}
عروض

"العرب بين الأنوار والظلمات...": رحلة في عالم الحضارات

سليمان بختي

25 أغسطس 2023

يناقش هاشم صالح في كتابه "العرب بين الأنوار والظلمات: محطات وإضاءات" (دار المدى، 400 صفحة) معركة الأنوار ضد الظلمات... وذلك من خلال التراث العربي الإسلامي نفسه، أو من خلال التراث الأوروبي الحديث. إنها مسافة التفاوت التاريخي بين العرب والغرب، هم (أي الغرب) خاضوا المعركة ضد ظلاميتهم منذ القرن السابع عشر على يد سبينوزا، وحتى القرن التاسع عشر على يد رينان، وفيكتور هوغو، وغيرهما. أما عند العرب، فالمعري مات عام 1057، أي قبل ألف سنة تقريبًا، ولم يظهر مفكر كبير بعده إلا مؤخرًا في القرن التاسع عشر، أو العشرين (طه حسين مثلًا).
كل رواد النهضة العربية مروا من أوروبا: رفاعة الطهطاوي، أحمد لطفي السيد، طه حسين، ميخائيل نعيمة، جبران خليل جبران، ومحمد مندور وعشرات غيرهم... فالعرب في حاجة لقراءات متعددة، وتوسيع الآفاق المعرفية. ينبغي أن يخرجوا من أنفسهم قليلًا، من انغلاقاتهم اللاهوتية وتحجراتهم المزمنة.
يستغرب هاشم صالح سيطرة الكتب الظلامية على برامجنا التعليمية سيطرة شبه كاملة في بعض البلدان العربية. ويتساءل: هل نعلم أن الفيلسوف العربي الأول الكندي الذي عاش ومات قبل أكثر من أحد عشر قرنًا، وكان يقول أشياء رائعة عن الدين، وكأنها كتبت البارحة؟ وهل ابن تيمية أكثر إسلامًا من ابن عربي وابن رشد؟ وهل حسن البنا أكثر إسلامًا من العقاد وطه حسين؟
يقر هاشم صالح بحقيقة "لم أفهم معنى الدراسة التاريخية النقدية للتراث الإسلامي إلا بعد أن خرجت إلى فرنسا". وهذا يشير إلى تردي واقع الدراسات التاريخية التراثية في بلادنا.
الفيلسوف هو من يحدث خرقًا في تاريخ الفكر، أو ثغرة في تاريخ أو في جدار التاريخ المسدود... إذ ليس في كل يوم يظهر فيلسوف كبير! فمثلًا، عدد الفلاسفة الكبار لا يتجاوز 20 على مدار 2500 سنة من تاريخ الفلسفة، مثل أفلاطون، ديكارت، سبينوزا، جان جاك روسو، كانط، هيغل، ماركس، نيتشه، فرويد... ولنرَ ما الذي فعله الفلاسفة!
ما الذي فعله سبينوزا بالضبط قبل 350 سنة تقريبًا؟ لم يصفق لدعاة المسيحية السياسية، أو المسيحية... إنما فكك مقولاتهم من جذورها تفكيكًا، وأسقط مشروعيتهم اللاهوتية، أو الدينية، وعراهم من حقيقتهم. كانت الطائفية تمثل الداء العضال، وتجعل الناس يكرهون بعضهم بعضًا، بل يذبحون بعضهم بعضًا على الهوية. لم يكن أي جار يطيق جاره إن لم يكن من طائفته، أو مذهبه. لذلك كانت أحياء الكاثوليكيين منفصلة كليًا عن أحياء البروتستانت. ثم جاء روسو وقال هذه العبارة الأساسية: "كل من يكفّر الآخرين يجب طرده من الدولة".
سارتر، مثلًا، اتخذ في الخمسينيات والستينيات موقفًا صارمًا من الاستعمار الفرنسي في الجزائر. قادة اليمين طالبوا ديغول بإخراسه، أو اعتقاله. لكن ديغول رد عليهم: "لا أحد يسجن فولتير".
نحن، كعرب، لسنا استثناءً على الجنس البشري... هذه هي مسيرة التاريخ البشري. لقد بدأت عاصفة التاريخ العربي، ابتدأت الزوابع والأعاصير، ولن تنتهي عما قريب. فهنالك احتقانات تاريخية ضخمة متراكمة على مدار ألف سنة، وليس من السهل تجاوزها... العقبة التراثية الكأداء كانت أكبر منا جميعًا. ابتدأت تصفية الحسابات التاريخية للعرب مع أنفسهم. فلا تسامح من دون تنوير، ولا تنوير من دون تسامح. لم نشهد بعد حركة تنويرية كما حدث في أوروبا. قال فولتير: "قد أختلف معك في الرأي، ولكني مستعد لأن أضحي بحياتي لكي تستطيع التعبير عن رأيك".




يعطي هاشم صالح أهمية قصوى للغة وقوتها وفعاليتها. كل يوم يجب أن نستكشف أو نخترع عشرات المصطلحات العلمية والفلسفية، وإلا فإن لغة الضاد سوف تضمر. سوف تضمحل تدريجيًا وتموت. لا معنى لأمة عربية دون لغة عربية. وفي رأيه، ينبغي أن ننقل النظريات العلمية الحديثة من فيزيائية وكيميائية وبيولوجية وفلكية إلى اللغة العربية... فالكاتب الفرنسي الكبير جان دورميسون كان قد كرس كتابًا كاملًا لشرح ملحمة العالم الكبرى (نظرية الانفجار الكبير). مشكلة ثقافتنا العربية ـ وتاليًا لغتنا العربية ـ هي أن المجال المسموح التفكير فيه ضيق جدًا، والمجال الممنوع التفكير فيه واسع جدًا.
الأصولية المسيحية ظلت ترفض نظرية كوبرنيكوس لمدة 200 سنة، حتى بعد إنتشارها وترسخها. وظلت ترفض تطبيق المنهجية ـ النقدية التحررية العظيمة على النصوص الدينية المقدسة من التوراة والإنجيل لمدة 300 سنة تقريبًا. والكنيسة الكاثوليكية البابوية الرومانية انتظرت لعام 1965 للاعتذار عن أخطائها (مجزرة سانت بارتيليمي الشهيرة التي ارتكبت عام 1572 ضد البروتستانت). كانت مذبحة حقيقية سقط فيها عشرات آلاف الضحايا.
هنالك مستشرق فرنسي اسمه موريس لومبار أصدر كتابًا بعنوان "الاسلام في عظمته" عام 1962، وطبع طبعة ثانية. تحدث فيه عن عظمة هذا الدين طيلة العصور الذهبية، أي القرون الستة الأولى من عمر الحضارة الإسلامية...  في ذلك الحين كانت الحواضر المحركة للحياة الاقتصادية والثقافية العالمية موجودة في العالم الإسلامي، أي في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة. العالم العربي والإسلامي بمجمله لم يخرج من مرحلة الطفولة العقلية، فهو لا يزال يرفض تطبيق المنهج التاريخي النقدي على نصوصه التأسيسية. كانت سيرة الرسول الأكرم عطرة قبل ظهور الدواعش، وحركات التعصب والتزمت والإكراه في الدين. علماء أوروبا وفلاسفتها أشادوا بعظمة النبي العربي كثيرًا: فولتير، جورج برنارد شو، توماس كارلايل، غوته، تولستوي، فيكتور هيغو، ولامارتين.
على سبيل المثال، يقول برنارد شو: "على الدوام، كنت أكن احترامًا بالغًا للدين الذي دعا إليه محمد... ينبغي أن يلقب بمنقذ الإنسانية. لقد كان مفعمًا بالثقة بالله وبرسالته النبوية"...
يشير صالح إلى مجموعة كتب غيرت وجه التاريخ، أهمها: "اعترافات" جان جاك روسو، وكتابه "إميل"، و"العقد الاجتماعي"، الذي أصبح "إنجيل الثورة الفرنسية"، وكتاب "مقالة في المنهج" لديكارت، و"نقد العقل في التاريخ" لهيغل... مؤكدًا أن الكتب الفلسفية لا تلغي بعضها بعضًا كما تفعل الكتب العلمية. كتاب "أصل الأنواع" لداروين أثار جدلًا ومزيدًا من ردود الفعل، ولا يزال. وكتاب "تفسير الأحلام" لفرويد الذي اكتشف قارة الوعي الباطن المظلم السحيق. ولا ينسى كتاب سبينوزا الذي فكك الأصولية اليهودية ـ المسيحية: "مقال في اللاهوت ـ السياسي"، وكتاب نيتشه "المسيح الدجال"، و"ضد المسيحية والمسيحيون ولكن ليس ضد المسيح ذاته". وكانط وكتابه الشهير: "الدين ضمن حدود العقل فقط".
ونحن في العالم العربي والإسلامي اليوم أكثر ما نحتاجه هو الكتب التنويرية في الدين... يرى صالح أن هذا النقص حاول سده محمد أركون، والمفكر الباكستاني الشهير فضل الرحمن. وأيضًا عبد النور بيدار الناشط في باريس. فكتاب "نقد العقل الاسلامي" لأركون سوف يغير وجه التاريخ العربي والإسلامي عندما يُفهم على حقيقته. بالإضافة إلى كتابه الضخم "قراءات في القرآن".
كما يجب أن يترجم إلى العربية كتاب عظيم لعالم اللاهوت السويسري الشهير هانز كونغ بعنوان "هل الله موجود؟ جواب على مسألة الله في الأزمنة الحديثة". عدا عن كتاب مهم آخر في فلسفة العلوم للباحث الفرنسي جان ستون بعنوان: "هل لوجودنا على هذه الأرض معنى؟ تحريات، استكشافات علمية وفلسفية"، وهو كتاب يحاول أن يحل لغز الكون. حسب قول العالم الفرنسي الشهير باستور في جملته الرائعة: "القليل من العلم يبعد عن الله، والكثير منه يعيد إليه".
يخصص هاشم صالح فصلًا في كتابه بعنوان "كتب يجب أن تقرأ قبل فوات الأوان"، وينقل قولًا للمغربي محمد عابد الجابري، متحسرًا قبل وفاته: "آه، ليت العمر امتد بي قليلًا...  هناك كتب عديدة كنت أشتهي قراءتها قبل أن أموت".
أما الكتب التي ينصح الكاتب بقراءتها، فهي: "دون كيشوت" للمؤلف دي سرفانتس، وهو محاكاة ساخرة للفروسية الإقطاعية، و"ألف ليلة وليلة"، وهو أشهر عمل أدبي عربي في الخارج، و"رسالة الغفران" لعبقري العباقرة أبو العلاء المعري عن عالم ما بعد الموت، وكتاب "البخلاء" للجاحظ، مؤسس النثر العربي، و"اعترافات" جان جاك روسو، الذي انتقد بحدة الأصولية المسيحية، وتعرض للاضطهاد، ولمحاولات اغتيال عديدة. عدا عن كتب علم الفلك الفيزيائي، وتحديدًا تلك التي تحكي قصة "البيغ بانغ"، قبل حوالي 14 مليار سنة! وأهم كتاب في هذا السياق هو "الواقع المحجوب أو اللامرئي" لبرنار ديسبانيا 1994.




ولكن ما هو أهم كتاب ظهر في القرن الحادي والعشرين حتى الآن بحسب صالح؟ عنوانه: "قرآن المؤرخين"، وقد شارك في إعداده 30 باحثًا من مختلف جامعات العالم، واستغرق العمل فيه 5 سنوات. وهو عبارة عن تفسير تاريخي حقيقي للقرآن غير التفسير التقليدي الشائع... فلكي نفهم القرآن جيدًا ينبغي أن ندرس التوراة والإنجيل أولًا.
يتوقف أيضًا عند كتاب محمد أركون الذي ظهر سنة 2005، وهو مهم جدًا بعنوانه: "النزعة الإنسانية والاسلام". هدف من خلاله أركون إلى القول إن الإسلام الإنساني الحضاري وجد في الماضي إبان العصر الذهبي، ولكنه اختفى كليًا في أيامنا هذه، بل حل محله الإسلام الظلامي المتزمت... أركون مفكر صعب، وعالم متبحر في العلم. يقول أركون إن الحركات الأصولية المعاصرة المهيمنة على الشارع العربي والتركي والإيراني والباكستاني هي حركات مضادة تمامًا للنزعة الإنسانية والحضارية. فهي لا تحترم الكرامة الإنسانية للآخر المختلف عنهم، فهم يرفضون أي ربط بين الوحي القرآني، وبين الوحي التوحيدي السابق له رفضًا قاطعًا.
يقف الكاتب في صف المتصوف ابن عربي لا في صف فيلسوف عقلاني كابن رشد. فالأخير لم يكن فيلسوفًا فقط، وإنما فقيها متشددًا... وابن عربي لم يكن متصوفًا كبيرًا فقط، وإنما أيضًا عالمًا وفيلسوفًا كبيرًا، وفلسفته تعتمد على نظرية وحدة الوجود. وهي نظرية تقول إن الكون كله يصدر عن الله، كما تصدر الجزئيات عن الكليات. لطالما ردد ابن عربي عبارته المذهلة "ما في الوجود إلا الله"، بمعنى أنه دعا إلى احترام كل الأديان من دون استثناء. ابن رشد في حياته كلها لم يكن يعتقد أن "غير مسلم" يمكن أن يحظى بمرضاة الله، أو يدخل الجنة. أما ابن عربي فلم يكفر أحدًا من خلق الله.
هنالك صفحات يمزج فيها المؤلف الذكريات بالمواقف، فيذكر أنه طيلة إقامته الباريسية لمدة 30 عامًا تأثر بكتاب جان جاك روسو "الاعترافات"، وهو كتاب مفعم بالنزعة الإنسانية... "لماذا فعلت بي ذلك يا روسو؟" صرخة الخادمة ماريون بقيت بمثابة كابوس رافقه طوال حياته، وهي قصة منديل سرقه روسو في المنزل، حيث يعمل، كي يهديه لماريون، الأمر الذي تسبب لكليهما بالطرد.
يرى الكاتب أن الذي أسس الضمير الأخلاقي الصارم في الثقافة الأوروبية هم الفلاسفة المصلحون، وليس رجال الدين المتزمتون، وأن الربيع الأوروبي نجح لأنه ربيع جاء بعد تعزيل العقليات الأصولية وتفكيكها لا قبله. فلا ربيع سياسي من دون ربيع فكري. يقول "ميشليه" عام 1844 بعد موت فولتير بستة وستين عامًا فقط: "إنه ليس أقل من ثورة على هيئة بشرية...  ذلك القرن، قرن التنوير... أنظروا إليه كيف يصعد ويتقدم بأي خطوة جارفة!... إنه إعصار من النور والطاقة الخلاقة... إنه فولتير!".
لفولتير قول مأثور: "كل شيء ممكن في اللحظة التي يدرك فيها الشعب أن له عقلًا يفكر به...  تثقيف الشعب أو تعليمه هو الخطوة الأولى نحو الخلاص".
لم يكن فولتير يعاني من مشكلة طائفية على المستوى الشخصي، فهو ينتمي إلى مذهب الأكثرية الدينية، أي المذهب الكاثوليكي... لكنه كرس حياته للدفاع عن الأقلية البروتستانتية المضطهدة والمحتقرة. وهنا تكمن عظمته. وهو من جسّد صورة المثقف الملتزم لأول مرة في تاريخ فرنسا، بل هو الذي حول المثقف إلى نجم النجوم. معروف أن فولتير وضع كتابه "التسامح" سنة 1763، الذي لا يتجاوز 100 صفحة، إثر حادثة مروعة حصلت ضد عائلة جان كالاس (اتهم الأب خطأ بأنه قتل ابنه لأنه تحول إلى الكاثوليكية).
ينتقل المؤلف إلى الحديث عن الفيلسوف الفرنسي المعاصر إدغار موران، وعن الفلاسفة الذين أثروا فيه: هيراقليطس صاحب مقولة "أننا نحيا بالموت ونموت بالحياة"، وسبينوزا الذي كان يؤمن بأن الطبيعة خلاقة بشكل ذاتي، وليست في حاجة إلى أمر من السماء، أو من فوق، لكي تبدع وتخلق. كما تأثر موران بجان جاك روسو، الذي أكد على أهمية العواطف والمشاعر الإنسانية مقابل العقل. وموران في دوره يؤكد على أن الدين هو روح عالم بلا قلب ولا روح...
ينتقل الكاتب إلى الحديث عن الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل، الذي يطرح السؤال في كتبه: لماذا لم تمت الفلسفة؟ الدين تراجع وانحسر... ثم يطرح سبونفيل السؤال التالي: "هل نحارب الدين؟ لا، أبدًا... فالعدو ليس الدين، بل الفهم الظلامي والخاطئ للدين. فهو يرى أنه على الغرب أن يحارب على جبهتين اثنتين لا جبهة واحدة: جبهة الظلامية الدينية، وجبهة العدمية الإلحادية. يقول سبونفيل الذي عانى من انتحار أمه بسبب معاملة أبيه القاسية لها: "لا أحد ينجو من طفولته مهما حاول... والفلسفة هي عزاء لمن ليس له عزاء في هذا العالم".
في كتابه "متعة الفكر: مدخل إلى الفلسفة"، يطرح سبونفيل السؤال: "ما هي الفلسفة؟ والجواب أنها علم العلوم... الحياة صعبة، وغالبًا مخيفة، وأحيانًا مرعبة وفجائعية، ولولا ذلك لما احتجنا إلى الفلسفة... فالفيلسوف هو المفكر الذي يذهب إلى أعماق الأشياء". وحول رسالة الفلسفة، يؤكد المفكر الفرنسي: "إن مهمتها تكمن في تعرية الأوهام المؤدلجة والأحكام المسبقة من طائفية وعنصرية...  والفلسفة معركة ضارية سلاحها العقل".
يختار هاشم صالح من مؤلفات لوك فيري كتاب "أجمل قصة لتاريخ الفلسفة" الذي ألم بتاريخ الفلسفة منذ حوالي 3000 عام حتى اليوم. ويستعرض نظريات الكبار، من هيزيود، وهيراقليطس، انتهاء بميشيل فوكو، ونيتشه، وفرويد، وسارتر. ولكي يستعرض المؤلف تاريخ الفلسفة بشكل منهجي وواضح فإنه يقسمه إلى خمس فترات أساسية: العصور اليونانية ـ الرومانية القديمة، والعصور المسيحية، ومن ضمنها الفلسفة الاسلامية، ثم عصر النهضة، وزمن التفكيك... أما المرحلة الأخيرة فيدعوها المؤلف ثورة الحب.
ويرى هاشم صالح أن الكاتب اللبناني أمين معلوف هو من دون شك أحد أبرز التنويريين العرب في هذا العصر، فهو يطرح مسألة الهوية، ويسأل: "هل ستتفكك دول المشرق العربي إلى عناصرها الأولية، كما تفككت يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا؟". هذا هو السيناريو الجهنمي الذي يرعب السوريين والمنطقة حاليًا. هل سيتفكك العراق... ولبنان؟ يشرح أمين معلوف: "علاقتي مع مليار مسلم هي اللغة العربية، وعلاقتي مع مليار مسيحي هي العقيدة المسيحية. وبالتالي أنا شخص ذو هوية تناقضية... أنا لبناني وفرنسي، ولست لبنانيًا فقط، أو فرنسيًا فقط. يستنتج أن الهوية على عكس ما نظن ليست معطى جاهزًا مرة واحدة إلى الأبد. الهوية ليست جامدةً...". يثمن صالح عاليًا موقف معلوف من الإسلام، إذ يقول "أدهشنا معلوف إذ قال إن الإسلام ليس دينًا متعصبًا في جوهره وأصله أكثر من بقية الأديان، بل ذهب إلى القول إن الإسلام أكثر تسامحًا من المسيحية طيلة العصور الوسطى القديمة". ويقتبس عن معلوف: "سوف أناضل طيلة حياتي كلها ضد الفكرة التي تقول إن المسيحية هي دين التسامح، وأن الإسلام هو دين التعصب. هذا ليس صحيحًا على الإطلاق". معلوف يرفض أن ينغلق على نفسه داخل قفص أيديولوجي معاد للإسلام، كما يفعل المحافظون الجدد في الغرب.
ماذا يجري الآن في العالم العربي؟ يرى صالح أن داعش تشغل العالم حاليًا...  المفكر الايطالي أومبرتو إيكو يقول في كتاب له صدر بعد ضربة 11 سبتمبر/ أيلول إن العامل الثقافي هو الذي سيحسم المعركة بين الغرب والتطرف الإسلامي، وليس العامل العسكري، أو الحربي، أو التكنولوجي. ويقول بالحرف الواحد: "لا ريب في أن لهذه الثورة المعلوماتية فوائد عظيمة لا تنكر. ولكن ينبغي الاعتراف بأن شبكات التواصل الاجتماعي، كالفيسبوك وسواه، أعطت حق الكلام والتعبير لجحافل لا تعد ولا تحصى من الحمقى والأغبياء والمعتوهين". ويرى إيكو أنه إذا ما ألقينا نظرة على التاريخ لوجدنا أن الغرب كان دائمًا راغبًا في معرفة الحضارات الأخرى لأسباب اقتصادية. فهو يريد أن يتوسع ويغتني... لكنه غالبًا كان يحتقر الثقافات الأخرى الغريبة عنه.
يختم هاشم صالح كتابه مراجعًا بعض المقابلات والحوارات التي أجريت معه، ومنها: "حياتي، فكري، مراجعاتي". ويعترف أن دمار سورية الحالي يؤرقه على الرغم من أنه كان يتوقعه... وأنه يتخيل أنه ولد في العصر الحجري، أو في العصور البدائية السحيقة التي سبقت ظهور الحضارة وميلاد البشرية. ويعترف أنه يعاني من عقدة طفولية يوم رأى أمه تحترق أمام عينيه ثم تموت لاحقًا في المستشفى وهو صغير. فتزوج أبوه الشيخ المتدين من امرأة وجلبها إلى البيت، وكانت تعامله وأخواته الصغار معاملة قاسية عنيفة. "أريد تصفية حساباتي مع رجال الدين الظلاميين الإرهابيين وأولهم أبي...".
وينقل كيف صرخ مرة المفكر حسن حنفي في وجهه: "يا أخي! صاحبك أركون يستطيع أن يقول ما يشاء عن التراث، لأنه يعيش على ضفاف نهر السين، وأنا أعيش على ضفاف نهر النيل!... كيف تريدني أن أتنفس؟ لا أستطيع".
كتاب "العرب بين الأنوار والظلمات" هو أشبه برحلة فكرية فلسفية فيها محطات وإضاءات ومعالم للتفاعل الحضاري والفكري والفلسفي والمعاناة الذاتية والموضوعية التي تعيد إنتاج الفكر.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.