}
عروض

"مصر الثقافة والهوية": فهم الحاضر من خلال المسار التاريخي

سعيد نجدي

21 فبراير 2024


صدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب للدكتور خالد زيادة، تحت عنوان "مصر الثقافة والهوية"، وهو كتاب مهم يأتي في لحظة مهمة تعيشها مصر المحاطة بشتى أنواع التحديات والصراعات والأزمات الداخلية، فضلًا عن الحروب المحيطة بها لا سيما حرب الإبادة الجماعية في غزة، والتي كشفت عن مخطط قديم جديد لترحيل الشعب الفلسطيني صوب سيناء.

أهمية هذا الكتاب تكمن في ما يحتويه من مقاربة أهم التمفصلات التي شهدتها مصر، من خلال الوقوف على عتبة التحولات ذات الطابع البنيوي والتي نقلت مصر من طور العهود الماضية على مستوى المقولات والمفاهيم، صوب أطوار أخرى على مستوى بنى الدولة ومؤسساتها الحديثة، التي أخذت طابعًا استقلاليًا عن مركز الإمبراطورية العثمانية، مكّنها من إنعاش بنى الإنتاج والإدارة والبيروقراطية، والأهم على مستوى الثقافة التي شهدت نقاشًا كبيرًا بين مختلف النماذج أدت إلى ولادة الأفكار القومية والوطنية بشكل متعاقب، وكانت هذه الأفكار الرافد الذي جعلت من مصر البلد المركز على مستوى المنطقة، وهذا الكتاب هو عودة تضعنا أمام تساؤلات حول أحوال مصر اليوم التي أنجزت أشياء لا يستهان بها على مستوى الدولة المستقلة وعلى مستوى السيادة تعيش اليوم العجز بشكل لافت.

الدولة الحديثة لعب فيها المثقف في القرن التاسع عشر دورًا بارزًا بوصفه التقني الذي اكتسب بعضًا من ثقافة الغرب ليحتل وظائف في الدولة قبل أن ينتقل إلى المراحل الأخرى، وهذه الأدوار لم يكن باستطاعة العالم التقليدي تأديتها التي كانت تقتصر على سبيل المثال بالديواني أو المحاسب الذي يحصي الضرائب، والانتقال إلى مرحلة البعثات إلى الدول الأوروبية ليكتسبوا التقنيات الجديدة على مستوى الإدارة، والانتقال من (العلمية والقلمية والسيفية)، إلى البنى التحديثية التي تقوم على الفصل في الأدوار بين هذه المؤسسات.

إذًا يرصد خالد زيادة في هذا الكتاب علاقة وتطور السياسة بدور المثقف، ومساهمته في بناء الدولة وبلورة الفكرة الوطنية، من خلال ثلاث مراحل: الأولى مرحلة الإصلاح أو النهضة، والتي تعرف أيضًا بمرحلة التنظيمات، والمرحلة الثانية هي التي شهدت السعي إلى الاستقلال وبروز الوطنيات وهيمنة الأفكار الليبرالية إلى حد ما، أما المرحلة الثالثة فهي التي استتبت فيها الأنظمة الوطنية من طريق النضال ضد الاستعمار أو من طريق الثورات والانقلابات، واللافت أن دور المثقف كان مرتبطًا بالدولة لناحية البناء على مستوى المؤسسات.   

محمد علي ومشروع التحديث

بدأ مشروع التحديث من خلال نظرة العلماء إلى الآخر، وهو ما أظهره الجبرتي كما يشير خالد زيادة عندما أبدى عبد الرحمن الجبرتي إعجابه ولكن بحذر في ما يخص علوم الفرنسيين وفي إعطاء العمال أجورهم، وطرائقهم في إجراءات العدالة، وهو بهذا الخصوص قد أفرد الجبرتي مؤلفًا يتعلق بالحملة الفرنسية على مصر وكيفية تأثير ذلك بالنظرة إلى الغرب والتحديث، والأخذ بعلوم أوروبا وتقنياتها كان بحاجة إلى إدارة حاكمة، يضع شخصية محمد علي على اتجاهين تارة يصفه بالغدر، إلا أنه في "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" يقر في نهاية الأمر بإنجازاته.

أهم ما عمل عليه محمد علي باشا هو تحديث الجيش، كما أنه أوفد بعثة طلابية إلى فرنسا وعلى رأسها رفاعة رافع الطهطاوي، وبعد عودته سنة 1831 كتب الكتاب الشهير "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" يصف فيه الثورة على شارل العاشر، وترجمته للدستور الفرنسي، ليقلّده محمد علي منصبًا مرموقًا وهو الإشراف على قلم الترجمة.

يشير الكاتب إلى الفكرة الشائعة عن محمد علي وانتزاع نفوذ العلماء وصلاحياتهم، وقد استفاد من تنافر العلماء وحقدهم على نقيب الأشراف عمر مكرم الذي كان بمنزلة الزعيم الأهلي، لينفيه في عام 1809، ويعيّن مكانه الشيخ الشرقاوي نقيبًا للأشراف، وهو بهذا أراد أن يطبّق النظام العثماني حيث أن المؤسسة الدينية هي مؤسسة تعليمية يترأسها شيخ الإسلام، وهي تمد الدولة بالأئمة والمدرسين والقضاة وقد طلب محمد علي من شيخ الأزهر محمد العروسي أن يوعز إلى الشيخ خليل الرجبي بتأليف كتاب يتضمن فصلًا في شرعية النظام الجديد، وهذا يأخذنا إلى أن مشروع محمد علي كان بحاجة إلى شرعية وإلى مدّه بوسائل القوة، ولا ننسى حملته على الحجاز التي كانت بحاجة إلى التجنيد، وهي لغاية تتعدى القضاء على الدعوة الوهابية، من أجل غاية استراتيجية أبعد وهي السيطرة على البحر الأحمر، لهذا كان بحاجة إلى التحشيد من المؤسسة الدينية التي تضفي معاني على مشروعه.

شهدت هذه الفترة تضخمًا في الجهاز البيروقراطي، والتي سوف تؤدي إلى جعل الأفراد موضوعات قابلة للقياس، انطلاقًا من بناء الجيش الذي أدى إلى بناء إدارة تحديثية عمل على علاقات جديدة بين الفرد المصري والدولة من جهة أخرى. من هنا تطلّبت إجراءات الضبط والنظام إنشاء ما يسمى "الدفترة" الذي اقتضى إعداد دفاتر بأسماء الجنود الذين يجمعون وفقًا للمديرية والقسم والقرية، وأيضًا نظام إلغاء الالتزام بالأرياف، وقوانين لها علاقة بملكية الأرض "الجفالك" أي الأراضي المزروعة لقاء أداء الفلاحين المهمات المنوطة بهم، كل هذه الفترة لمحمد علي من بناء الجيش الذي أدى إلى إنعاش الصناعات إلى نظام الملكية العقارية إلى البيروقراطية الحكومية أفضت إلى تبلور الوطنية المصرية، والتي انبثق منها خطاب يدعو إلى اعتماد دستور جديد، أما في عهد الخديوي اسماعيل فسوف نرى استئناف حداثة محمد علي لناحية العمران والتنظيم والحداثة وبداية الصحافة والتعليم والتمصير، والأهم افتتاح قناة السويس التي وضعت لمصر خارطة جديدة في التجارة الجديدة على المستوى الدولي. كل هذه التحولات يرصدها الكتاب من زاوية العالم الذي يربط التحولات بشتى الحوامل التاريخية التي تؤدي إلى تدشين ديناميات تعمل على تحديث في البنى المجتمعية.

يرصد خالد زيادة في هذا الكتاب علاقة وتطور السياسة بدور المثقف، ومساهمته في بناء الدولة


الفكرة الوطنية المصرية  

أدت عمليات التحديث التي شهدتها مصر إلى ولادة الفكرة الوطنية، انطلاقًا من الحاجات الجديدة التي طرأت على المجتمع المصري، ففي ستينيات القرن التاسع عشر تبلورت طبقة من الملّاك، غير مصرية، مثل "مجلس النظار" الذي ترأسه شريف باشا، وهو تركي الأصل، وقد أسّس "مجلس النواب" وعُرف بـ"أبي الدستور المصري". أما محمود سامي البارودي فقد كان من أصول شركسية، وهو الشخصية الإدارية التي تولت نظارة الحربية إثر "ثورة عرابي"، وكان يُعتبر من أوائل شعراء الفصحى والعربية المحدثة. هذه الشخصيات وغيرها اجتمعت على البُعد المصري الوطني، وقبلها بخمسين عامًا لم يكن الجبرتي يرى في مصر شعبًا بل فئات من الطوائف والجماعات (المماليك- المصرلية، الأروام، الدالاتية، الأرنؤد)... إلخ، إلا أن التمدن وأفكار الحرية والتقدم، والدستور الجديد، ونشوء الصحافة دلّلت على الوعي بالوطن والتي بدأت مع الطهطاوي، لذلك نرى نشوء مدرسة الحقوق، وبدأت البيروقراطية تأخذ شكلها الحديث، وكذلك نشأت دار العلوم وتم افتتاح المدارس بكافة المراحل، ومنها المدارس الأوروبية، والجمعيات العلمية، وبروز الصحافة السياسية والأدبية، ومن أبرز رموزها الشيخ علي مبارك، المصري الأصل الذي ورد اسمه في بعثة (الأنجال) عام 1844 إلى فرنسا والذي أصبح وزيرًا للأوقاف والتعليم، وإشرافه على مشروع القاهرة الجديدة.

كانت فكرة التربية هي المفتاح الذي دشنه الطهطاوي سبيلًا للتمدين والتقدم، من خلال مؤلفه "المرشد الأمين"، وهو الكتاب الذي تأثر به الجيل اللاحق من المثقفين، مثل لطفي السيد، قاسم أمين، سلامة موسى، عباس محمود العقاد، طه حسين، بالإضافة إلى تبلور الأحزاب كـ"حزب مصر الفتاة" عام 1878 مع أديب إسحق، والحزب الوطني مع مصطفى كامل ذي الأصول الشركسية، وقد أنشأ كامل "جريدة اللواء" التي كانت تعبّر عن البعد الوطني بتأكيد الاستقلال وهو صاحب الجملة الشهيرة (لو لم أكن مصريًا لوددت أن أكون مصريًا)، و"حزب الأمة" مع أحمد لطفي السيد وهو الذي كان كاتبًا ومترجمًا ومن أهم ترجماته كتاب "السياسة" لأرسطو. 

وفي هذه الفترة برز المفكر محمد عبده الذي تتلمذ على يد الأفغاني ومكث في مصر. ترجم عبده كتاب "التربية" لهربرت سبنسر، وهذا يؤشر إلى مدى الاهتمام بنقل المجتمع المصري إلى الحداثة، من خلال الاستفادة من الروافد الغربية، وقد أصدر جريدة "العروة الوثقى" من فرنسا التي أيّدت ثورة عرابي، وقد عبّر عبده عن موقفه من السلطة بشكل إصلاحي، وقد تأثر به سعد زغلول. تخلى عبده عن فكرة الجامعة الإسلامية، وشرح كيف أن الإسلام لا يتعارض مع الوطنية، وقد دعا إلى تحرير العقل وحرية الفكر. كل هذه المخاضات شهدتها مصر وأدت إلى تكوين ثقافة حديثة، وكان هناك دور للسياسات الإصلاحية والاعتماد على المثقفين الجدد واحتضانهم من أجل مشروع التقدم وعمليات التحديث، بدءًا من فترة محمد علي وصولًا إلى حفيده الخديوي إسماعيل. وهذا يأخذنا إلى عقلية السلطة وإرادتها، إن كانت عقلية متمركزة على ذاتها أو أنها عقلية صاحبة مشروع يستفيد منها كافة حقول المجتمع.

يحوي الكتاب تسعة فصول، وفي هذا المقال الذي لا يسع الحديث عن مجمل الفصول، حاولنا التركيز على فترة تكوّن الفكرة الوطنية وأبرز العوامل التي ساهمت في تكوّنها، وقد اشتغل الكاتب خالد زيادة على الفترة اللاحقة للثقافة والهوية المصرية وأبرز التحولات التي حدثت، من أجل فهم الحاضر من خلال المسار التاريخي الذي تشكلت منه أبرز المفاهيم، ومن أجل بناء أسئلة جديدة تخصّ الواقع الراهن.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.