}
عروض

مذكرات فاسلاف نجنسكي: صُدفة تُدخلنا عوالم "إله الرقص المجنون"!

يوسف الشايب

12 مارس 2024


ربّما يعجز المتعمق في سيرة الفنّان الروسي البولندي الأصل فاسلاف نجنسكي، أسطورة "الباليه" في روسيا وأوروبا الشرقية ومن ثم العالم بمطلع القرن الماضي، عن العثور على يوم واحد غير معجون بالبؤس، تلك الكلمة التي تصلح أن تكون عنوانًا لتفاصيل حياته التي اصطبغت بالسواد، حتى أن الأديب والناقد الإنكليزي كولن ويلسون في كتابه الشهير "اللامنتمي" أفرد له عدّة صفحات حلّل فيها شخصيته، تبعًا لسيرته التي وصفها بأنها "الوثيقة الإنسانية الأكثر صدقًا وإيلامًا".

واختلف المؤخون في تحديد العام الذي ولد فيه نجنسكي، فمنهم من أشار إلى أنه ولد في عام 1889، ومنهم من قرر أنه ولد عام 1890، ولكنهم جميعًا اتفقوا على أنه من مواليد كييف لأبوين بولنديّين هما: توماس نجنسكي وإلينورا بيريدا، في يوم الثاني عشر من مارس/ آذار.

وورث نجنسكي حياة البؤس من والدته إلينورا التي تيتّمت وأخواتها وأخوها، وهي لا تزال طفلة، بحيث بدأت منذ طفولتها العمل كراقصة باليه في مسرح وارسو الكبير، وما إن بلغت الثالثة عشرة حتى أصبحت عضوًا فاعلًا فيه، وأثناء تجوالها مع فرقة المسرح، التقت بتوماس نجنسكي، وكان راقص باليه هو أيضًا، وتزوّجها عام 1884.

لم يمنعها الزواج ولا أطفالها الثلاثة: ستانيسلاف، وفاسلاف، وبرونيا، الذين أنجبتهم تباعًا عن الاستمرار في العمل لكسب لقمة العيش، وقد أنهكتها تكاليف الزواج، واستنزفت كل طاقتها، حتى غرس الاكتئاب سكّينه داخلها عميقًا، بل أورثته لابنها فاسلاف، دون قصد بطبيعة الحال، خاصة بعد أن تركها زوجها ووالدهم إثر وقوعه في عشق راقصة أخرى عام 1897، لتنتقل إلينورا وأطفالها إلى العيش في سان بطرسبورغ.

هناك طلبت من أحد أصدقائها مساعدة ابنها فاسلاف، ليُقبل في المدرسة الإمبراطورية للباليه، وتمّ لها ذلك، فقُبل ابنها بعد تدخل من الراقص الشهير والأستاذ في المدرسة إنريكو سيشيتي، لتلتحق به بعدها بعامين شقيقته برونيا، أما شقيقها الأكبر ستانيسلاف، فسقط من إحدى نوافذ المنزل متعرضًا لأضرار عدّة في دماغه، بحيث عاش حياته مُنزويًا يعاني من اضطراب عقلي ونوبات صرع قاسية، إلى أن أُودِع في مصحة المجانين عام 1902.

ومع مرور الأيّام، لمع نجم فاسلاف نجنسكي كراقص باليه بارع، خلال التحاقه بالمدرسة الإمبراطورية، لكن نجاحاته أثارت غيرة من حوله، حتى تعمّد أحدهم، ذات يوم من عام 1901، إلى إيقاعه على الأرض، محدثًا ارتطامًا برأسه فيها، ما أدى إلى إصابته بارتجاج دماغي أدخله غيبوبة لأربعة أيام متتالية، التحق بعد تعافيه منها، بفرقة الباليه الروسية، بحيث تعرّف على سيرجي دياجيكليف، رائد فن الباليه في روسيا، وتولّدت بينهما علاقة خاصة لم يكن راغبًا فيها، وتولّدت إثرها في داخله آثارٌ نفسية في غاية السلبية، لم تفارقه حتى فارق الحياة.

صحيح أن نجنسكي كان مُبدعًا مُختلفًا، فعُرّف باعتباره أيقونة إبداع وأسطورة رقص، حتى أُطلق عليه لقب "إله الرقص" لخفة حركته وانسيابيّتها، حتى أن بعض من حضروا عروضه، وشاهدوا رقصه، شهدوا له بالخوارق، كما أن البعض قال إنه خرق قانون الجاذبية، إذ كان يقفز عاليًا أثناء الرقص، ثم يهبط ببطء غير اعتيادي، وكأنه "ملاك يتنزل بروية مهيبة من السماء".

وتشير رومولا نجنسكي، أرملته، في مذكراته، الصادرة حديثًا عن دار رؤية للنشر والتوزيع في القاهرة، بترجمة لعماد العتيلي، إلى أن قارئها قد يشكك بصحة وجدارة تلك المشاهدات، وإلى أن ذلك مُبرّر، فالعلم والمنطق يدحضان تلك الشهادات، حسب تعبيرها، لكنها برّرت ذلك بتفوّقه غير المسبوق، وحالة الدهشة التي كانت ترافق عروضه، ولا تغادر مشاهديها بسهولة، علاوة على تعلقهم الشخصي به، لكونه صاحب روح مرهفة.

ولكي ندرك طبيعة الحياة التي طوّقت فاسلاف بأغلالها، والمصير الذي آل إليه، هو الذي كان يلهث وراء الهالة دون أن يطاولها، أو يقترب حتى من ملامستها، لكنه، ومع توالي أزماته الحياتية حدّ تدهور صحّته العقلية، ووقوعه فريسة الهلوسات البصرية، والأفكار فوق الطبيعية، حتى بات يتخيّل نفسه مسيحًا مُخلّصًا للبشرية يتلقى الرسائل والتوجيهات والأوامر من الله ذاته، بل تطوّرت به الحال إلى أن بات يعتبر نفسه إلهًا، ما دفعه، ولو بعد حين، بعد أن أشبعه المجتمع ضربًا، فعلًا ومجازات، إلى الانطواء، حتى لم يعد له إلا قلّة من الأصدقاء الذين يأنس إليهم، وهو ما كان سببًا في صدوده عن الزواج، وارتباطه بأي أحد، حتى أتته رومولا.

كانت رومولا، التي أصدرت مذكرات فاسلاف، مخطوبة عندما حضرت رفقة أم خطيبها لمشاهدة عرض باليه في بودابست لفرقة الباليه الروسي التي كان يعمل فيها نجنسكي، هو الذي لم يؤدِ رقصته في اليوم الأول من العرض، لذا لم ترهُ رومولا، ولكّنها عندما عادت في اليوم التالي، أدّى رقصته ببراعة، سلبتها، دون أن يدري، فؤادها، حتى أنها وصفت تلك اللحظة بـ"الصدمة التي سرت في الحضور ساعتها كانت أشبه بالصدمة الكهربائية، فقد سكروا وطاروا، وحُبِست أنفاسهم بينما يتتبعون فاسلاف بأبصارهم، ذلك الكائن الخارق للطبيعة".

 أُطلق على فاسلاف نجنسكي لقب "إله الرقص" لخفة حركته وانسيابيّتها (Getty)


بعدها، فسخت رومولا خطبتها، وبدأت سعيها في سبيل أن تحظى بنجنسكي زوجًا، فصارت تحضر كل عروضه، ولا تفوّت رقصة له إلا وتُشاهدها، ورغم أن فاسلاف كان يُوصد الأبواب أمام أي صداقة جديدة، إلا أنها لم تيأس، والتقت بدياجيليف وأقنعته كي يلحقها بالفرقة، فاستجاب لها، وبدأ يدربها إنريكو سيشيتي، مدرّب نجنسكي، رغم اعتراض الأخير.

حذّر الأستاذ طالبته الجديدة من التوّرط، حد وصفه، في علاقة مع طالبه "الخارق" فاسلاف، مُعتبرًا إياه "مثل شمس تشّع نورًا دون أن تمنح دفئًا"، لكنها لم تستجب، حتى جاء يوم طلب منها نجنسكي الزواج، فوافقت باكية، على حد تعبيرها، وتمّ الأمر، ما دفع أحد أصدقاء زوجها القادم لتحذيرها قبل إتمام الأمر بقوله لها: "أبشري بحياة تعيسة"!

قبل البدء بكتابة المذكرات، قدّم نجنسكي عرضه الراقص الأخير في أميركا الجنوبية عام 1917، برفقة عازف البيانو الشهير آرثر روبنشتاين، وكان عرضًا خيريًا، ذهب ريعه لصالح الصليب الأحمر، حتى أنه، وخلال العرض، انهمرت الدموع من عيني روبنشتاين، وغمرت مفاتيح البيانو، لدى رؤيته نجنسكي يتخبّط في رقصته ليلتها، إذ بدأت أعراض اضطرابه النفسي، وفصامه، تظهر واضحة للعيان.

كتب نجنسكي هذه المذكرات، التي لم تأخذ باعتبارها التسلسل الزمني، في ستة أسابيع، ما بين يناير/ كانون الثاني إلى مارس/ آذار من عام 1919، أثناء إقامته في سويسرا قبل يُلقى في المصحة العقلية، وقد عثرت عليها زوجته صدفة بين أغراضه المنسية.

حدثنا نجنسكي في مذكراته التي أخذت شكل القصص القصيرة أحيانًا والقصص القصيرة جدًا أو الشذرات أحيانًا أخرى، وبأسلوب شائق، عن أمور شخصية عدّة كان من بينها خوفه من أن يُودع في المصحة التي فيها شقيقه الأكبر، وهو ما كان في وقت لاحق دافعًا لكتابة مذكراته، وشعوره الدائم أنه تحت رقابة زوجته رومولا، وطبيبه، ومن حوله، كما أسهب بالحديث عن التفاصيل المؤلمة التي قادته إلى حالته التي انتهى إليها، وهي الحالة التي جعلت منه شخصًا آخر، يكاد يكون صوفيًا، فيحدثنا عن الله والإنسان، والحب الذي يجمع الناس، ويقتُله الناس، حتى أنه قال فيها: "جنوني هو حُبّي للبشرية".

وتشير رومولا إلى أنها عثرت على المذكرات مصادفة في يونيو/ حزيران عام 1934، وكانت قد نشرتْ في العام نفسه كتابًا عن نجنسكي، بحيث طُلب منها الاهتمام بإرثه المحفوظ لدى أحد المعارض، وبينما كانت تجهّز أغراضه، وتبحث عن أزيائه، تذكرت أن بعض الصناديق بقيت مغلقة في المخزن منذ عام 1919، فأحضرتها ووجدتْ فيها أربعة دفاتر مدرسية لفاسلاف، اكتشفتْ لاحقًا أن ما خُطّ عليها كان بخط يده، وبعد أن ترجمت المخطوطات من الروسية، اتضح أنها مذكرات له، وهكذا ظهرت إلى العالم، كما هي، بكل وضوح وصراحة.

وبقي نجنسكي أعوامًا طوالًا يحدّق في الفراغ، ولا يكلم أحدًا، يدخل ويخرج من المصحات، وفي عام 1947 بدأت حالته النفسية تتحسّن وانتقل وزوجته إلى إنكلترا حتى أتاه الموت جرّاء فشل كلوي عام 1950، دون أن يعرف أحد، سواء زوجته أو أي من مترجمي مذكراته التي ترجمت للغات العالم، بعد ظهورها للمرة الأولى أبريل/ نيسان عام 1968 في سان فرانسيسكو بتقديم رومولا، سرّ عدم كتابة مذكراته داخل مصحّه النفسي، أو أنه كتب الكثير، ولم ينجُ ممّا كتبه شيئًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.