}
عروض

"العطشانة": رواية عن الرّيف السوريّ المهمَّش وعوالم الجزيرة الفراتيّة

عمر شبانة

2 أبريل 2024

 

جاء في "إهداء" هذه الرواية:

"إلى قمر الحكايات البعيد

فدغة الحمّود... حبّوبتي

كان حزنكِ النبيل الجرّة التي غمستُ فيها ريشتي".

منذ هذا الإهداء- العتبة الثانية بعد العنوان "العطشانة"، سندرك أنّنا أمام "حكايات" قرية من الرّيف، لنتعرّف لاحقًا على ملامح أساسيّة من الريف السّوريّ عمومًا، ولكنّه هنا ريف الجزيرة الفراتية كما يعرفها المؤلّف وأبناء هذا الريف عمومًا. وغالبًا ما تتّسم الكتابة عن الريف- القرية، بقدر عال من الشفافية والشعرية، رغم قسوة المناخات والأجواء والمعيشة والصراع الطبقي والخرافات التي ترسمها هذه الكتابة.

تنهل رواية "العطشانة" للشاعر والكاتب السوري عيسى الشيخ حسن، من عالم الريف المعزول والمهمّش، ومن ثقافة هذا العالم وبيئته الاجتماعية، عالم ينطوي على النقائض من أفراح وأحزان، ومن المباهج والمآسي، من الحبّ ومن الأحقاد، من القهر والفساد والظلم، كما من التضامن والتكافل، وذلك كلّه عبر لغة روائية شديدة البساطة والسلاسة، بعيدًا عن التبسيط والاستسهال، بل بأسلوب يتميّز بالعمق، وأدوات سرديّة متعددة، وعبر شخصيّات ذات سمات وملامح تحيل على العالم الريفيّ السحريّ الذي تنتمي إليه، قياسًا إلى عالم المدينة. هذا فضلًا عن اللغة الشاعرية التي تصبغ السرد، وتمنحه قدرًا من الدهشة وغير المألوف، وتصبغ اللهجة المحليّة بصبغة شاعرية ذات خصوصيّة تنتمي إلى الشاعر- الروائيّ وحده. فهي أقرب إلى الرواية القصيرة (النوفيلّا) بنت القرية وعوالمها ومواصفاتها.

وبذلك فإن الرواية تنفي، كما عديد من الروايات العالمية، مقولة إن الرواية هي بنت المدينة. فمن أين جاء جورج لوكاتش بهذه المقولة؟ إن واقع الرواية العالمية يثبت أن لكل بيئة روايتها، فمن منّا لا  يتذكّر رواية القرغيزيّ جنكيز إيتماتوف الشهيرة "جميلة" الفتاة الريفيّة "حوذيّة الخيول" والعاملة في الزراعة، بين الكولخوزات المشاعية والأسواق؟ وبخصوص علاقة الرواية بالبيئة وثقافتها، فحتى البيئة البدوية لها روايتها التي تعكس عالمها، كما نرى- مثلًا- في بعض روايات ميرال الطحاوي وخصوصًا روايتها الأولى "الخباء".

من هنا فإن "العطشانة" تأتي مغايِرة حتى لنماذج الرواية المعروفة، روايات البحر والمدينة، لدى كبار الكاتبات والكتّاب السوريين مثل حنا مينه وخيري الذهبي ونبيل سليمان وهاني الراهب وسمر يزبك وغيرهم. فقد نجد الريف في روايات الكثيرين، في الرواية السورية والعربية وحتى العالمية، لكن أن يكون الريف/ القرية بطلا لرواية، فهو أمر نادر تمامًا، وهو ما تتفرّد به هذه الرواية، فهي تتخذ من الموروث الشعبي، المادي والثقافي، عناصر أساسية للمادة السردية والحكائية، كما سيأتي في قراءتنا.  

رواية "العطشانة" هذه (الصادرة في دار جدار للثقافة والنشر، طبعة أولى 2024، وتقع في 118 صفحة)، وهي الثانية للشيخ حسين، تبدأ بصرخة الشيخ- الدرويش "مدااااااااااااااااااد"، ويردّد المريدون "الله الله..."، بكلّ ما في هذا العالم من الخفّة والانتشاء، وما يشتمل عليه من الفعاليات، أشهرها: إدخال أدوات حادّة كالأسياخ والسيوف بمناطق مختلفة من الجسم كالخدّين واللسان والبطن، وغرز خناجر في جوانب مختلفة من الجمجمة، ومضغ وابتلاع أمواس الحلاقة وقطع الزجاج المكسور، من دون أن يتأذّوا، بل إن لديهم قدرة على الشفاء من الجروح بشكل فائق، والسؤال الوارد هنا هو: هل هو حقيقيّ عدم تعرّضهم للأذى الجسدي؟ لكنّ الرواية سرعان ما تأخذنا في اتجاهات مختلفة من حياة القرية وشؤونها وشجونها.

 

هيمنة الثقافة الشعبية

 منذ السطور الأولى، والصفحات الأولى من الرواية، نقف على قرية "العطشانة"، القرية الواقعة بين البريّة والفرات، الجزيرة الفراتيّة، فتعلن الثقافة الشعبيّة، الريفيّة القرويّة وشبه البدويّة، عن حضورها في أسماء عناصر البيئة، حيث مصطفى الذي يبحث عن نعجة شقراء ضائعة منه، وحيث "نساء مبكرات عائدات من الحقول بخضار المقاثي يكفل للبيت "خَرْجيّة" مناسبة عندما تجفّ الضروع، وتنفد "مصاري" الحَبّ أو حساب القطن"، والحديث عن هروب مصطفى، وأنه "طبّ حلب"، وخوف أهله من "خبر السّاية" التي تعني "خبر السّوء/ الموت". أو حديث فلّاحتَين عن ظروف الفقر ونقص البذار "ما فلَحنا السنة"، و "إي يا خَيتي، السنة ما حدا فلَح" أو "وين نفلَح؟ حدا عندو حكـ  بذار؟".

رغم وجود حكاية مركزيّة وأساسيّة في الرواية، هي قصّة الفتى مصطفى، الابن المتمرّد للحاجّ حميدي، هذا الحاجّ الذي "عاش حياة قاسية بعد موت أبيه، جعلته قاسيًا مع ابنه مصطفى"، ثمّ المسار الذي جرت فيه حياة مصطفى عبر رحيله وصولًا إلى بيروت، وتجربته هناك، ورغم ما نتوقّعه من تعميق شخصية مصطفى وعلاقاته في بيروت، خصوصًا مع "تيودورا" التي تكبره بعقد ونصف العقد- (15) من السنوات، لما ظهر بينهما من إعجاب وتوافق، لكن العلاقة تقتصر على صداقة حميمة يُفيد مصطفى من خلالها بالحصول على كتب ومجلّات تسهم في تشكيل شخصيّته.

ولأن الروائيّ أراد لروايته - كما يبدو- أن يركز جهده فيها لرسم مناخات القرية وعوالمها، فإنّنا نجد أنّ كثرة الشخوص والحكايات فيها، تجعل منها "جامعَ" حكايات تلتقي كلّها لتجعل من القرية وحياتها "البطل" الرئيس للرواية، لتتحوّل "العطشانة" وأهلها إلى المركز الذي يدور الجميع حوله. وهذا يعيدنا إلى عنوان الرواية، بوصفه العتبة الأولى التي تقود القراءة وتوجّهها، فهي ليست عطشانة، بل غنيّة بحياة قاسية وعنيفة في مناخها وجغرافيّتها. ففي الأرياف السورية عمومًا يحارب الناسُ الطبيعة لاستخراج أسباب الحياة والعيش.

والقرية هنا تكاد تكون منغلقة على ذاتها، مع اسثناءات قليلة، حيث إنها تتواصل للضرورة مع القرى المجاورة، لتلبية حاجات متبادلة، وقد يذهب بعض أبنائها إلى بعض المدن مثل حلب أو دير الزور، ليبتاعوا ما يحتاجونه مما لا ينتجون، خاصة في مناسباتهم المختلفة، وبيع منتجاتهم فيها، كما يأتي إليها البائع المتجوّل الذي يحمل كل ما يعتقد أن أهل القرية في حاجة إليه، ليكون الرسول والوسيط بينهم وبين المدينة. أو حتى يغامرون بالسفر إلى بيروت  بحثًا عن العمل، كما فعل مصطفى ونجح.

ومثلما تنطوي هذه الرواية على علاقات حميمة وتعاونية بين عشائرها وعائلاتها، فهي لا تخلو من علاقات الصراع الذي يمكن أن ينفجر لأسباب شتّى، وخصوصًا الصراع على الأرض ومُلكيّتها، وانتقال هذه الملكية بوسائل تحكمها قوانين وأعرافٌ "عشائرية"، لا القوانين المدنية والمحاكم، فلا عقود سوى الموافقات بين رجال القرية، وهو ما جرى حين توفّي شخص باع جزءًا من أرضه، وقام ابنه لينكر على المشتري ذلك البيع، وتم اللجوء إلى سلطة المخفر، أحد المظاهر القليلة التابعة للدولة في القرية، ويتم سَجن المشتري لأنّه لا يملك وثيقة ملكية للأرض، ولا تُحلّ المشكلة إلّا بمصالحة بين عشيرتَي المتخاصِمَين، فالعشيرة هي الحاضرة وبقوّة أكبر من سلطة الدولة.

وفي هذا الإطار، وحين تحضر السلطة، فهي تحضر في مجالات محدودة، خصوصًا ما يتعلّق بالتبليغات الموجّهة إلى الشباب للالتحاق بالجيش عندما يصلون إلى سنّ الالتحاق بالخدمة الإلزامية، وقد تحضر حضورًا سلبيّا في منع أمر ما، كما يحدث في الحظر الرسميّ لحفر الآبار المخصصة لتجميع مياه الأمطار التي يحتاجها القرويّون حين تشحّ الأمطار. لكن هذا الحظر يمكن تجاوزه بالرشوة. عدا ذلك فإن الدولة تكاد تكون غائبة، وإن حضرت حضورًا رمزيًّا فمن خلال رئيس المخفر وبعض الشرطة، لحل مشكل استعصى حلّها على أهل القرية، وهذا نادر، كما إن هؤلاء "العساكر" تكون لهم هيبتهم، وتقدم لهم الولائم، وربّما الرشوات أيضًا (أي الفساد)، ما يجعل أهل القرية يفضّلون أن يحلّوا مشاكلهم بينهم، وأن ينأوا عن الدولة وكل ما يتعلق بها.  

أخيرًا، لعلّ المؤلّف يرى إلى عمله الروائي هذا، وهو الثاني بعد "خربة الشيخ أحمد"، على أنه محاولة لاستثمار السرد في توثيق بيئة ريفية تواجه مصائرها في الموت والرحيل بتسليم ومحبّة... واللافت أن النسخة الإلكترونية من هذه الرواية، قد حظيت بإقبال شديد حين جرى توزيعها مجّانا على موقع دار جدار التي نشرتها. ما يفتح الباب واسعًا للنشر الإلكترونيّ، في موازاة النشر الورقيّ، بل ربّما يتجاوزه انتشارًا وحضورًا.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.