا وقد طال المطال، والناس منتظرة للفرج من الملك المتعال".
ويكتب في تدويناته أيضًا عن بذخ أسعد باشا العظم في بناء قصره، وتفضيله عماره على عمار بيوتات أهل بلده: "وعماير حكام الشام وأكابرها صايره... وإذا طلب الفقير أن يعمر داره ما يلتقى له معمار ولا نجار... ولا خشبة ولا مسمار... ولا تراب ولا أحجار... وأخذ الماء من أغلب القنوات أسعد باشا وأوصله إلى السرايا، حتى قطعت السبل والقنى... وهذا شيء ما أدركناه في جيلنا ولا حُكي في الشام من قبلنا".
كما يحدّثنا البديري في ثنايا كتابه عن احتفالات لم تشهد الشام مثيلًا لها، مرّةً بمناسبة طهور أحمد ابن سليمان باشا، وأخرى في عرس ابنة أخ فتحي أفندي الدفتري، وغيرها. ويكتب أيضًا عن وفاة علمائها ومشايخها، وعن تصرُّفات مومساتها، وعن بعض الجرائم الغريبة والحوادث التي ترقى لأن تتصدر الصفحة الأولى من صحف الفضائح. من تلك الحكايات امرأة بترت عضو زوجها بعدما علمت بزواجه من أخرى، ورجل عائد من الحج فوجد امرأته ازدادت جمالًا، فما كان منه إلّا أن قتلها لظنه أنّها على علاقة مع آخر، وآخر اكتشف أنّ صهره كان على علاقة جنسيّة مع نساء غير أخته، فشكاه للأعيان الذين تجاهلوه تمامًا، لذلك توجّه الرجل إلى الجامع وصلى صلاة الجنازة على نفسه، ثم صعد إلى المئذنة وصاح قائلًا: "يا أمة الإسلام الموت أهون ولا التعريص مع دولة هذه الأيّام"، ثمّ قفز من المئذنة.
الكاتب والشاعر السوري موفّق الحجّار يرى أنّ "جرأة ابن بدير الحقيقيّة تكمن في فعله البسيط والمذهل في آن واحد، أنّه كتب كتابًا. لقد وجد الثقة الكافية لاكتساب سلطة مكّنته من التمثّل بالعلماء {...} فألّف كتابًا في التاريخ". وأضاف: "كَتب وكأنّه يحادث الآخر، وهذا أمر يعزى إلى تعلّمه القائم على ثقافة شفاهيّة، إذ اكتسب ثقافته بالمجمل من زبائنه العلماء والفقهاء. لقد تعلّم أثناء ممارسته لفعل الحلّاقة، فكيف استطاع نصّه توليد هذا الفضاء الاجتماعي؟".
وتسجِّل الأكاديمية والباحثة المصرية د. أمينة البنداري في كتابها "عوام السلاطين... الاحتجاجات الحضريّة في أواخر العصور الوسطى في مصر والشام"، الذي نقله إلى العربية عثمان مصطفى، ملحوظة مهمّة حول الكتابة التاريخية في العصرين المملوكي، ثم العثماني، في مصر والشام، وهي تَواري ذكر الحكام، الذين كانوا أبطالًا أساسيين لكتب التاريخ، فلم تعد إنجازاتهم ومناقبهم هي محور ما يسجّله المؤرّخون، وظهر عامّة الناس وذكر أحوالهم أساسًا في الكتابات التاريخية؛ أخبار السوق والعجائب والجرائم والاحتجاجات، وهكذا ظهرت كتابات أمكن من خلالها التعرّف على شكل الحياة اليوميّة لعامة الناس في ذلك العصر.
ولم يكن العامّة هم موضوع الكتابات فقط، بل شاركوا في الكتابة أيضًا، فلم يكن الحلّاق هو الوحيد الذي خاض غمار التأريخ من خارج فئة العلماء، فقد دخل لهذا المجال مزارعون شيعيون من جنوب لبنان، وموظف سنِّي بسيط من حمص، وقسيس من طائفة الروم الأرثوذوكس، وجنديان من دمشق، وهؤلاء لم يكتبوا عن الماضي، بل كتبوا ما يشبه اليوميّات، فسجّلوا فقط الأحداث التي عاصروها، بعيدًا عن إنجازات الحاكم التي اعتاد المؤرّخون الكتابة عنها.
تسمي السّجدي هؤلاء بـ(محدثي الكتابة)، وهو مصطلح تستوحيه من (محدثي النعمة)، وإن لم تعنِ به أيّ ازدراء، فهي تؤكّد أنّ هؤلاء أدخلوا في التأريخ أمورًا لم تكن مقبولة من قبل، واشتقوا كثيرًا منها من خلفياتهم الاجتماعية والثقافية، فقدّموا أدبًا جديدًا.
ونذكر ممّن رصدوا يوميّات وحوادث دمشق قبل البديري الحلّاق، المؤرّخ ابن كنّان الصالحي (1663م ـ 1740م)، الذي نشأ في أسرة ميسورة، وعمل مدرّسًا في "المدرسة المرشديّة" في دمشق، وكتب تأريخًا يوميًّا. كذلك حسن بن الصديق الدمشقيّ (ت: 1772م)، ومصنّفه "غرائب البدائع وعجائب الوقائع"، "دار المعرفة" (دمشق 1988م)، والذي شمل حوادث وأخبارًا سمعها المؤلّف ودوّنها. وهنالك أيضًا محمد الحافظ بن حسين الصيداوي النجّار (ت: 1758م)، صاحب "الكشف والبيان عن أوصاف خصال شرار أهل الزمان" (المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات"، الدوحة 2019م).


المصادر والمراجع:
الكتب:
1 ـ شهاب الدين أحمد بن بدير الحلّاق، "حوادث دمشق اليوميّة من (1154هـ إلى 1176هـ)"، تحقيق: فارس أحمد العلاوي، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق 2022م.
2 ـ الشيخ أحمد بن بدير الحلّاق، "حوادث دمشق اليوميّة (1154هـ - 1175هـ/ 1741م ـ 1762م)"، تنقيح: محمد سعيد القاسمي، تقديم وإعداد وضبط: خيري الذهبي، منشورات "الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق" 2008م.
3 ـ الشيخ شهاب الدين أحمد بن بدير الحلّاق، "حوادث دمشق اليوميّة (1154هـ - 1175هـ/ 1741م – 1762م)"، تنقيح: محمد سعيد القاسمي، تحقيق: أحمد عزّت عبد الكريم، مطبوعات "الجمعية المصرية للدراسات التاريخية"، القاهرة 1959م.
4 ـ د. دانة السّجدي، "حلّاق دمشق... محدثو الكتابة في بلاد الشام إبان العهد العثماني (القرن الثامن عشر)" ترجمة د. سرى خريس، مشروع "كلمة" للترجمة، أبو ظبي: دائرة الثقافة والسياحة، طبعة أولى عام 2018م.
5 ـ د. أمينة البنداري، "عوام السلاطين... الاحتجاجات الحضريّة في أواخر العصور الوسطى في مصر والشام"، ترجمة عثمان مصطفى، "المركز القومي للترجمة"، القاهرة 2019م.

المقالات:
1 ـ سامي مروان مبيض، مقالة بعنوان: "أوراق الحلّاق الدمشقي... من باب بريد إلى دبلن"، نشرت في موقع "رصيف 22"، بتاريخ: 30/ 06/ 2020م.
2 ـ موفّق الحجّار، مقالة بعنوان: "دمشق دكّان الحلّاقة... الخفة في استعراض حياة ثقيلة"، نشرت في موقع "فسحَة - ثقافيّة فلسطينيّة"، بتاريخ: 10/ 05/ 2022م.
3 ـ محمد حجيري، مقالة بعنوان: ""حلّاق دمشق" لدانة السّجدي... المدينة بين التصوف وبائعات الهوى"، مقالة نشرت في موقع "المدن" اللبناني، بتاريخ: 28/ 01/ 2019م.
4 ـ مصطفى عباس، مقالة بعنوان: ""حوادث دمشق اليوميّة": إضاءة فترة مجهولة من تاريخ الشام"، نشرت في موقع جريدة "القدس العربي" اللندنية، بتاريخ: 01/02/2012م.
5 ـ محمد تركي الربيعو، مقالة بعنوان: "حوادث دمشق 1908 ـ 1909... لصوص ولباس إفرنجي"، نشرت في موقع جريدة "القدس العربي" اللندنية، بتاريخ: 14/ 10/ 2022م.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.