}
عروض

"خاتم سُلَيْمى": في ثنائية الحرب والحبّ

باسم سليمان

16 أبريل 2024


لا مهرب للكاتب السوري من ثيمة الحرب، فبعد أكثر من ثلاث عشرة سنة ابتدأت في 2011 أصبحت الحرب وتداعياتها موضوعة حاكمة في النتاج الأدبي السوري لا يكون من دونها، فتحضر بأسماء عديدة حسب التجاذبات السياسية، فمن الحراك إلى الثورة إلى الإرهاب إلى الاسم الأشمل: الحرب؛ والتي تتبدّى تأثيراتها في المشهد الأدبي، تارة كصوت فاعل فيه، وتارة أخرى كصدى. وتظهر عادة مقابل ثيمة الحرب ثيمة الحبّ كترياق لسمّ الحرب يحاول كبح جماحها، وهذا ما تتغياه الروائية السورية ريما بالي في روايتها "خاتم سُليمى" (الصادرة عن دار تنمية لعام 2022 والتي وصلت إلى القائمة القصيرة للبوكر لعام 2024) إلّا أنّها تقدم مقاربة تفكيكية للطرف الثاني في هذه الثنائية ألا هو الحبّ، الذي يكون عادة في تضاد مع الحرب كعادة هذه الثنائية، لكنّ للحبّ معاركه وللحرب قدرتها على كشف زيف هذا الترياق كما مثّل لذلك بعضوي فرقة المتصوِّف سيلفيو شمس الدين كارليوني الإيطالي، مهند وصلاح؛ فهما صديقان وقريبان وموسيقيان منتميان إلى جو صوفي عشقي بوصلته جلال الدين الرومي، إلّا أنّ تلك الصفات المشتركة بينهما والتي من الممكن جمعها تحت بوتقة الحبّ لم تستطع أن تدفعهما إلى التسامي والغفران، فكلّ منهما تحزّب لطائفته وموقفه السياسي، فتحولا إلى قاتلين وقتيلين، مع أنّ القتل في التعريف اللغوي والصوفي، كما فسّره الحلاج، هو معرفة كنه الشيء أي جوهره، فهل كانا حقًا جديرين بالشطحات العشقية عندما كانا يعزفانها مع شمس الدين متغنّيين بصوفيات ابن الفارض والرومي وغيرهما ممن اجتذبهم العشق الإلهي والموت فناء فيه؟

مدينتان

تُعتبر حلب من أقدم المدن التي سكنها الإنسان في التاريخ، فلقد استوعبت دياناته المختلفة المشارب وثقافاته المتعدّدة واقتصادياته المختلفة، فكانت رمزًا للحضارة البشرية في السلم والحرب. وتعدّ توليدو/ طليطلة مدينة لها عمقها التاريخي كذلك، لكن ميزتها بأنّها مثّلت في الزمن الأندلسي حالة خاصة واستثنائية في الألفة بين المتناقضات، أقرب للصوفية حيث اجتمع أتباع الديانات السماوية الثلاث في حبّ ووئام، فأصبحت كقول ابن عربي: "فقد صار قلبي قابلًا كل صورة/ فمرعى لغزلان ودير لرهبان/ وبيت لأوثان وكعبة طائف/ وألواح توراة ومصحف قرآن"... من هذا الجذر تنسج بالي مقاربتها، فما الذي كان ينقص حلب أن تصبح استثناء كطليطلة وحتى لو في غمضة عين من تاريخ الإنسان المملوء بالحروب؟ ألهذا اختارت شخصية شمس الدين، هذا المستعرب الإيطالي الذي ربّته خادمة ليبية جاءت مع عائلته إلى إيطاليا بعد انتهاء الاحتلال الإيطالي لليبيا، فكانت أمًّا بديلة له بعد هرب أمّه البيولوجية مع عشيق لها بعد سنتين من ولادته حتى يكون جسرًا بين المتناقضات فيؤالف بينها؟ لقد فتحت تلك الخادمة العجوز عينه على ويلات الاحتلال والثقافة الليبية الغنائية الشعبية بنظرة مختلفة عمّا عهده في بلده إيطاليا، فنشأ محبًا للموسيقى شغوفًا بقدرتها لتكون لسانًا عالميًا قادرًا على فتح النوافذ في الجدران المصمتة، فاختار حلب لحدس ما يشبه انتقاله من ولعه بالغيتار الإسباني إلى آلة القانون العربي، لربما يجد فيه الوصايا العشر لحبّ لا يحوّله الإنسان بجهله إلى كره.

لم تكن ليلى ابنة الطبيب المسلم سامح العطار وجانيت المسيحية والتي غيّرت اسمها إلى سلمى كطليطلة، فهي لم تستطع أن تغفر لعائلة أمها مقاطعتهم ابنتهم لزواجها من خارج دينها، فبادلتهم الجفاء وقطع أواصر القرابة؛ وجاء تغيير اسمها إلى سَلمى والتي تعني: الناجية؛ لربما كمحاولة لا شعورية، سستتضح أكثر بعد أن تأكل الحرب حلب، حيث تذهب إلى دار رعاية المسنين لترى جدتها لأمّها التي بدأ ألزهايمر يمحو ذاكرتها. وجاء تعلّقها بشمس الدين تأكيدًا لهذا التغيير، فقد كان يقدم لها عبر صوفياته عالمًا يتجاوز تلك التناقضات السطحية بين الأديان، فازدهر حبّ من طرفها لكنّه غيّر حياتها، فعادت إلى مهنة جدها لأبيها لتفتح حانوتًا للعطارة وبيع التحف الشرقية والسجاد، وفتح قلبها لارتياد آفاق المحبة.  

كان لوكاس والذي يعني اسمه ضوء الشمس أو المضيء ابنًا لعائلة مسيحية يهودية من جهة الأم والتي ما زالت تحمل مفتاح بيتهم في توليدو متناقلًا عبر الأجيال حتى وصل إليها، فأورثته إياه بعدما رفض أخوه الأكبر هذه الأمانة. يغادر لوكاس مدينته في شمال إسبانيا إلى توليدو هربًا من ظل أخيه الأكبر متتبعًا شغفه بالتصوير، ليصبح مصورًا مشهورًا في أوروبا حيث يتم اختياره من قبل جيهان صديقة سلمى التي تنتج الصابون الحلبي لينجز لها دعاية مصورة تكون ممرًا لها إلى العالمية. يسافر لوكاس إلى حلب وهناك يقع في غرام سَلمى، مع أنّه على علاقة بعارضة الأزياء (لولا) وقد أنجب منها ابنًا.

تتلاقى خطوط أقدار شخصيات الرواية وتتلاقح في أزمنة متعدّدة؛ فمن قبل الحرب إلى رابعة ليل الحرب إلى ما بعد الحرب، فهل ينجب هذا التلاقح الحبّ ما بين سَلمى وشمس الدين أو ما بين سَلمى ولوكاس؟ لم يكن شمس الدين يلاعب سَلمى الشطرنج عندما أدخلها في مراهنة ليتأكد من حبّها له مانحًا إياها كتاب "مثنوي" لجلال الدين الرومي كبوصلة تهتدي بها. لقد كان شمس الدين أسير طفولة معذّبة إثر هرب أمّه مع عشيقها الرسّام إلى جانب الفرق العمري الكبير بينه وبين سلمى، لذلك كان خائفًا في قرارة نفسه أن يكون حب سَلمى له مجرد فورة عشق وتنتهي! أمّا سَلمى فبالرغم من انخراطها في علاقة محمومة مع لوكاس إلّا أنّها لم تكن قادرة على اتخاذ قرار على أي جانب تميل بين شمس الدين ولوكاس، فكلّ منهما كان ضوءًا يمنحها ظلالها في حين كان لوكاس يرى ضوء شمس الدين يخالط ضوءه، فنوره الذي أضاء جسد سلمى لم يكن قادرًا على إزاحة نور شمس الدين عن روحها.

هل تشبه سَلمى حلب أم طليطلة؟ فما بين مسيحي غدا صوفيًا، ومسلمة رحم أمّها مسيحي، ومسيحي رحم أمّه يهودية، وما بين حبّ روحي وحبّ جسدي كان من المفترض أن تصبح سَلمى/ حلب طليطلة أخرى، لكنّ الحرب كانت لها الكلمة الفصل.

خاتم/ خاتمان

تصمّم سَلمى خاتمين لهما شكل تنين يلتف حول حجر كريم، تهدي أحدهما لشمس الدين في حين تزيّن إصبعها بالخاتم الثاني، ولقد استوحت تصميمهما ومعناهما من قصة خاتم الملك سليمان، الذي كان له القدرة بموجب خاتمه على السيطرة على الجان والبشر والطبيعة، فقد كانت تطمح إلى أن تكون لهذين الخاتمين قدرة على جمع مصيرها إلى قدر شمس الدين. يزور لوكاس حلب مرتين، الأولى للعمل والثانية ليكون أقرب إلى سلمى، ويجذبه خاتم سلمى، لكنّها ترفض إهداءه له وكأنّها ضمنًا ترفض لوكاس، أمْ أنّها تريد منه فعلًا أن يستحق من خلاله هذا الخاتم؟ تدور رحى الأيام والحرب والحبّ والمرض، فتخسر سلمى مشغلها وتحفها لكنّها تبقى في حلب ويزداد تعلّقها بشمس الدين، بينما يُدمر بيت شمس في حي باب قنسرين وتتفرّق فرقته السورية وتحرق الحرب ذكريات الحبّ والسلام الذي عاشه في حلب، وينتهي إلى أن ينهشه مرض السرطان، لكنّه يتصالح أخيرًا مع كل ماضيه. أمّا لوكاس فيزداد انغماسه بحبّ سَلمى التي تهديه سجادة لها حكايتها الخاصة وشموع ذات رائحة عطرة طالبة منه أن ينام على السجادة التي تشبه بساط الريح لربما تقوده أحلامه لفهم أكبر لحبّه لها.                         

كان لوكاس قد اختتم زيارة عمل إلى لبنان، وفي طريق عودته وأثناء وجوده في المطار يدخل إلى دورة مياه للرجال وهناك يجد خاتمًا يشبه خاتم سَلمى، ليتضح له فيما بعد أنّ شمس الدين قد رتّب خطّة ليصل إلى يده.  كان شمس الدين  يعيش أيامه الأخيرة بعد عودته من حلب المدمّرة إلى إيطاليا في ذات الوقت الذي كان لوكاس فيه في مطار بيروت. لم يحدث اللقاء بين شمس الدين ولوكاس على الصعيد المكاني، إلّا أنّهما التقيا روحيًا، حيث وجد شمس الدين في لوكاس شمسًا أخرى ستشرق قريبًا في سماء سَلمى. 
بينما كانت سلمى تحضر حرق جثة شمس الدين كما رغب، يأتيها خبر مفجع من ابن لوكاس بأن والده قد تعرّض لحادث أدخله في غيبوبة ومن ثمّ تطير إلى إسبانيا لترى لوكاس في غرفة العناية المشدّدة، وهناك تترك خاتمها وديعة لدى ابن لوكاس. يستيقظ لوكاس من غيبوبته، ليجد أنّه قد تحصّل على الخاتمين، فيجري بحثًا على الإنترنت ليجد أنّ شمس الدين لم يمت، وأنّه هو من مات في حادث السيارةّ! هذه المفارقة في نهاية الرواية تضاء بالاقتباس الذي وضعته ريما بالي في مقدّمة الرواية عن جبران خليل جبران: "إنّ حياة الإنسان يا سَلمى لا تبتدئ في الرحم، كما أنّها لا تنتهي أمام القبر، وهذا الفضاء الواسع المملوء بأشعة القمر والكواكب لا يخلو من الأرواح المتعانقة بالمحبة والنفوس المتضامنة بالتفاهم"؛ فهل نحن أصوات وأصداء لأناس ماتوا علينا أن نروي قصصهم وننعش ذكرياتهم حتى لا تصبح الحرب ممحاة كبرى لا تبقي ولا تذر؟ لقد ملأت ريما بالي روايتها بتفاصيل حلب قبل الحرب، فمن المباني التراثية إلى الأسواق الشعبية إلى الأكلات الحلبية إلى الغناء والموسيقى. وفي الوقت نفسه ضجّت روايتها بالأسئلة عن الحرب والثورة والحب والكره والغفران والتسامح؛ فتركت استخلاص الأجوبة للقارئ، في هداية هذين السؤالين: هل للحرب قدرة على أن تشطب مدينة من الوجود؟ وهل للحبّ استطاعة أن يبعث فيها الحياة من جديد!

سُليْمى

هو تصغير لاسم سَلمى، لأنّها لم تكن ناجية كبيرة كاسمها عندما استبدلت بليلى سَلمى، لكنّها نجت، لذلك ناداها شمس الدين بالاسم المصغّر من اسمها: سُليْمى؛ أي التي ما زالت على قيد الأمل/ النجاة. لقد فازت بحبّ شمس الدين وهو على فراش الموت، عندما أدرك أنّ تلك الشابة التي أنضجتها الحرب كانت صادقة ولن تفرّ منه، لا كما فعلت أمّه مضحية بأمومتها لصالح عشق مجنون. وفي الوقت نفسه أدرك لوكاس كم كان ينقصه من الشجاعة والجرأة ليوطّن نفسه في قلب سُليْمى، مع أنّها سلّمت له جسدها. أمّا سُليمى، فقد أصبحت حيّ (طليطلة) في حلب، فكم تحتاج الحروب إلى سُليْمات حتى تنتهي إلى السلام.  

إجمالًا، تعتبر رواية ريما بالي "خاتم سُليْمى" إضافة جديدة إلى رواية الحرب السورية، وخاصة أنّها عالجت جانبًا خاصًا من ثيمة الحبّ؛ المقابل الوجودي للحرب، وأظهرت كم أنّ هذه العاطفة تحتاج إلى غفران وتسامح مثلها مثل الحرب، بل إنّها قد تكون مستصغر شرر له حرائقه أيضًا، والتي قد تؤدي إلى حروب كبيرة؛ أليس كلّ أطراف الحرب السورية، بين أحياء وأموات يدّعون حبًا لليلى/ سلمى/ سُليْمى/ سورية.  

*كاتب سوري.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.