}
عروض

"من الفناء إلى الخلود": في اهتمام الثقافات المختلفة بالموتى

باسم سليمان

16 مارس 2024


يقول المعرّي: "خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْـ/أَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ". لربما يصحّ هذا الأمر في بلادنا، التي ما تزال تدفن موتاها في الأرض، لكن ماذا عن تلك الشعوب التي تحرق جثث أمواتها، وتذر رمادها في الأنهار، أو تعبئه في جِرار، أو تطعم لحم وعظام موتاها لكواسر السماء؟ لا ريب أنّنا سنستهجن أفعالهم!
يعكس التعامل مع الموت الثقافة المضمرة في كلّ مجتمع، أكانت تقليدية، أو عصرية، ففي المئة سنة الأخيرة، ومع الاطلاع الكبير على عادات الشعوب في كيفية التعامل مع الموت، بالإضافة إلى تغيير عادات الدفن نتيجة تزايد عدد السكان الكبير جدًا، وقلّة المساحات المخصّصة للمقابر في المدن، وارتفاع تكاليف الدفن؛ انتقلت شعائر الدفن من شأن أسروي خاص إلى عمل تقوم به شركات مختصّة. وقد رافق هذا التغيّر سؤال قديم جديد يعود إلى أيام المؤرّخ هيرودوت، الذي كان أول من ذكر استغراب الملك الفارسي من عادات دفن الموتى لدى الشعوب الأخرى، الذي سأل مجموعة من اليونانيين بما أنّهم يحرقون جثث موتاهم: "ما الذي سيُغري أحدهم بأكل جثة أبيه؟"، فأجابه اليونانيون بأنّ أموال الدنيا لن تكون كافية لإقناعهم بأن يكونوا من آكلي لحوم البشر. لقد كان الملك الفارسي يستهجن عادات اليونانيين في حرق موتاهم مع قطعتين من النقود توضعان على عيني المتوفى، كما ذكر هوميروس في الإلياذة عند حرق جثّة أخيل، متناسيًا أن عادات الدفن في بلاد فارس لن تعجب اليونانيين في المقابل.
ترتحل الكاتبة كيتلين دوتي، التي تعمل كحانوتية في أحد مراجل دفن الموتى في الولايات المتحدة، إلى أرجاء العالم في كتابها "من الفناء إلى الخلود" (الصادر عن دار عصير الكتب للنشر والتوزيع، 2023) كاشفة عن عادات الشعوب في دفن أمواتها، مظهرة بأنّ ما نعده شنيعًا في نظرنا هو قمة الرحمة في نظر الآخر، والعكس صحيح! وفي الوقت نفسه تستكشف طرقًا صحيّة للدفن، سواء أكان الأمر للموتى وأسرهم المفجوعة، أو بالنسبة إلى البيئة والطبيعة. ذكر المبشِّر الكاثوليكي جان دي بريبوف في عام 1636 استحسانه لعادات قبائل (الوياندات) في أميركا الشمالية في دفن أمواتها، حيث تقوم بحفر قبر جماعي كلّ عشر سنوات في عيد الموتى تضع فيه عظام أمواتها، الذين ماتوا خلال السنوات السابقة ولحدوا على سقالات خشبية ترتفع عن الأرض عشرة أقدام، مكفنين بجلود القندس، التي تسمح للأمطار والريح والشمس في تحويل الجثث إلى هياكل عظمية. تجتمع القبيلة في الوقت المحدّد لتزيل الجلود واللحم عن الجثث الحديثة، التي لم تتحلّل بكل احترام ولطف وحنية، فكلّ عائلة مسؤولة عن تنظيف عظام موتاها. ومن ثمّ يرتبون العظام في تلك الحفرة، ويغمرونها بالعشب والرمل والتراب. لا ريب في أنّ المبشِّر على الرغم من استحسانه، سيتمنّى أن تنقرض عادات تلك القبيلة، وأن يعتنقوا أعراف الديانة المسيحية.
لم تكن كيتلين راضية عن تقاليد الدفن التي اعتمدتها الولايات المتحدة، فالدفن أصبح شأنًا مؤسساتيًا تقوم به شركات تتعهّد إزاحة جثة المتوفى عن أنظار أسرته وأقربائه، سواء أكان الدفن في صناديق إسمنتية، أو حديدية، أو حرقًا في أفران تصل حرارتها إلى 1800 درجة مئوية، ولا تعطى الأسر إلّا أزمنة محدودة لوداع الميت، وفي قمة حزن العائلة عليها دفع تكاليف باهظة لإتمام الإجراءات، لذلك كان كتابها رحلة في عوالم دفن الموتى من أجل الكشف عن ألطف الطرق وأنجعها عاطفيًا وبيئيًا للإنسان والطبيعة.
يعود أول تقليد للدفن حرقًا إلى أربعين ألف سنة قبل الميلاد في أستراليا، حيث وجدت عظام امرأة دفنت حرقًا. ومن ذلك الوقت وبعض شعوب الأرض تحرق موتاها كالهند والإغريق. أمّا في زمننا الحديث، فقد كان أول اقتراح لحرق الجثث في أفران يعود إلى فلورنسا في إيطاليا، فقد دانت مجموعة من أطباء الصحة عمليات الدفن التقليدية في التوابيت واكتظاظ المقابر، وأنّ طريقة الدفن غير صحية، ومن الضرورة الانتقال إلى حرق الجثث. انتقل هذا الاقتراح إلى الولايات الأميركية مع القس الإصلاحي (فروثينغام) الذي رأى أنّ تحويل الجثة إلى رماد أبيض أفضل من تحولها إلى كتلة من العفن. تم حرق أول جثة في الأفران الصناعية لبارون نمساوي عام 1876. بعد 150 سنة تجاوز عدد الجثث التي تحرق في أفران عدد الجثث التي تدفن في توابيت، لكن هذه الأفران تكلّف آلاف الدولارات شهريًا ثمنًا للغاز، مطلقة كثيرًا من أول وثاني أكسيد الكربون، والسخام، والزئبق شديد السمّية في الهواء، إلى جانب أن سعر الحرق قد يصل إلى خمسة آلاف دولار. بينما في الهند يكلّف حرق الجثث خمسين مليون شجرة سنويًا، ناثرًا في الأجواء غبار الكربون، الذي يعد ثاني مسبب للاحتباس الحراري على الأرض بعد أدخنة المصانع.
أمام هذا الواقع، ظهرت حركة تدعو إلى حرق الجثث صحيًا، ليس عبر الأفران، كما في أميركا أو بريطانيا، ولا كما في الهند على مصاطب حجرية على ضفاف نهر الغانج، بل عن طريق منصة عالية تخفّف التكلفة والانبعاثات الضارة. ففي صحراء قرية كريستون في كولورادو، بدأت مجموعة بتنفيذ الحرق الطبيعي، فتجتمع العائلة والأصدقاء وبيدهم أعواد العرعر ليلقوها على الجثة، وفي الصباح توقد النيران. لا تتجاوز تكلفة الحرق خمسمئة دولار. وأمام هذا الواقع، بدأ كثيرون بالمطالبة بأن توجد محارق صحية في مناطقهم.




تنطلق كيتلين مع الدكتور بول؛ عالم الجنائز في لوس أنجلوس، إلى (تانا توراجا) في أندونيسيا لحضور طقس تنظيف الجثث في شهر أغسطس/ آب، حيث يستقبلهما (أهجوس) المرشد السياحي الذي نام هو وأخوه مع جدهما الميت سبع سنين على سرير واحد، حتى حان وقت دفنه، فما بين الموت والدفن، قد تمتد السنوات، حتى تتوفّر لأهله إمكانية دفنه، ففي عالم أهجوس تصبح الحدود الفاصلة بين الحياة والموت شفافة جدًا. في هذا اليوم، تخرج القرية موتاها المحنطين الذين ما زالوا يرتدون بعض الثياب، أو النظارات الشمسية، والتيشرتات، ويقوم أهل الميت المحنّط بتنظيف الجثة، وتقديم الطعام والأضاحي لها. وبهذه الطريقة لا تنقطع العلاقة بين الموتى والأحياء، وهو ما يسهم في توطيد العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة ومجتمعهم أيضًا.
يقول الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث معبرًا عن رفض التحدّث عن الموت في المجتمعات الغربية بأنّهم: "يحرقون شفاههم"، ولا يتلفظون بكلمة الموت، مع أنّ المكسيكيين على خلافهم، فهم يردّدونها ويسخرون منها؛ إنّ الموت لعبة بالنسبة لهم. من خلال هذه المقولة تكشف لنا كيتلين كيف أصبح الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني عيد الموتى في المكسيك، معبّرًا عن هؤلاء المحرومين والفقراء الذين سقطوا من حساب رأس المال من هنود ومكسيكيين قد ماتوا وهم يحاولون اجتياز الحدود مع الولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة إلى أنّه أصبح رمزًا للثقافة الشعبية التي رفضتها طبقة الأغنياء في المكسيك مفضّلة عليها العادات الأميركية كعيد الهالوين. في هذا العيد ينثقب الحاجز بين أرض الموتى وأرض الأحياء، فتقام الاحتفالات المضمّخة بالأحزان والفرح، لكن الجميع يجدون العزاء؛ الموتى ما دام الأحياء يذكرونهم، والأحياء عبر التعبير عن حزنهم.
تعجّب الشاعر والت ويتمان من قدرة الأرض على استيعاب أجساد البشر؛ طيبهم وخبيثهم، ومن ثم تحوّلها إلى نباتات. من هذه الفكرة تستكشف كيتلين مجموعة من الحانوتيين والعلماء الذين يسعون لتحويل الجثث إلى سماد بدلًا من حرقها أو دفنها في توابيت إسمنتية. لقد ساهم تشريح الجثث في تقدم الطب. وترى هذه المجموعة من العلماء، بأنّ تحويل الجثث إلى سماد عضوي سيساهم في زيادة الغطاء النباتي. وفي الوقت نفسه من الجيد نفسيًا أن يحلم الإنسان بأنّه سيصبح يومًا زهرة أو شجرة بعد موته.
أكثرنا يعتقد بأنّ القبر هو المنزل النهائي للإنسان، لكن في أوروبا تنتشر سياسة تأجير القبور، ففي إسبانيا تستأجر عائلة الميت القبر عددًا من السنوات حتى يتحلّل الجسد، وبعد ذلك يتم إخلاء القبر، وتنقل العظام إلى قبر يشترك به مع غيره من الموتى وكأنّنا مع شعب الوياندات. وفي ألمانيا تستأجر العائلات القبور لمدّة عشرين إلى ثلاثين سنة، لكنّ المقابر لم تعد مكانًا للموتى، بل للأحياء أيضًا، وذلك مع توجّه كثير من الشعوب الأوروبية لحرق الجثث. وهكذا، تحوّلت تلك المقابر إلى متنزهات وحدائق وملاعب للصغار، حتى أصبحت مكانًا لاستيعاب اللاجئين، وخاصة السوريين، ففي برلين مقبرة نُزعت منها جميع شواهد القبور، وأصبحت حديقة صغيرة للاجئين السوريين يزرعون فيها الطماطم والبصل والنعناع.
تمتاز اليابان بأعلى نسبة عجائز في العالم، وأعلى نسبة انتحار في العالم، وأعلى نسبة لاستخدام حرق الجثث، إذ تصل إلى 99.9 في المئة. وقد كان الإمبراطوران السابقان ضد أسلوب الحرق، لكنّ الإمبراطور الحالي: أكيهيتو وزوجته ميتشيكو أعلنا بأنّهما سيتبعان أسلوب الحرق. وعودة إلى الامتيازات التي تخصّ اليابان، فالمقابر أصبحت لديهم عبارة عن أبنية تحفظ بها الجرار التي تحوي رماد الموتى، وكل ما يلزم لتقيم الصلاة على روح أحدهم أن تمرّر البطاقة الإلكترونية أمام جهاز حتى تسمع حركة آلية، ومن ثم تنبثق من الجدار نافذة تحتوي جرّة فيها رماد الميت، فتقام الصلاة على روحه. وتعليقًا على هذه التقنية، قال أحد كهنة البوذية: "ظلت البوذية دائما حديثة. من الطبيعي جدًا استخدام التقنيات بالتماشي مع البوذية، فلا يوجد تعارض أبدًا".
تنقلت الكاتبة بين عدد من أساليب الدفن إلى أن وصلت إلى التيبت، فهناك يصبح الدفن سماويًا، وذلك بإطعام النسور جثث الموتى عبر تقطيع لحمها وكسر عظامها، ويعود هذا الأسلوب إلى ندرة الأخشاب، وصعوبة حفر القبور؛ هذا هو ظاهر الأمر، لكنّ المعتقدات الدينية ترى بأنّ هذه الطريقة تساعد الأرواح في الصعود إلى السماء.
اختلف البشر في أساليب حياتهم، فلماذا لا يختلفون في دفن موتاهم، ففي هذا الاختلاف غنى، ويقدم حلولًا لمسائل قد تبدو للوهلة الأولى مستحيلة الحل. لقد قدمت لنا كيتلين دوتي الكاتبة والحانوتية في هذا الكتاب آخر ما استجد من أساليب الدفن وتكريم الموتى والتواصل معهم إلى دمجهم في النظام البيئي عملًا بالحلم القديم: "من التراب إلى السماء".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.