}
عروض

"ليل المحطات والنجوم": رحلات إنسانية

ليندا نصار

6 أبريل 2024

في كتابه الجديد "ليل المحطات والنجوم"، الصادر حديثًا عن دار العين في القاهرة 2024، يأخذنا الشاعر سيف الرحبي إلى عوالمه الخاصة في رحلات إنسانية يمتزج فيها الواقع بالمتخيل، فيقيم في المسافة الفاصلة بين فكرتي الحياة والموت، وبينهما المحطات البشرية بأبعادها الواقعية والميتافيزيقية مع النجوم التي تمثّل مسارات تشبه الإنسان في مكان ما من اللااستقرار، وتنقله عبر المحطات إثر بحثه في هذا الفضاء الواسع المبني على الاحتمالات. ومن اليومي والحقيقي والسفر والمطارات والمحطات والقطارات، يستمد الشاعر نصوصه، فتأتي شعريته مسكونة بجدليات فلسفية إنسانية تنطلق من عوالم كونتها عزلته لتحل في كتاباته.
وسيف الرحبي، الشاعر العماني، ورئيس تحرير مجلة "نزوى"، يمدّ القراء بمقدمات المجلة الإبداعية، حيث يواكب الأحداث وتحولات العصر مبديًا نزوعه نحو عالم جميل ما زال يأمل به، ممسكًا في فكره بالحضور الإنساني، بمأساته وأفراحه، رابطًا إياه بالزمان والمكان، مفككًا تفاصيل العالم في هذه الأيام التي صارت تعد غريبة، فالحياة اختلفت، وحدثت تغييرات كثيرة للإنسان بعد اللحظات التاريخية المفصلية والتقاتل من أجل اللاشيء، خصوصًا أن المصير النهائي واحد، وهو الموت.

المسافة الفاصلة بين الحياة والموت
هذه المسافة بين الحياة والموت هي التي تحتوي على أعمال البشر، حيث الانجرار وراء مجهول الإنسانية التي تدمر نفسها شيئًا فشيئًا كأنها تعود إلى العصور المظلمة حيث التقاتل، والتي بات من الصعب عليها السير باتجاه تصاعدي نحو عالم مثالي ما دام اتجاهها تنازلي نحو الهاوية. فالإنسان هنا ينتقل إلى الضفة الأخرى في مواجهة عالم عصي على الخلاص وفهم الحقيقة إلا لمن كانت له البصيرة، وحسن التأمل والوعي. ولعل الشعراء هم أول من فهموا هذا العالم، وما زالوا يحاولون بثّ النضج عبر التعبير والكتابة بالحس الجمالي الإنساني الذي يمتلكونه في الكون اللامتناهي. وتتجلى لحظات الوعي من خلال قدرة الإنسان على تغيير العالم، إنه الوعي الذي يتكون في ذات الشاعر ويدفعه إلى الشعور بالألم ومشاركة البشر مأساتهم، وابتداع حلول مناسبة لهم.
في هذا الكتاب حضور للذات بوصفها العين المراقبة والرائية للعالم، فسيف الرحبي الذي عودنا على الابتعاد عن الرؤى الضيقة، ما زال يجول العالم ينتقي منه محطات تحاكي حالاته الذهنية وفكره ليخلص بفلسفة يطلقها من كل محطة، فلا حتمية على هذا الكوكب، ونحن في عبور مستمر بما أنّ الموت هو النهاية الوحيدة المحتمة على الإنسان كما سبق أن ذكرنا، إذًا نحن أمام عالم يفتح لغته على احتمالات الحياة بحروبها وقسوتها وسياساتها والتغييرات والتحولات الكبيرة التي تحدث لمجتمعاتها وتغيّر كل المقاييس فيها.

الشاعر والعزلة الاختيارية
يعيش الشاعر حالاته الخاصة في فضاءاته اللانهائية، فينفصل حينًا عن العالم ليتأمل في عزلته الحياتية الشعرية، حيث تحضر معه الوحدة والغربة والذاكرة في الكتابة، ويخص هنا جبال سراييفو، التي تعدّ من الأمكنة التي يذكرها كثيرًا في نصوصه. والمتأمل في تجربة سيف الرحبي ينتبه إلى ارتباط فكرة العزلة عنده بالطبيعة.




يعيش الشاعر في سفره إقامة موقتة في بيوت موقتة. لعل هذا قدر الشعراء الغرباء القريبين البعيدين عن العالم في آن، بين الناس والعزلة. وبالرغم من هذه العزلة، يميل الإنسان في هذا الوجود إلى البحث عن صفاء الروح وأسئلة الكينونة، ليشعر بذاته وبالآخر، كون الفرد يشكل جزءًا من الجماعة التي لا ينقطع عنها حتى في عوالمه الخاصة، إذ أنّها تمثّل حاجة لا غنى عنها في عزلته الشعورية والفكرية.

الكتابة والمصير
ترتبط الكتابة عند سيف الرحبي بالتفكير بالمصير الإنساني، إذ يبتدع حياة يطل منها بأفكاره وهواجسه على نهايات العالم التي ستكون عاقبتها وخيمة وسط ما تقترفه البشرية في حق بعضها بعضًا، وتعود المحطات مجددًا لتكوّن النقطة الفاصلة بين الذاكرة، بإضافة متخيلها، والحقيقة بعين شاعر يتأمل حركة الحضور والغياب، الذهاب والإياب، الانتظار والانطلاق في سفره المستمر، لتشكل الكتابة عنده مظلة تضم الأحداث وحركية الوجود وتفاعل البشر فيه.

الطفولة وذاكرة الأمكنة
لعل الحنين إلى الماضي يأخذ حيزًا مهمًّا من كتابات الشعراء، إنه الحنين إلى الطفولة، حيث يستمد الشاعر صورًا من ولديه عزان وناصر، يراقب حركتهما وألعابهما، بل تلك البراءة والدهشة اللافتة. ومن الطفولة وتمثلاتها تحضر الكتابة وعوالمها التي تتجلى بالمعرفة والنزوع نحو الحقيقة مع الأدب العالمي، حيث يتطرق الشاعر إلى قصة "الأمير الصغير"، ودهشة الأطفال وفطرتهم، ودهشة الشعر، حيث الإحساس بالحياة وتلمس السعادة الأولى فيها.
أناشيد الوجود وأسراب العصافير كل صباح على نافذة ناصر تحلق في آفاق الحرية والضفاف في مناقيرها أسماء أطفال فلسطين الذين استشهدوا في ساحة المعارك والدمار.
من العام إلى الخاص، من حروب العالم إلى حرب فلسطين، يتدرج قلم الشاعر ليكتب عن أطفال غزة والإبادة والمعاناة التي يتعرضون لها... فناصر يداهمه المرض، ويوقفه عن اللعب والحياة. هذا ما يحزن الرحبي، وهو الأكثر لعنة في حياته، ويشعره بالهشاشة والانكسار، على الرغم من أنه صمد في مواقف أكثر دموية، وأكثر قسوة، على حد تعبيره.
إشكاليات كثيرة وأسئلة عدة تنبع من هذه النصوص، فأين نحن اليوم من الحضارة، وهل حقًّا هذه هي الحضارة التي يبحث عنها إنسان اليوم وهو أمام امتحان حقيقي مرتبك من الداخل إزاء انتظار الجديد، وحذر من ناحية أخرى من أن يحل الروبوت محله؟ ترانا أمام مهزلة عالمية، حيث القضاء على الإنسان فيحل السقوط الكبير؟ وكيف يحيا الإنسان ومصيره واحد، وفي النهاية هنالك موت يلاحقه في كل محطات حياته؟ العالم الجديد الذي تطمح إليه الدول، وترى فيه حضارة جديدة بات يغزو الحضارة الحقيقية والقيم الإنسانية التي شكلتها المدنية الغربية بأشكالها، وكأن التاريخ يعيد نفسه بنفسه.
في تأملاته بقيود المكان وفضاء اللانهائي، يستحضر الشاعر أفكارًا لأمبرتو إيكو، حيث يكتب الهروب من فكرة الموت المتعب المرتبط بالنزوع نحو اللامحدود، أو ربما هو رغبة داخلية بالخلود: "نحن نعرف لأن هنالك حدًا لنا، وهو حد مذل ومثبط للهمة يدعى الموت. لهذا السبب نحن نميل إلى كل الأشياء التي نفترض أنها بلا حدود، وبالتالي لا نهاية لها. إنها وسيلة للإفلات من التفكير في الموت".

 سيف الرحبي

من الفضاء، من الطائرة ومطباتها الهوائية، يستحضر الشاعر "الأمير الصغير" لسانت دو إكزوبير، الذي عاش في المجهول مغامراته الفضائية الوجودية المبكرة التي أدت إلى كتابة الكتب ذات الحس الجمالي الإنساني العالي. وكأن الشاعر يرى المشهد مفتوحًا على المجهول، وعلى حالات إنسانية تطل على ما بعد الحياة وخطر الموت الذي يضع حدًا للإنسان، بينما الأولاد لا يدركون كل ما يحدث، إنها الطفولة، الشعور بالأمان مع الكبار. فالطفولة تواجه الخطر باللامبالاة، وهي السلاح الأقوى من أسلحة الكبار.
للأنوثة أسلحة كما الأنوثة الشاعرة وجمالها وغواياتها، وكلاهما في مواجهة المصير الحتمي للإنسان. لعلنا أمام مواجهة موقتة طالما أن الإنسان محكوم في الموت، على حد تعبير أمبرتو إيكو.
يقول الشاعر: "ألقي قصيدة هذيانية أوتوماتيكية"، تلك الأثيرة على قلوب الدادائيين والسرياليين من بعدهم. فما هو هذا الهذيان الذي يخفف الرعب عن القلوب؟ وتأتي الإجابة فيرى أن الهذيان هو صوت الداخل والأعماق، حيث يواجه الإنسان فناءه المحتم.
"الحياة دوامة أعاصير وأنت فيها الغريق الضاحك": يتحرر الشاعر من قيود الزمان والمكان بالسخرية والاستهزاء بما يحدث، لكنه ضحك موقت حول عبثية هذا العالم، فالضحكة الباكية ما إن تذهب حتى تعود مجددًا. تبقى الذكريات التي تبهت مع تقادم السنين، بالرغم من كثافتها، وكأنها تتوارى في الطبيعة.
ويعود بنا إلى رهاب الطيران في الفضاء اللامحدود. يروي لنا تفاصيل رحلة الطيران: السماعة، الصخب، المسافرون، القراءة، وكأننا أمام مشهد سينمائي، بل هو وصف الترحال الفضائي الذي يعلو الصحارى.




"نحاول ترويض الأيام الأكثر سيلانًا وهياجًا في الحياة الرتيبة الساكنة من الحياة المندفعة بالحركة والأحداث والتنوع على اختلاف مستوياته. نحاول ترويضه في حدود الممكن، بوسائل شتى، كالسفر، والقراءة والحب والكتابة والصداقة إن وجدت، الوقوف مليًّا أمام شجرة، امرأة، غابة مخضرة، أودية جافة، وجبال جرداء، كأنما هي المسودة الأولى للخلق". تبقى الكتابة الخيار الجمالي الأنسب، يكتب عن البلد الغريب الذي يتجول فيه الغرباء، وكأن الكتابة عودة إلى الأصل وسط كل التقنيات الحديثة والمدنية المهيمنة. فالكتابة محاكاة الواقع وهي تسمو بالإنسان لتشكل اعترافًا صادقًا بلحظاته الأكثر قربًا من حديقته الداخلية.
"الحياة حلبة مصارعة بالضجيج والعنف والمراهنات العبثية". يرى الكاتب أنه ليست هنالك جدوى من مراوغة الزمن، فلا خيار أمامه سوى أن يعقد تسوية موقتة مع العمر للبقاء والاستمرار قبل الضربة القاضية، وكأننا أمام عالم الحلبات والمصارعين والملاكمين، أو أمام حالة استعراضية في الميديا...
لقد صنعنا من مادة الأحلام نفسها حسب شكسبير، وعكس ذلك هو الضجيج والتقنيات المدمرة والمؤامرات التي تقتل الجماعات والأفراد والصراعات والحروب التي تقضي على جوهر الإنسان. هذا ما تفرضه ديكتاتوريات العالم. أما الشعر الذي يبني العالم فتحاول هدمه الأيادي الأخطبوطية والتقنيات التي تسعى إلى الهيمنة عليه. في نهاية الأمر، الإنسان هو العظيم الذي يُخلق لا ليهدم.
ويستحضر الكاتب عُمان، بكهوفها الكثيرة التي تحمل الغرائبية والسحر، وتأخذ الإنسان إلى عالم الغيب، لتفتح أفكاره على الحيرة والقلق والوجود والمصير.
يشير الرحبي إلى الشاعر روسو، الذي يرى الحياة السوية في ذلك الالتحام والانسجام العضوي بين الإنسان البدائي والطبيعة المحيطة، هنا عالم ما قبل الحداثة. منذ الماضي والعصور القديمة والمنصرمة كان الإنسان يتطلع إلى هذا العالم الغامض، منذ البداية قهر الوحوش في الطبيعة، وما زال يحلم بأن يكون قويًا في هذا العصر، يحلم بقيم العدالة، ويتطلع إلى دور الإنسانية في ظل العولمة وأدواتها الجديدة.
تبقى تلك الصفحة البيضاء التي تحلم بالرحيل مع الحروف والكلمات، المداد والحبر الذي تسيل روحه دمًا على بياض العالم والكلمات... يتحول معنى السفر إلى عالم من الألفة والحرية والتفلت، ينحو إلى الكتابة، لعل هذه الورقة البيضاء تضم كل شيء، هي التي احتملت التاريخ الدموي والقصص والحكايات الإنسانية.

ذاكرة الصداقات واللقاءات
يكتب سيف الرحبي عن معرض مسقط، ويتذكر لقاءاته وأنشطته. كذلك يتذكر زيارته للجزائر، ولقاء محمد بن سنجور، ويستعيد ملامح من سيرته، منذ أن كان طالبًا يقرأ الشعر متحدثًا عن طبيعة بلاده ليمزج المصائر والكينونات والكتابة معرجًا على ثورة التحرير الجزائرية واللقاءات والأنشطة، حيث تشكل الذاكرة في اختياراتها عالمًا آخر.
عنوان "يأس مضيء... حزن مقيم" يأخذه الكاتب من إحدى قصص بورخيس، ربما اليوم المضيء يشبه الجوهر، أو الحلم والذكرى المضيئة، والعدم المشع بالحقيقة، هكذا يفسر العنوان، وكأنه يبحث عن لقاء وسط الغياب وذاكرته تتأمل على وقع حركة الطائر اليومية، وارتفاع صوت المؤذن في المسجد المجاور، حيث الطبيعة المضيئة. في المقابل، يعبّر عن اشمئزازه من العالم وسواده، والعمران المدمر، وضياع النبل الإنساني، والذبح والتقاتل، والسجالات والعنف، والدول والأنظمة الفاسدة، وكأنه يبحث في زمن بعيد من الطفولة التي صارت في عالم النسيان.
في مكان آخر، يكتب في رحيل الدكتور المقالح وتاريخ اليمن: "يرحل عنا الضوء الكاشف، والأب الشاعر الأكاديمي، بمعرفته الشمولية التي سخرها جسدًا وروحًا في سبيل اليمن ومحيطه العربي المنكوب"... فيتذكر جلساته معه في صنعاء، والأصدقاء، وضيافاته، وحضوره الأبوي.

سحر اللغة
لا يخفى ما للغة من سحر يطاوع الشاعر، ليعبر عن رغباته في الحب والسعادة والحياة للتخفيف من هاجس المصير الحتمي، فهذه اللغة القريبة البعيدة تحول المعاني، وتستدعي الانزياحات التي تسير مع القارئ، وتدعوه إلى التفاعل مع جماليتها، وتسعف الأفق الشعري المغاير لدى الكاتب، فسيف الرحبي الأديب القادر على تحرير اللغة من معنى التعيين والمعنى الآني للكلمات يملك سلطة الانتقال مباشرة إلى بث لغة خاصة بشعريتها ومعانيها، للتعبير عن الرؤى والهواجس والأفكار المستمدة من واقع الأحداث، ويوميات الوجود، فتصبح اللغة مسكنه وملاذه الإبداعي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.