إنما ما الذي تكتبه عزة ويستحق منا أن ننفق وقتًا في قراءته؟ الرواية تشبه سيرة ذاتية ظرفية، حتى لو كانت أحداثها متخيلة، فهذا لا يجعلها من أعمال الخيال. إنها سيرة ذاتية، وحين يحدث أن يمر فيها عمل من أعمال الخيال فهو يشبه مبرراتنا التي نسوقها حيال ما أتيناه في عيشنا: أحببت هذه الفتاة للأسباب التالية التي تسمح لي أن أخالف المتوقع مني. وأفضل هذا الطبق على الطبق الآخر، للأسباب التي أشرحها لجلسائي، والتي لا تمنعهم من أن يفضلوا أطباقهم الخاصة على أطباقي، ثم لا تستثيرهم آرائي في الأطعمة والمذاقات. أحب فيروز، وهذا لا يعني أن كل الناس يجب أن تحبها، في وسع أي كان أن يكرهها، فهذا لا يستفزني.
لكن هذا كله، أيضًا، لا يفسر كرم القراء في بذل أوقاتهم لقراءتها. كل جار من جيراني يملك قصته التي تستحق أن تروى، لكنني لا أمنحه وقتًا لإخباري بها. كل شخص أصادفه لديه كثير ليقوله، ويحتاج لأن يقوله، لكنني أصرفه بنظرة زاجرة. المتسولون في الشارع يحملون لافتات كتبوا عليها ما يفترض أن يوحي لي أن النظام هو ما جعلهم ينحدرون إلى ما هم عليه الآن، وأنني لست في منجىً من آثاره الخطيرة. مع ذلك، يندر أن يثيرني هذا الخطاب، لأنه مكرر، ويشبه أن يضع شخص ميكروفونًا أمام فمك، وكاميرا أمام عينيك، ويسألك رأيك بدونالد ترامب، في اللحظة التي كنت تعتزم فيها أن تصل إلى منزلك بأسرع ما يمكن لتغتسل. لن تحاول في هذه اللحظة أن تفكر، ستقول ما هو شائع وعام، أو تطلق شتيمتك المدوية في وجه السائل وموضوع السؤال.
سيرة عزة لا تقع في هذا الموقع. إنها سيرة جيل كامل من النساء والرجال، جيل قُطعت له وعود لا تحصى، ولم ينل أيًا منها. عزة في هذه الرواية شابة تتسامح مع كثير من الأمور التي لم تكن النساء في الأجيال التي سبقتها تتسامح معها، وتتشدد حيال أمور أخرى كانت نساء الأجيال السابقة تتساهل معها. وككل مصدق للوعود التي حفلت بها عقودنا الأخيرة، كانت تحسب أن المواظبة على السير في هذا الممر الضيق يمكن أن يوصلها إلى ما تصبو إليه. لكن الحياة ليست بهذه البراءة. فجأة يجد الزوجان الفتيان نفسيهما في مواجهة حرب لا تبقي ولا تذر، تطاول شظاياها الدامية أهل الزوج. هكذا يجدر بالزوجين اللذين يكادان ينجحان في تلمس طريقهما المشترك أن يضيفا عبئًا على حياتهما، يتمثل في رعاية أهل الزوج، أو لنقل التضامن اليومي مع مصيبتهما. وفجأة، أيضًا، تجد الزوجة نفسها في مواجهة مرض والدتها، وهذا عبء إضافي يضاف على كاهلهما الغض.
ما سبق يندرج ضمن إطار الأحداث الجليلة التي ضربت حياة الزوجين. ثمة في الخلفية أحداث أخرى لا تقل ثقلًا. بلد، يعيشان فيه، يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، كما لفظ بلد الزوج أنفاسه من قبل. تدبير المعيشة يغدو أصعب فأصعب يومًا بعد يوم. فردان يعتنقان أفكارًا مرشدة، ويحاولان الوفاء بها ولها ما أمكنهما، في محيط يتحول يومًا بعد يوم إلى محيط أكثر تعصبًا وتشددًا وعنفًا. في ظل هذه الأحوال، وفي عتمتها، ما الذي يمكن أن يفعله فرد صدق أن المستقبل واعد، وأن الحياة قابلة للتدبر؟
قراء عزة طويل لا بد وأنهم واجهوا مصاعب تشبه تلك التي واجهتها في سيرتها الذاتية، وكلهم ظنوا أن الحياة تمسح آلام الماضي، وأنهم تجاوزوها إلى غير رجعة. لكن رواية عزة تذكرهم بأن جروحهم ما زالت مفتوحة، وأن العالم ما زال سكينًا يحفر في أجسادهم على نحو لا يكل ولا يمل.
مع ذلك، تصل عزة إلى خلاصة تقول: "لا شيء أسود بالكامل". وهذا أمر أكيد. في وسعنا أن نعتني بشجرة، أو ضفة نهر. لكن فرجات البياض هذه التي تلوح بين وقت وآخر في حيواتنا لا تني تؤكد أن القماشة كلها سوداء، ولو تخللتها بعض الثقوب.
عزة طويل تكتب هذا الإحباط لتتجاوزه. والأرجح أنها تجاوزته. وحين فعلت ذلك، لم تنس الآلام التي اختبرتها، ولا الصعوبات التي واجهتها. كل ما في الأمر أنها نجحت في تحمل عواقبها، والاستعداد لما قد يأتي. لهذا تبدو الرواية مرشدًا ودليلًا لمن سبقها ومن عاصرها، على حد سواء. رواية تقول العالم المعاصر من وجهة نظر شخصية. وحيث أن العالم قاس وجاف وغير مرحب بالمحادثات، فإنها تستعيض عنه بالناس ــ القراء الذين يشعرون أن العالم قاس وجاف، وغير مرحب بالمحادثات أيضًا.