الفنان التشكيلي السوري محمود الجوابرة يطوي علبة الألوان، وينحي فرشاته مؤقتًا حين ينتقي من مشاهد حياته العامرة بعض ما عاشه في مدينته ومحافظته عموما من حكايات هي بالمعنى المألوف استثنائية ونادرة ليشعل بها ومن حولها نار السرد الروائي في عمله الروائي الأول والاستثنائي "عرق التين"، فيذهب وراء تلك الحكايات الخارجة عن المألوف كي ينير مساحة الوعي عن ذاكرة فردية تطفح بعشق الحياة وفرادة رؤى المثقف ونظره إلى كثير مما يدور حوله.
محمود الجوابرة، في روايته الأولى "عرق التين" (منشورات دار كنعان - دمشق- 2024)، يقدّم نشيد الجنون الجميل لمجموعة من المثقفين المبدعين الذين عاشوا محنة الخروج على "مألوف" الحياة اليومية للمجتمع، وما تفرضه من "واقعية شائنة" تذهب بأحلامهم ورؤاهم وتطحنها بقسوة تدفعهم في غالب الأحيان إلى اجتراح ردود أفعالهم التي تنتمي لمفهومهم المختلف. وهي ردود أفعال تصبح في وقتها وأساليبها تعبيرات إنسانية منطقية ومفهومة على ما في الواقع الاجتماعي من تخلف يورث القسوة والفشل ويكرّس صيغًا متباينة وبائسة من الخنوع لمفاهيم وأفكار بالية ومغرقة في انتسابها إلى دهور سحيقة لا تمثّل العصر وما شهده ويشهده من تطورات كبرى.
بمجموعة من المبدعين تنهض الرواية وتؤثث معمارها، لكنها مع ذلك تجعل المكان بالذات هو البطل الرئيسي الذي تنطلق منه خيوط السرد، والذي هو في الوقت ذاته "بقعة ضوء" كبرى تنقلنا إلى عوالم الطبيعة حيث يتحول المكان إلى معادل للوجود يشير للحياة ذاتها. في "عرق التين" يؤثث محمود الجوابرة بنيان روايته بحكايات متعددة تلعب الطبيعة فيها دورًا رئيسيًا يمنح الأبطال "فضاء" مفتوحًا للتعبير عن وجودهم وأحلامهم وحتى عبثهم، ونرى أن "العبث" بالذات جاء في الرواية نوعًا من الاحتجاج الداخلي العميق الذي يستلهم فكرة التعويض عن رتابة المجتمع وطغيان تقاليده باجتراح عادات وتقاليد تنتمي وتسير في مناخ أقرب إلى عالم زوربا وما فيه من مكانة كبرى للحلم. نرى بعض ذلك في علاقة هؤلاء الأبطال الروائيين بالطبيعة التي تتجاوز كونها مكانًا وتتحول إلى وجود روحي له علاقته العميقة بقيم إنسانية تبدو من خلال شفافيتها نوعًا من التعويض الحلمي عن بؤس الواقع وصعوباته.
في الرواية يختار الكاتب مشهدًا سرياليًا نرى خلاله أفراد هذه المجموعة في رحلة ترويح في أحد الأودية، رحلة يبلغون خلالها ذروة الترويح العبثي في بحثهم عن الرغبة العميقة في التحلل من كافة القيود، وهو تحلل إرادوي يبلغ ذروته مع "حفلة الرقص العاري" وما فيها من صخب يخلط الغناء بالرقص والصراخ ويضع الجميع في بوتقة حارة من النشوة والفرح ويشعل أرواحهم في انتشاء جماعي أساسه الجموح الفردي للتعبير عن الذات. هي بمعنى ما "رحلة جماعية" في بحر من ألم ومعاناة عدم التكيف مع العالم المحيط بما هو كينونة صارمة ولها ضغطها النفسي على أرواح أفراد المجتمع.
إنها حكاية أو بالأدق حكايات مجموعة من المبدعين ومنهم الكاتب والفنان التشكيلي والشاعر والموسيقي في مدينة "درعا" في جنوب سورية يحمل أفرادها اتفاقهم مثلما يحملون اختلافهم وتميزهم ورؤاهم "الفادحة" في عرف المجتمع و"قوانينه" في الموضوعات كلها بدءًا من الدين والفكر السياسي والقراءات الإبداعية وليس انتهاء بالتقاليد والموروث وأساليب العيش بما هي تقاليد يرغب المجتمع عمومًا في اعتبارها قوانين راسخة، صارمة وتملك سلطتها على الجميع. نقرأ في "عرق التين" حكايات حدثت في الواقع وفيها كثير من الغرابة لكنها رغم ذلك وبسببه أيضًا تأتلف مع مضامينها وجوهرها لتؤسّس نصًا روائيًا، أرى أنه مختلف عن كل ما قرأناه من تجارب الروايات السورية التي تناول كتابها ومبدعوها في رواياتهم موضوعات سياسية واجتماعية لا تحصى؛ لكن أحدًا من كتّابها لم يقارب هذا الزخم الجميل من الفانتازيا الحرة، والرؤى السريالية التي جعلت فنانًا تشكيليًا موهوبًا يقدم على ذبح كلب وتعليقه وسلخه بسبب أن الكلب استفز أعصابه المتوترة أصلًا بنباحه المتواصل، وهي الواقعة التي رغم كل ما فيها من قسوة عكست رغبة داخلية كبرى في تدمير الواقع ولو بطريقة جامحة تبدو لمن يقرأ الرواية واقعة من نسج الخيال رغم صدقيتها ورغم كونها حدثت في الواقع.
"عرق التين" تضعنا في سردية روائية تخالف مألوف الرواية السورية وموضوعاتها، فهي وإن عالجت همومًا واقعية موجودة وملموسة إلا أنها نجحت في رؤيتها من حدقة مختلفة أعتقد أن الأساس فيها هو فكرة التحديق المباشر والعميق في روح الفرد بما هو كائن مبدع، ولكن أيضًا بما هو ضحية واقع انساني يعاني قسوة الظروف وفداحة المصاعب الاجتماعية وما تفرزه من سلبيات كبرى. والرواية تذهب إلى ذلك كله بانفتاح كبير على لغة الحلم ومداراته على نحو يجعل السرد يتكامل بالرؤية الفكرية وبما تمتلكه المخيلة من إمكانات كبرى على استقراء الحلم وترويضه كي يكون كينونة واقعية قابلة للتمثل والاستحضار، وفوق ذلك قابلة لأن تكون "مسرح" رواية لها بنيتها الفنية المتماسكة والسلسة التي تأخذنا نحو مناخات أخرى غير تلك التي تعودنا أن نراها في روايات سورية وعربية لا تحصى.
محمود الجوابرة فنان تشكيلي لم يقصد أن يكون روائيًا بقدر ما رغب في تقديم هذه اللوحات الإنسانية الواقعية بأسلوب سردي؛ استفاد من التشكيل والموسيقى متكئًا على قوة اللوحات القصصية السردية وما تمتلكه من وهج يضيء المعاني الكبرى والآمال القصية وما يرتبط بها من مشاعر ورغبات فردية عظيمة ولها تأثيرها وحضورها في حياتنا، ولعل أهم وأجمل ما في هذه الرواية أنها تقدّم "رواية السيرة" باجتراح مختلف وبنائية فنية مختلفة فيها الكثير من الحيوية ومن وهج حضور الحياة بمعناها العميق والجميل.