}
عروض

"دائرة التوابل": لأمرٍ ما جدعت صالحة عبيد أنفَ شمّا

باسم سليمان

26 يونيو 2024


تعدّ رواية "البحث عن الزمن المفقود" للروائي الفرنسي مارسيل بروست بمنزلة حجر العقد في أدبيات الرائحة، فعبر رائحة ومذاق ملعقة من الشاي والكعك، انفتح الماضي على مصراعيه عبر تدفّق حرّ أمام بروست. لقد كان السؤال المضني بالنسبة لبروست: أين يذهب الزمن؟ مجابًا عليه من خلال الرائحة المرتبطة بالذاكرة العشوائية والعرضية للعقل البشري، فهناك يختبئ ما مضى من العمر والتاريخ. هذه الفكرة أصبحت تُعرف بأثر بروست، حيث أكّد العلم الترابط التواشجي بين الرائحة والذاكرة. 

من أثر بروست تنشئ الروائية الإماراتية صالحة عبيد روايتها "دائرة التوابل" الصادرة عن دار المتوسط لعام 2022 والتي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر عام 2024. وهذه الرواية تعتبر من أدبيات الرائحة بحق، حيث ظلّت أكثرية السرود العربية الحديثة، التي تتناول الرائحة تقف على العتبات، إلّا إنّها مع عبيد دخلت فيرومونات الرائحة، لتفكّك علاقات السلطة والعبودية والعنصرية والتراتبية الهرمية بين الذكر والأنثى المضمرة في المجتمع العربي. ولأنّ الرائحة تحلّل موضوعاتها بالإضافة إلى ذاتها، كما ذهب كل من ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو في تفريقهما بين الرؤية والشّم، ففي الأولى يبقى المرء نفسه، وفي الثانية فإنّه يتحلّل. هكذا نجد الفتاة الصغيرة شيريهان مهووسة بالحفر عند سور المقبرة القديمة قبل أن تجتاح العمارة الحديثة سواحل الإمارات، تحدوها رائحة تشتمها من ثنايا المكان وخفايا جينات ذاكرتها. لا تدرك شيريهان كنه هذا الدافع الغريب لمجاورة الموتى. والأحرى الرغبة الشديدة لدخول عوالم الغيب، على الرغم من تلمّظها لطعم سؤال مجهول، لا تعرف مفرادته أكانت: (لماذا، كيف، ماذا، متى...) إلا أنّها تستشعر جوابًا غريبًا، يتبدى نفورًا مسعورًا من الرائحة الحامضة لأبيها وأخيها، واستكانتها قرب رائحة أمها!

الرائحة آلة سفر في الزمن

تبدأ صالحة عبيد روايتها بمشهدية شعرية تسلط الضوء على الطفل عبد الله ابن المعتز الهارب من رائحة الدم، التي تعصف بالأسرة العباسية، فقد قتل جده الخليفة المتوكّل بعد أربعين يومًا من ولادته، واقتيد أبوه المعتز إلى السجن، وعندما خرج، أطاح برأس أخيه، إلى أن تسلّم الشاعر ابن المعتز الخلافة ليوم واحد واغتيل على يد مؤنس خادم الخليفة المقتدر. هذا هو التاريخ الذي لا يلحظ سير الأفراد العاديين، لكنّه يعطي عبرة، فلو ظل ابن المعتز ينظم الشعر بدلًا من أن تأخذه نار الثأر إلى الخلافة وإلى حتفه، لكانت شيريهان نجت من أن تكون قاتلة طفلتها التي ولدت بأنف أفطس وبلا رائحة.

عندما ولدت شيريهان سُمّيت باسم صاحبة الفوازير في رمضان الممثلة شيريهان، لربما تشابه الأسماء ينحت مع الوقت أنف شيريهان الأفطس، ليصبح أنفها مستقيمًا مستدقًا كأنوف عائلة الجدّ عبد الجبار، تاجر التوابل الكبير الذي كانت سفنه تجوب سواحل الهند وتجلب القرنفل والهيل والفلفل والقرفة، لكن العرق دساس، كما قالت الجدة بغضب، مستذكرة شمّا، وذلك عندما سألت الطفلة شيريهان عن ضرورة زيارة تربة العم راشد الذي مات إثر حادث سير في بلاد الغربة، فزيارة النساء للمقابر محرّمة. وكأنّ شيريهان تعيد بخرقها المحظورات ما فعلته شمّا في الماضي. لقد كانت شيريهان تمنّي نفسها أن تزور قبر عمّها لتحظى بالولوج إلى المقبرة، لربما تجد جوابًا للسؤال المجهول الذي يراودها. لكن من هي شمّا؟

ولدت شمّا في العشرينات من هذا القرن بعد مخاض صعب. ولولا أن عطست أمّها لظلّت في بطنها. إذًا شمّا الصغيرة تكاد أن تكون ابنة الأنف أي الرائحة، ولأنّ لكلّ شخص من اسمه نصيب كانت لها حاسة شمّ خارقة، فسريعًا أخذت الطفلة شمّا موقعها في عائلة الجد عبد الجبار كاسرة بميزتها تلك التراتبية التي تفصل بين الذكور والنساء، حيث اعتمدها جدها كميزان ذهب لتميز بين جيد التوابل ورديئها. وكيف لا يكون ذلك وهي من تتنسم رائحة التوابل وعرق البحارة قبل وصول السفن بأسابيع، فتطمئن أهل الديرة بعودة أبنائهم وتجارتهم بخير. في الخلفية من حكاية شمّا نمت كالفطر حكاية أخيها عزيز، الذي جُبّ وجوده ما إن ظهرت مميزات شمّا ذات الأنف الأفطس الذي يغاير أنوف العائلة المستقيمة المستدقة التي لا تكاد تستطيع الشم. كذلك كان لعزيز نصيب من اسمه، فهو لا يسمح للروائح أن تتخلّله، بل ينفر منها حتى قيل إن جنية اصطفته لذاتها، فعزّته عن الاختلاط بعمل العائلة على الرغم من محاولاته التي كانت تفشل دومًا، مما أدّى لإبعاده نهائيًا عن عمل العائلة في تجارة التوابل وتسنم شمّا هذا الأمر، مع أنّها ظلّت على اليابسة تتوق إلى أن تبحر إلى مواطن التوابل.

كان لشمّا رأس كبير قليلًا رأى فيه (عبود بو راسين) مواساة له وهو المنبوذ دومًا من قبل مجايليه من الصبيان، لكبر رأسه حتى تكاد رقبته أن تتقصف تحت ثقله، لذلك كان يتعمّد أن تتقاطع طرقه في السوق مع شمّا، تلك الفتاة التي بسبب موهبتها في الشم لم تحبس خلف الجدران تنتظر زوج المستقبل، حتى أنّها أصبحت دمغة على جودة التوابل فقد كان يقال لقد شمّت (البزار). بطريقة أو أخرى نمت صداقة أو استلطاف بين شمّا وعبود بو راسين.

الحاضر المهزلة

يقول ماركس إن التاريخ يعيد ذاته مرتين: الأولى كمأساة والثانية كمهزلة، لكن مع شيريهان تكون الثانية: جريمة! عندما ضغط التاريخ المضمر على الطفلة شيريهان، كذلك فعل بناصر صاحب الرأس الكبير المنبوذ من قبل أقرانه والذي انجذب كبرادة الحديد إلى مغناطيس تلك الطفلة المولعة بالحفر قرب سور المقبرة. لم تبعده عنها، على الرغم من نفورها من حيادية رائحته، والأحرى كان بلا رائحة. في النيغاتيف القديم لصورة الحاضر الذي جمعت كل من شيريهان وناصر كانت تلوح صورة شمّا وعبود بو راسين.

نما حقد عزيز على أخته شمّا، ورأى في أنفها الأفطس ميزان الذهب لرائحة التوابل العقدة الكأداء التي يجب اجتثاثها. وفي ليلة مقمرة على شطّ البحر يجدع أنفها ويهرب. تعيش شمّا بأنف مجدوع وتتضاءل إلى أن تصبح حبة رمل منسية. وعلى الرغم من أنّ أنفها الذهبي قد غدا عبارة عن فتحتين من العظم، ظلّ عبود بو راسين على وعده بالزواج منها. لكن للأقدار كلمة أخرى، فتصاب القرية بجائحة الجدري ويتساقط أهلوها صرعى المرض. ويأتي الدور على عبود بو راسين فينتبذ لنفسه في الرمل قبرًا كما فعل غيره من المصابين بعيدًا عن القرية ينتظرون حتفهم أو نجاتهم. تغادر شمّا بيت أهلها وتلحق بمقبرة المرضى الأحياء تحاول ترميم رؤوسهم بالرمل الرطب وعندما تسمع لغط الأهالي متّجهين إلى المقبرة بعد أن جيء باللقاح من قبل الإنكليز، تتبيّن بين الأصوات نبرة أخيها عزيز، فتتجه إلى البحر ليكون لحدها ورحلتها المشتهاة.

تجتذب رائحة الموت شيريهان لتدرس الطب الشرعي في إدنبره، عاصمة اسكتلندا، وهناك في مقبرة بلا سور تقرأ أبيات شعر على شاهدة قبر لابن المعتز. تأتيها الأخبار بوفاة أبيها، لكن قبلًا كانت قد تزوّجت من ناصر، لا لعلاقة استمرت بينهما بعد لعب الطفولة، وإنّما لرغبة دفينة بأن تستكمل عودة التاريخ. تعود إلى الإمارات، لتخوض معركة السرطان الذي نال من أمّها. ولأنّ مرض الموت آخر الخطوات في الحياة تكشف أمها عن صندوق عتيق يحمل بين طياته صورة عمّها راشد وسؤالًا عن طفل ما! كان أخوها أحمد أكثر شبهًا بعمّها راشد من أبيها، وكانت أمّها تطفو فوق رفض عائلة عبد الجبار لها، إلى أن مات راشد، فبدأت تجفّ كمسمار القرنفل تبث رائحة لم تتكشف لشيريهان، إلّا عندما اشتمت من أمّها رائحة المقبرة حيث دفن عمّها راشد. في تلك الأثناء أصبحت شيريهان حاملًا من ناصر وتمضي الأشهر التسعة وتنجب ابنة لها أنفها الأفطس إلى جانب أنّها معدومة الرائحة.

أثر الحكاية

يقال إنّ فاطمة بنت ثابت رأت الخادم مؤنس يقتل الخليفة الشاعر ابن المعتز، فهربت، لكن رائحة ثقيلة بدأت تطبق على المدينة إلى أن ترى حلمًا يأمرها فيه الخليفة المغدور أن تخرج جثته من القبر وترميها في مياه دجلة وسيهبها ميزة ستغني سلالتها. وهذا ما كان، فانجلت تلك الرائحة الغريبة عن المدينة وعادت حاسة الشم إلى فاطمة التي خسرتها بعدما صفعها أخوها إثر علمه بمراسلتها للعبد نجوان الذي كان يملك ذاكرة كبيرة ورأسًا كبيرًا يجمع فيه علوم عصره. ويحكى أنّ مالك العبد أعتقه إكرامًا لمواهبه في الحفظ، فتغادر فاطمة مع حبيبها نجوان إلى شبه الجزيرة العربية ليؤسسا سلالة من تجار التوابل. تمتد يد شيريهان إلى شفرة حدّها يكاد يجرح الهواء لتفسر الحلم الذي رأت فيه طفلة مجدوعة الأنف تطالبها بأن تمنحها أنفها ومن ثم تجدع أنف طفلتها.

في لوحة لرامبرانت عنوانها "درس التشريح" تقف مجموعة من الأطباء والسادة في ثيابهم الرسمية لمشاهدة تشريح جثة. وفي ذلك الزمن كان تشريح جثة الإنسان يعتبر عملًا خطيرًا ومحرمًا، ولكنّ هذا الأمر المحرّم كان أول خطوات الحداثة التي بنت أوروبا عليها نهضتها، كما يذهب ريجيس دوبريه في كتابه "حياة الصورة وموتها". تذكرت شيريهان ذلك وهي تقف أمام طاولة التشريح فيما يُعمل دكتور التشريح مبضعه في الجسد الميت. وهذا ما حاكته الروائية صالحة عبيد، فهي في مقاربتها لتاريخ العبودية في الخليج العربي والتراتبية الهرمية في المجتمع التي تقصي الأنوثة لصالح الذكورة إلى جانب صراع الأنوف حيث لكلّ جنس من البشر أنفه المميز ولونه، لذلك كانت كقصير في التراث الذي جدع أنفه!

لا تفصح صالحة عبيد عن مقاصد روايتها بسهولة! ليس لأنّها لا تريد أن تجعل العين في مقابل المخرز، بل لأنّها ترى تكاملًا بين العين والمخرز يجمعهما خيط التاريخ الذي يجب أن تفكّ عراه ويشرّح ويخاط ويكتب من جديد، لعلّ ابن المعتز يرفض الخلافة وينتصر لشعره. ولعل فاطمة ونجوان يؤسسان لسلالتهما في سامراء. ولعل شمّا تبحر على متن سفينة شراعية إلى جزر التوابل كالسندباد. ولعلّ أمّها تكون زوجة للعم راشد بدلًا من أبيها. ولعل أحمد يكتشف، وإن مجازًا، بأنّ أباه هو عمّه! فالأنثى تخصب بويضتها من أحلامها. ولعل...! 

"دائرة التوابل" رواية مكتوبة بنفس شعري مقتدية بروح الشاعر ابن المعتز، كما الأطعمة تصبح أشهى عندما ننثر عليها ذرات الهيل والقرنفل والقرفة. وتقوم على ثلاثة خطوط زمنية: يسرد الأول منها تاريخ ابن المعتز، أو العطب الذي أصاب الحضارة العربية بعد ضعف الخلافة العباسية. والثاني في بداية القرن الماضي حيث ولد الحاضر مع جدع أنف شمّا. أمّا الثالث فهو حاسة شمّ شيريهان التي عبرت بها المسافة بين الحاضر والذاكرة والتاريخ؛ فالمسافة مشتقّة من كلمة (ساف) والتي تعني شمّ، فقد كان البدوي إن ضل طريقه في البداية يشتم التربة، فيعرف أين مكانه وإلى أين يتجه. قال أحد الطباخين ردًا على أفلاطون الذي عاب اهتمام الناس بالأكل وأنواعه كما جاء في كتاب "الطبخ في الحضارات القديمة" لكاثي ك. كوفمان: "بسبب المتع التي ظللت أتحدث عنها، كفّ الكلّ عن التهام جثة، وقرّروا أن يعيش بعضهم مع بعض، وتجمّع الناس وسكنوا المدن، وكلّ ذلك بسبب فنّ الطاهي، كما أسميه". استطاعت صالحة عبيد عبر ثيمة الرائحة إعادة قراءة التاريخ الذي صنع حاضرنا، مع أنّ حاسة الشم كانت مزدراة في تاريخ الفلسفة والفكر عبر التاريخ. وكما ولدت النهضة الأوروبية من تشريح جثة؛ كان على شيريهان أن تصبح طبيبة تشريح، لتكسر دائرة التوابل من فاطمة ونجوان، مرورًا بشمّا، وصولًا إليها، لعلّ سؤالًا يُطرح وجوابًا حقيقيًا يُولد.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.