}
عروض

"قطط تعوي وكلاب تموء": عن الفانتازيا والغرابة المُقلقة

نجاة علي

9 أبريل 2024


لطالما تصورتُ أن الفانتازيا - باعتبارها أكثر الأشكال القصصية قربًا من الشعر - حاملة للشعرية بما تبدعه من صور واستعارات، "فالفانتازيا هي مجاوزة "مرجعية" والشعر مجاوزة "لغوية" إحداهما تُغيِّر الأشياء والآخر يغيِّر الكلمات".

ربما ما جعلني أعيد التفكير في هذه المقولات هو مطالعتي للمجموعة القصصية اللافتة "قطط تعوي وكلاب تموء" التي صدرتْ مؤخرًا عن دار الشروق بالقاهرة للكاتب المصري أحمد عبد المنعم رمضان، والذي أصدر من قبل روايتين: "رائحة مولانا" و"رسائل سبتمبر"، ومجموعتين قصصيتين. 

ربما عنوان المجموعة نفسه قد يدلنا على عالمها المليء بالمفارقات والتناقضات؛ حيث الكلاب تموء بدلًا من أن تعوي، والقطط تعوي بدلًا من أن تموء. فكأنما أراد الكاتب أن يلفت انتباهنا إلى أن هناك نوعًا من العبث أو اللامنطق يسود العالم الذي يسرد حكاياته الممتزجة بالغرائبية. والذي بات عالمًا أشبه بالغابة في توحشه؛ لذا تتواتر إدانته بشكل ملحوظ بين ثنايا القصص، وهذا ما تؤكده العبارات التي اختارها الكاتب من رواية "العمى" للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو لتصدير القسم الثاني في هذه المجموعة: "إن كنا غير قادرين على العيش ككائنات بشرية، فدعونا على الأقل نفعل كل ما بوسعنا كي لا نعيش كحيوانات تمامًا".

وسوف نكتشف أن الراوي، وهو أول شيء تقع عليه عين القارئ، يعاني من حالة اغتراب واضحة، وبدا كما لو أنه يحاول من خلال فعل الكتابة إيجاد حائط يشعره بالأمان، يختبئ خلفه ليتمكن من مراقبة العالم من دون خوف.

وهو ما قد نلحظه مثلًا في قصة "تلصص" التي ربما تكون خير تمثيل لحالة العزلة التي أشرتُ إليها، من خلال تأمل وضعية الراوي في السرد الذي يكتفي منذ أن كان طفلًا بمراقبة العالم من مسافة عبر نافذته، دون الانخراط في أية علاقة حقيقية مع الآخرين، سواء كانت علاقات حب أو صداقة أو غيرها.

وعبر الحكي يحدث نوع أيضًا من "الفرجة" على الذات نفسها، التي تبدو منسحبة بعيدًا، ومن ثم تصير الكتابة هنا هي الجسر الذي تعبره الذات لمقاومة هذا الاغتراب الذي أفضى تدريجيًا إلى حالة من العزلة وافتقاد القدرة على التواصل مع الآخر.

تجدر الإشارة هنا إلى أن حضور الشخصيات في القصص يكاد يكون حضورًا طيفيّا، غير مكتمل الملامح، بالإضافة إلى ندرة الحوارات معها، مما يعكس حالة من التباعد والانفصال بين الراوي والعالم، فالحياة التي يحياها الراوي تكاد تخلو من أي معنى أو قيمة، حتى إن أعظم مهمة يقوم بها في حياته، هي انتظار موعد جامع القمامة يوم الثلاثاء من كل أسبوع:

"كان التلصص هوايتي أنا أيضًا، ولكن في طفولتي المبكرة، كنت أقف خلف النافذة لساعات، أراقب الحركة في الشارع، أصيخ السمع إلى الأحاديث الجارية هنا وهناك، كنا نسكن في الدور الأول مما سمح لي بالتقاط العديد من الحوارات، وسهل لي مراقبة النظرات المتبادلة بين المارة والسكان، في بعض ساعات اليوم كان الشارع يخلو تمامًا من أي حضور، فأستغرق في تأمل الملابس المتطايرة فوق أحبال الغسيل حتى إنني تخيلتُ سكان بعض البنايات، وإن كنت لا أعرفهم، تخيلتهم فقط من خلال أحبال الغسيل".

ولو أننا أمعنا النظر قليلًا، سنلاحظ أيضًا أن ثمة تداخلًا بين المفارقة التي ينبني عليها السرد والفانتازي في قصص هذه المجموعة، هذا التداخل الذي تحدثت عنه الناقدة نانسي والكر (Nancy A.Waller) في كتابها "خيارات نسائية" Feminist Alternatives بشكل أكثر تفصيلًا حيث تُقرن بين المفارقة والفانتازيا باعتبارهما طريقة فى السرد، يتداخلان معًا ومع اللغة بطريقة معقدة، مما يدفع القارئ إلى مساءلة المقولة التي يقدمها الكاتب أو المؤلف، أو تلك التي ترد على لسان الشخصية في النص. وتكون المفارقة الأعمق هي مفارقة "الموقف" أو "الحدث" التى تتطلب أن يخلق الكاتب سياقًا يكون فيه الغموض محتملًا، وبنية لغوية تومئ إلى موضوع ينطلق منه الكاتب، بغض النظر عن الطريقة التى صور بها الواقع.

وإذا ما تأملنا القسم الأول من المجموعة، وهي تحمل عنوان "حيوانات المدينة"، سوف نلاحظ أن ثمة حضورًا فانتازيًّا لعدد من الحيوانات مثل: القرد والقط والثور والخنزير والببغاء والأسد وغيرها، تكون بمثابة عناصر أساسية في الحدث الفانتازي الذي يُروى في القصة.

ففي قصة "حريق القاهرة" مثلًا نجدها تتخذ منحى عجائبيًا، حين يقرر الراوي الذهاب إلى وسط المدينة، لعله يلقى حبيبته الغائبة منذ فترة، وهناك يصادف قردًا ضخمًا أثناء مروره بالشارع، والشيء اللافت حقًا أن يبدو هذا الحدث عاديًا لا يثير دهشة أحد، لا المارة ولا الراوي نفسه، هذا المشهد الغرائبي يتداخل مع مشهد آخر، حيث المقهى والدخان الذي يتصاعد من حريق شبّ وامتد الدخان إلى مكان الراوي الذي يتبادل الشتائم مع المارة. ولم ينزعج أحد من الدخان سوى القرد الذي شعر بالاختناق. ويبدو الحدث في غرائبيته أقرب إلى الأحلام منه إلى الواقع، خاصة أن الأمر ينتهي بالراوي حاملًا حبيبته فوق كتفه ممسكًا بيده القرد الضخم:

"تعلق القرد بساقي وأشار بيده إلى اليمين، ساقني خلفه في اتجاهات متعرجة بين بنايات وسط البلد العتيقة، بدا وأنه يعرف خريطتها جيدًا، لا أعلم لماذا تبعته دون سؤال، ترددت نظراتي بين جسده كثيف الشعر والمارة غير المنتبهين، أشار إلى مقهى بأحد الشوارع الجانبية، قفز فوق أحد الكراسي الخشبية، ودعاني لأجلس إلى جواره، صفق فأتى لنا القهوجي الذي لم يبد استغرابًا، مثله مثل كل من رأونا اليوم، طلب منه القرد بمودة تليق بزبون معتاد أن يأتينا بكوبين من الشاي، سكر برة".

ولعل السرد يفاجئنا في هذه القصة تحديدًا بأنه ينحو في اتجاه محو المسافة بين الكاتب (الذي هو من "لحم ودم") وبين الراوي (الذي هو "كيان ورقي متخيل")، وذلك لتمرير نوع من السخرية أو التهكم من حال الحكام المستبدين وأوهامهم التي يُصدرونها لنا على مر العصور، ويحاولون إقناعنا بأن أحلامهم منزلة وتشبه منامات الأنبياء في صدق تحققها:

"كنت أصدق أحلامي، رئيسنا يصدق أحلامه، الجميع هنا يصدقون أحلامهم، ولكن قليل فقط من تتحقق لهم الأحلام. نصحني أحدهم ذات مرة بأن أتوقف عن تصديق مناماتي، حيث إنني لست نبيًا أو قديسًا كي تتحقق لي، أجبته بأن أحلام عزيز مصر التي فسرها يوسف قد تحققت رغم كفره، فقال لي إن عزيز مصر كان حاكمًا، وأحلام الحكام تتحقق".

ولا تأتي أهمية استخدام العنصر الفانتازي أو العجائبي فى هذه المجموعة القصصية في اتخاذه حيلة لتمرير خطاب معين للإفلات من سلطة الرقابة أحيانًا، بل تأتي أهميته من خلال محاولته التواصل مع القضايا والأسئلة الوجودية العميقة التي تشغل الإنسان عن معنى وجوده، فيضع بذلك كل الأشياء موضع السؤال والشك؛ إذ إنه يحمل فى طياته سؤالًا جماليًا عن الطريقة التي يُستخدم بها، كشكل تعبيري، يمكننا عبره تفسير تجربة الكائن وتحطيم الرتابة التي هيمنتْ على ذائقة القارئ طويلًا. ولا يتحقق ذلك إلا عبر خلق غرابة مقلقة، وقدرة على النفاذ إلى الذاكرة وتفتيتها إلى ذرات مرتبكة.

والاتجاه إلى الكتابة الفانتازية في هذه المجموعة القصصية أيضًا لا يعني بالضرورة أن الكاتب قد ابتعد عن الواقع، بل ربما ازداد اقترابًا منه، فهذه القصص هى أكثر واقعية من الأشياء التي تمثلها؛ إذ قد يتضمن العمل الخيالي – مثلما يرى بول ريكور مثلًا - عالمًا كاملًا معروضًا أمامنا: "يُكثِّف الواقع ويُجمِّع ملامحه الجوهرية في بنية مركزة أو عمل".

وقد ينتبه القارئ إلى أن هناك قصصًا قصيرة في هذه المجموعة تتمثل ملامح جمالها في عالمها الداخلي وأخرى في نمطية سردها، وأن التكنيك السينمائي حاضر بقوة في وعي السارد، مع مراعاة أن السينما تختلف عن قيمة السرد القصصي في الوسيلة المستخدمة، فالسرد القصصي يتم من خلال الكلمات: "إنه يصور ما لا يُرى"، كما يقول بروست. أما في السينما فإنه يستخدم الصور السينمائية، فهو "لا يبني لنا الفكر الصامت، بل يوضح لنا ما يرى".

إن كلًا من السينما والقصة تتفقان في السرد؛ الفيلم بصوره المركبة والقصة القصيرة بالكلمات والجمل، ومونتاج الفيلم يساوي العلاقات النحوية في جمل القصة، والمخرج السينمائي يقوم باختيار وانتقاء وتنظيم الصور، وهي نفس درجة الحرية التي يمارسها الراوي عند سبك الجمل، وفي كلا الفنين نجد أنفسنا- نحن المشاهدين أو القرَّاء- أننا نتابع سلسلة من الأحداث.

وقد لا يتم الإعلان دومًا عن الاستعارات التي تُؤخذ من السينما لكن تكفي بعض الإشارات حتى نعرف أن الراوي فكر في السينما، فالقصة تشبه الكاميرا المتحركة فتبين لنا العالم المتخيل الذي نراه على الشاشة، وكذا في الصالة الفعلية للسينما وردود أفعال الإنسان الذي قام بالتمثيل وتحول بسرعة إلى مشاهد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.